الأربعاء، 17 أغسطس 2016

محمد عوض الشارف: ماذا أحدثك عن الحوار يا بنغازي؟


هناك حكمة تُروَى عن الأستاذ بكري قدورة مدير الجامعة الليبية قالها في بداية اكتشاف النفط في ليبيا: "ستندمون يوما على اكتشاف النفط؛ لأن النفط كالعسل يجذب الذباب، وستعشى أبصاركم أسراب الذباب، وستضلون الطريق".
تكاثرت أسراب الذباب، من كل حدب وصوب، وارتفع طنينها، لا سيما بعد ثورة فبراير 2011م، وتاه الليبيون في صراع النفوذ بين دول الهيمنة الحريصة على استمرار سيطرتها على الموارد، وحماية منابع النفط، والحفاظ على منظومة المصالح السابق، واستغل النزاع بين الليبيين ليكون مطية لتعميق الأزمة، وغطاء لإخفاء حقيقة الصراع  الذبابي على ليبيا، وهذه حقيقة يعرفها من يتابع الشأن الليبي عن كثب، بعيدا عن اللغو الإعلامي، والشعوذة السياسية.
منذ تكوين الدولة القومية في الغرب، وهي تسعى حثيثا بوسائل شتى في التوسع الامبريالي، والهيمنة على الآخر، من أجل تحقيق رغد العيش لمواطنيها، فكانت سايكس بيكو أحد مشروعات الهيمنة، التي أسست لتجمعات بشرية منزوعة الإرادة، ومكبلة بحدود مأزومة، ومعاهدات مغلولة، هذه التجمعات  وصفها بحق الأديب عبدالرحمن منيف مدن الملح؛ لذلك كانت العلاقة بين الشرق والغرب بعد ظهور الدولة القومية في أوروبا هي علاقة بين الدولة المسيطرة في الغرب الأوربي أو الأمريكي، ومدن الملح المسيطر عليها في الشرق.
لم تكن  الحالة الليبية خارج سياق الهيمنة؛ فتجربة  الاحتلال الإيطالي، شهدت حوارا بين الاحتلال والمجاهدين، وانتهى مآلها  بالفشل؛ لأن هدف المفاوض الإيطالي هو كسب الوقت وشق صف المجاهدين، وعدم السماح بتأسيس الدولة، وهدف المفاوض الليبي هو خروج إيطاليا، وعودة  ليبيا إلى أهلها.
ولا خلاف على أهمية الحوار في العلاقات الإنسانية بمختلف أنواعها، بل إن الحوار صار له  أدبياته وخبراؤه، وعلم  التفاوض الذي هو لغة الحوار والمناقشة، ساهمت في تأسيسه عدة علوم، كعلم الاجتماع والنفس والإدارة واللغة وغيرها، والتطور الحاصل في العلوم العسكرية رافقه تقدم نوعي في طرق التفاوض، وما عجز الغرب عن الظفر به بقوة السلاح انتزعه بدهاء التفاوض، وفرض المعاهدات؛ ليمنع التأسيس لمشروع الدولة المستقلة بقرارها الوطني، والمكتفية بمواردها الذاتية.
اللغة والإنسان هما مادة العملية التفاوضية، واستغلال اللغة في تفخيخ النصوص، وهزيمة الخصم، هي من ضمن استراتيجيات التفاوض التي يستخدمها أصحاب النفوذ، وكذلك إخضاع المحاور بالترغيب والترهيب والإحراج وغيرها من وسائل الإكراه، لإرادة القوة وليس لإرادة الحق؛ ليتحول الحوار إلى وسيلة للهيمنة، بدل أن يكون مسلكا  لتحقيق العدل والسلام.
جاءت ثورة فبراير بأول انتخابات نزيهة في يوليو 2012م، وأسست لمؤسسة سيادية منتخبة لليبيين، وهو المؤتمر الوطني، وقد أفرزت هذه الانتخابات فئات متنوعة من المجتمع، دخلت إلى المؤتمر بأهداف مختلفة، كان منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الاخرة، ومنهم من يريدهما معا.
لم يلق التأسيس الشرعي للسيادة الليبية قبولا من جماعات محلية وإقليمية ودولية، فمكروا بالليل والنهار لإفساد هذا المسرى، وإفراغه من مضمونه، ثم الانقلاب عليه بتمرد عسكري في شرق ليبيا و مشروع وصاية في غربها.
لم يدرك كثير من الليبيين حجم المؤامرة على التأسيس الشرعي للمؤسسة السيادية الليبية، وبفعل الكيد الإعلامي حصل  تغيير للصورة الذهنية، ولشرعية الانتخاب ومفهوم الثورة والثوار.
بدأ الكيد مبكرا لمدينة بنغازي أحد أهم معاقل القوة العسكرية للثورة، واستدرج ثوار بنغازي لحرب استنزاف عسكرية، وكانت الطعنة شديدة لقوة الثورة في بنغازي من تجمعات الشرق الليبي، ومن  بعض سكان المدينة الذين مردوا على حظيرة العسكر.
بيد أن مدينة درنة كانت في الموعد بموقفها الثوري الرافض لمشروع البدونة العسكري، ومشروع الدعشنة الفوضوي، والخيط الناظم بين المشروعين تتضح معالمه يوما بعد يوم، وطردت  درنة الدواعش، وفرت جحافلهم  تشق الصحراء إلى سرت، ولم يعترض طريقها أحد من الأرض ولا من السماء!، والأمر نفسه حدث مع  مجموعة من  كتائب القذافي التي خرجت من مصر متجهة إلى مدينة زلة الليبية آمنة مطمئنة، لمساعدة التمرد العسكري، في محاولته للسيطرة على الهلال النفطي، فهل ستسمح الدول المتحكمة في ليبيا لمثل هذه القوة في الذهاب لنصرة ثوار بنغازي؟ ولله در أحمد شوقي حين قال: (أحرام على بلابله الدوح؟ حلال للطير من كل جنس).
بدأ الأعراب  غزوتهم الهلالية على درنة، وأغرى العسكر الطوق البدوي على المدينة بالمال ووعدوهم بالغنيمة ليعيثوا في درنة فسادا كما عاثوا في بنغازي. وبعد التمرد العسكري في شرق ليبيا احتد النزاع بين الليبيين وانقسمت البلد إلى مؤسستين تشريعيتين هما: المؤتمر الوطني ومجلس النواب، ومن المفترض أن يكون  مبعوث الأمم المتحدة وسيطا حياديا بين الطرفين، وتدخلت الأمم المتحدة  بين المتخاصمين، وتشابك  دور الأمم المتحدة، مع دوافع  بعض الدول ومصالحها. وفي الفترة التي كان يسيطر على طرابلس كتائب متواطئة مع الثورة المضادة، كان دور الأمم المتحدة في إدارة الحوار في ليبيا يأخذ أسلوب النصح والاستشارة المعلمة لا الملزمة، وعندما أخرجت هذه الكتائب من طرابلس، بدأ الوسيط الأممي في أسلوب الإلزام والترغيب والترهيب، فهل جاء الوسيط  ليؤسس لسلام حقيقي؟ أم لإنقاذ الثورة المضادة؟
بدأت استراتيجيات الهيمنة في العملية التفاوضية بتحديد عدد المحاورين وطريقة اختيارهم، فقرر ليون أن يكون المتحاورون: أربعة من أعضاء المؤتمر، وأربع من مجلس النواب، وستة عشر عضوا يختارهم ليون من غير المؤسستين، وبهذه الطريقة صار ليون وصيا على الحوار لا طرفا محايدا في إدارته، ولا أدري إذا كانت الطريقة التي استخدمها ليون في إدارته للحوار، أو في تعيينه لأعضاء الحوار أو المجلس الرئاسي وغيرها توافق طبيعة المهمة المكلف بها، ولا تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
دخل المؤتمر الوطني إلى الحوار وكان ممثلا للثوار، وتعامل المؤتمر مع الحوار لم يصل إلى مستوى اعتبار الحوار معركة استراتيجية مصيرية، تتطلب الأخذ بكل الوسائل العلمية، كما أن ضعف التكوين السياسي لأعضاء الحوار، وعدم وجود مؤسسة علمية من داخل المؤتمر أو خارجه تشرف على أداء الحوار، وخلا وفد الحوار من خبراء في مجالات مختلفة لمساعدة  أعضاء الحوار أثناء العملية التفاوضية، ولم ترتق كفاءة المحاور الحامل لمطالب الثورة  إلى  مستوى كفاءة المقاتل الثوري.
بدأ العمل على أعضاء الحوار بوسائل الترغيب والترهيب والإحراج، وسقط من سقط  في فخ الغنيمة من وفد الحوار ومن بعض أعضاء المؤتمر الوطني، وانتهج بعضهم المسالك المواربة للالتحاق بالسفينة الجديدة، وحجة الذين قلبوا ظهر المجن على المؤتمر، أن المصلحة العامة تقتضي ذلك، لكن المفسدة التي ترتبت على هذا الخيار، قد دقت إسفينا بين تيار الثورة، وعمقت النزاع داخله في مرحلة من أصعب المراحل التي تواجه ثورة فبراير، فأي المصلحة أولى بالاتباع وحدة الصف؟ أم شقه؟
ومشكلة الاتفاق أنه منزوع القوة، فما هي القوة التي ستنفذ هذا الاتفاق إذا كان طريق الوصول إلى هذا الاتفاق كان سببا في الشقاق بين الثوار؟ وإذا لم ينفذه الثوار فمن سينفذه؟
ومن المفارقات تأكيد المجتمع الدولي دعمه للاتفاق وحكومة الوفاق، وينص الاتفاق في مادته الثامنة والثلاثون على وقف إطلاق النار الشامل في جميع أرجاء ليبيا ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق، والاتفاق وقع في 17 ديسمبر 2015، ولم يتوقف إطلاق النار، فهل المجتمع الدولي عاجز عن وقف إطلاق النار؟
ولا ينقضي العجب، فبعد هذا الوفاق، تزايد الشقاق السياسي والعسكري، وازدادت الأعمال القتالية، وانتشرت مساحتها الجغرافية، واستمر التضييق على حاجات المواطن الضرورية، ابتداء من موضوع نقص العملة المحلية، وغيرها من ضروريات الحياة، والأعجب هو بقاء  المستشار سليمان زوبي عضو المؤتمر الوطني في الحجز منذ عامين تقريبا، ويخرج من السجن محمد بن نايل أحد أعمدة حكم القذافي والمتهم بقضايا كبرى.
ويبدو أن  نتائج الحوار الليبي ـ الأممي ما هو إلا جسر لمشروع ستتضح معالمه قريبا، وما يحدث في هذه المرحلة هو البحث عن صيغة تجمع بين التمرد العسكري في شرق ليبيا  ومشروع الوصاية في غربها، ويستمر بقاء  حرص الدول المتحكمة في ليبيا على حالة  الاستنزاف السياسي والعسكري إلى أن يستنفد الصف الثوري قواه. ويبقى الدم الليبي المسفوح يسفك بين قرابين الصراع الذبابي على تـقاسم الحلوى، وسيقضي الله أمرا كان مفعولا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق