الخميس، 2 يونيو 2011

عبدالله الزنتاني : الصّبرَ ..الصّبرَ فبه يُستنزَل النّصر ويُستعجَل الظّفَر




بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وهو للحمد أهل، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والرسل، وعلى آله وصحبه السادة النُّبل، أما بعد:

فما أحوج الإنسان عند نزول البلاء وحصول المحنة، وعِظَم الخطوب واشتداد الكروب، إلى ما يخفّف عنه وطأة القسوة، ويخفّف عنه شدّة المعاناة، ويستعين به على صلاح أمره، وتنفيس كربته، وتفريج همه!

والمسلم لا يجد جانباً أعزّ! ولا ركناً أشدّ! ولا قوة أوثق! من جانب الرب وركنه وقوته!، فالله هو مقدّر الأمور ومصرّفها، وهو الذي يقضي بالخيرة لعباده، فإلى الله -دون غيره- تَحْسُن الشكوى، وبين يديه يَجْمُل إظهار الفاقة والمسكنة، والجود بالدّموع الحارّة والعبرات الجيّاشة، ومن عنده يستنزل النصر بكلّ وسيلة مشروعة، بدعائه ورجائه وتملقه وتقديم القرابين بين يدي مناجاته.

وقد شرع الله لخلقه عبادتين عظيمتين؛ هما عونٌ لكلّ مستعين، والتمسك بهما هو الماء القَراح الْمَعين؛ الذي من ورده ونهل منه اشتفى واكتفى، ورزِق الهدى، ووُقي الأذى، ألا وهما الصبر والصلاة.



يقول الله جلّ في علاه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) جمع الله بينهما لمن أعوزه العون، واجتاحته الجوائح فأرهقته، وقد جمع بينهما في أكثر من موطن، ورتّب عليهما مع الأجر الجزيل المعيّةَ الخاصة منه جلّ في علاه، وهي منتهى آمال السائلين، وغاية مطالب العاملين، وقد بدا لي أن أكتب كلمةً حول الصبر، عسى أن تكون فيها فائدة وتذكرة لمذّكّر، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى الذكرى بمثل هذه العبادة، ثم أتبعها إن شاء الله بالكلام عن الصلاة وأهميتها في الثبات في المحن، وعند نزول المصائب.

فالصّبر هو نصف الإيمان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه([1])، لأن القيام بفرائض الدين لا يتم إلا بالصبر عليها، وتجنبُ المعاصي لا يقع إلا بحبس النفس على تركها وهجرها، ولهذا والله أعلم قُدِّم الصبر على الصلاة في الآيتين، لأن الصلاة وإن كانت عمود الدين كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم([2]) فهي لا تتمّ إلا بالمبالغة في الصبر على أدائها، وهو الاصطبار المذكور في قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).

قال محمّد بن نصر المروزيّ: ((وإنما بدأ بالصبر قبلها لأن الإيمان وجميع الفرائض والنوافل من الصلاة وغيرها لا تتمّ إلا بالصبر))([3]).

"وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات، وجعلها ثمرةً له"([4]) وما هذا إلا لأنه عبادة جليلة، وخصلة جميلة، لا ينبغي للعاقل أن يفرّط فيها، وكثير من الأخلاق المأمور بها متركّبة منه، فالعفّة وعدم الفجور بالزنا ونحوه هي صبر عن شهوة الفرج المحرمة، وكتمان السر صبر عن إظهار ما لا يَحسن إظهاره من الكلام، والشجاعة هي الصبر والثبات لمقابلة العدوّ، والصبر على فضول العيش هو الزهد، وصبر النفس عن إظهار الغيظ هو الحلم([5])، إلى أخلاق كثيرة وخصال كلها تدور على الصبر.

فالصبر من أعظم أسباب النصر، فلابدّ من صبر على قوة العدوّ وإثخانه في خصمه، وما يستعمله من الأسلحة، وما يروّجه من الأكاذيب، ثمّ لابدّ من الصبر على ما قد يبتلى به الإنسان مما يقدّره الله عليه من المصائب، من فقد لقريب، أو نزول شرّ بحبيب، أو ضرر في النفس والمال والدار.

وسنّة الله جارية بأن الظّفر لذي الصبر مطلقاً، فلو كان أهل الباطل أصبر في المواجهة من أهل الحقّ لم يبعد أن تكون لهم الغلبة،  فـ"الصَّبْرُ مَنْصُورٌ أَبَدًا؛ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُحِقًّا كَانَ مَنْصُورًا لَهُ الْعَاقِبَةُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِبَةٌ"([6]).

ومن أطيب الثمرات التي يقطفها الصابر، ويلتذّ بها المثابر، تحقيق معيّة الله الخاصّة، التي ذكرها الله في قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) في أربعة مواضع من كتابه([7])، وهي معيّة تقتضي النصرة والتأييد، والظفر على العدوّ، والحفظ في النفس والعرض، والسلامة من المهلكات في الدنيا، ومن ورود موارد العطب في الآخرة.

قال أبو جعفر الطبريّ: (وأما قوله:"وَاللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" فإنه يعني: والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله، المخالفين منهاج دينه")[8]).

فإذا صبر الإنسان على الضّر والبأساء الذَين يقدّرهما الله عليه، ووفّق لإخلاص الدين لله، والتعلق به دون سواه، جاءه الخير من حيث لا يحتسب، وتنزّل النصر، وأورثته هذه المحنة والكربة إيمانا في قلبه، وأحوالا شريفة مع ربّه.

قال الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية: (مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِنْ الشِّدَّةِ وَالضُّرِّ مَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ، فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، فَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، أَوْ الْجَدْبِ أَوْ الضُّرِّ، وَمَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: "يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك".

وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: "إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي أَوْ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنِّي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا»([9]))([10]).



وللصّبر أحكام وآداب، فمنها:

·أن يكون عند الصدمة الأولى، أي عند أوّل وقوع المصيبة أو علم المصاب بها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)([11]).

·ومنها أن يسترجع المصاب بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقوله جل وعلا: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ () الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ومعناها: أنا لله عبد، وإليه راجع([12]). ثم ذكر جزاءهم وثوابهم فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة) نِعْم العِدْلان، (وَأُولَئِكَ هم المهتدون) نِعْمَ الْعِلَاوَةُ)([13]).



·ومنها: أن لا يأتي بما يضادّ الصّبر، كالجزع وهو انزعاج القلب وهلعه، أو شق الجيوب ولطم الخدود، أو الشكوى إِلى الخلق، وإظهار المصيبة والتحدّث بها([14])، وأما الشكوى إلى الله، والبكاء دون لطم ونحوه، فلا ينافي الصّبر.

فإنّ الله أمر نبيّه بالصبر الجميل، فقال: (فاصبر صبراً جميلاً) والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه، وذكر الله عن نبيه يعقوب أنه صبر على مصابه في ولديه الصبر الجميل فقال: (فصبرٌ جميلٌ)، ثم شكا إلى الله مصيبته فقال: إنما أشكو بثي، فدل على أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل([15]).



هذه على وجه الاختصار تذكرة بفضل الصبر وأهميته، ولنا موعد مع تذكرة أخرى بأسباب أُخَر من أسباب النصرة والظفر، والحمد لله رب العالمين.

عبد الله الزنتاني - باحث شرعيّ


 ____________________________


([1])  أخرجه الخلال في السنة (2/ 129) والطبراني في الكبير (9/ 104) والبيهقي في الشعب (1/ 150) وصحّحه الحافظ في التغليق (2/ 22) وروي مرفوعاً ولا يصحّ. وانظر عدة الصابرين لابن القيم (205).


([2])  من حديث معاذ بن جبل عند أحمد والترمذي وغيرهما.


([3])  تعظيم قدر الصلاة (104-105)


([4])  مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة (342)


([5])  انظر: إحياء علوم الدين (4/ 67) وعنه مختصر منهاج القاصدين (344) وعدة الصابرين (28-29)


([6])  إعلام الموقّعين (2/ 166) لابن القيّم.


([7])  موضعان في البقرة وموضعان في الأنفال، ثلاثة من هذه الأربعة في القتال والجهاد، فتأمّل.


([8])  تفسير الطبريّ (5/ 353)


([9])  أخرجه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.


([10])  الآداب الشرعية لابن مفلح (175-176)


([11])  أخرجه البخاريّ ومسلم.


([12])  انظر: زاد المسير (96) لابن الجوزيّ.


([13])  علّقه البخاريّ، ووصله الحاكم ومن طريقه البيهقي بإسناد صحيح. انظر فتح الباري (3/ 172) وتغليق التعليق (2/ 470).


([14])  ينظر: عدة الصابرين (523) وما بعدها، ومختصر منهاج القاصدين (347).


([15])  انظر: فتاوى ابن تيمية (10/ 666).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق