الأربعاء، 1 فبراير 2012

د. علي رحومة المحمودي : موقف علماء الإسلام من العلوم التجريبية



في بلادنا اليوم تدور رحى حرب لا هوادة فيها على الدين والتدين من قِبل دعاة التغريب و"العلمنة"، وهذه الحرب تأخذ أشكالا وأنماطا محتلفة، تارة تحت مسمى العلم والتقدم، وتارة تحت مسمى تحرير المرأة، وتارة تحت مسمى محاربة الجهل والتخلف ونحو ذلك من الشعارات البراقة. والمتأمل اليوم في الساحة الفكرية الليبية يرى بكل وضوح الهجوم الصارخ على علماء الشريعة، فرموهم بكل نقيصة واتهموهم بشتى التهم الباطلة. وهؤلاء المستغربون بهرهم الغرب بحضارته المادية، فهم يستهلكون ثقافته، ويستميتون في تقليد مذاهبه، يصفهم أحد سادتهم وأخبر الناس بهم قائلا "كنا نصيح من امستردام، وبرلين، وباريس (الإخاء البشري) فيرتد رجع أصواتنا من أفريقيا، والشرق الأوسط، كنا نقول (ليحل المذهب الإنساني محل الأديان المختلفة) وكانوا يرددون أصواتنا من أفواههم، وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المغتربين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعناه في أفواههم" (1).


فخلاصة ادعاء هؤلاء أن المشكلة ليست في الإسلام، إنما في فقهاء الإسلام وحملة الشريعة الذين أفتوا بحرمة العلوم التجريبية، كما يزعمون زورا، وحاربوا علماء الطب والهندسة والفلك ونحو ذلك، كما يزعمون زورا أيضا، يقول أحدهم "مصيبتنا الحقيقة هي في من يدعي أنه يمثل الإسلام، هل تعلم ماهي أسباب انحدار الحضارة الإسلامية بعد ان كانت تسير بسرعة الصاروخ؟ سببها هم أشخاص قالوا انهم يمثلون الدين الإسلامي فافتوا بتحريم الرياضيات والكيمياء وتجريم كل من يعتنق علوماً غربية ومنطقية وعقلية، فوصفوا جابر ابن حيان بكبير السحرة والمشعوذين وغيره من المفكرين الذين يدرس الغرب كتبهم اليوم، مشكلتنا الحقيقية أننا نتشدق بأقوال أشخاص قالوا هم من يمثل الإسلام فشوهوا صورته وعكسوا تخلفاً في المجتمع الإسلامي وحاربوا المفكرين وكل من يعارضهم وكفروهم ونكلوا بهم، شواهد التاريخ كثيرة ولاتزال ليومنا الحاضر، فتعطيل العقول منهج متبع ومن يشغل عقله فهو زنديق بنظرهم". انتهى.

وأنت ترى أخي الكريم بوضوح وجلاء كيف يحاول هؤلاء التبرير لمسلكهم الباطل ولو بالإفتراء والزور والبهتان،وللرد على هذا الإدعاء لابد من أن نتتبع القصة من أصلها، لا يخفى على كل متابع أن العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في جاهلية جهلاء، وشهرة هذه الجاهلية أشهر من أن نعرف بها في هذا المقام، أمة متناحرة جاهلة أمية (والحكم على الغالب) بل كان الذي يقرأ منهم ويكتب يعدون على أصابع اليد الواحدة، كورقة بن نوفل لتنصّره، أضف إلى ذلك أن غالب العرب كانوا إما تبعا للإمبراطورية الفارسية أو الرومانية وغير ذلك من مظاهر الجاهلية ـ وهذا لا يمنع أن يكون عندهم بعض الأخلاق الحميدة كالكرم والشجاعة ونحو ذلك ـ بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة فكان أول ما نزل من الوحي {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأوربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم}. لا يخفى على العاقل اللبيب دلالات الكلمات التي في هذه الآيات (اقرأ، القلم، علم). ثم توالت الأيات الآمرة بالتفكر في ملكوت السموات والأرض، وتقلب الليل والنهار، والآيات الآمرة بالسعي في الأرض والضرب في مناكبها، والأحاديث الآمرة بالتداوي بالعسل والحجامة ونحو ذلك، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((‏ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله)). ولا يخفى دلالة الحثّ والبحث عن الدواء حينما يُقال لك الدواء موجود فقط إبحث عنه، إبحث عنه في الأعشاب في الفواكه في الخضروات في العسل في الوديان في الجبال في المعامل. وبناء على هذه النصوص والتوجيهات انقلبت حياة أولئك العرب إلى مجتمع نموذجي بعد أن كانوا همجا رعاعا، وهذه حقيقة لا يختلف عليها العقلاء المنصفون إطلاقا (مسلمون وغيرهم). فبعد أن كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأد البنات، ويصنع صنما من تمريعبده أول النهار فإذا جاع أكله آخر النهار، صار بفضل تلك الآيات والنصوص يُمصّر الأمصار ـ راجع قصة بناء الكوفة والبصرة ـ ويدون الدوواوين ـ الجُند وغيرهم ـ وأنشأ نظام النفقة للمواليد، ولايزال هذا النظام ساريا في أوروبا إلى يوم الناس هذا (child benefit) وبدأت تلك الأمة تزحف نحو التقدم والإزدهار فأنشأت الأساطيل البحرية وشيّدت المباني والجسور وغير ذلك من المعالم الحضارية التي يشهد لها العدو قبل الصديق، وما كان ذلك ليكون لولا الوحيين وما فيهما من التوجيهات، وما كان ذلك ليكون لولا أن الإسلام أطلق العنان للعقل والفكر والإبداع بعد أن كان كل ذلك أسير الأسطورة والخرافة. أفيعقل بعد هذه التوجيهات الربانية أن يُقال عن علماء الشريعة المطهرة " فتعطيل العقول منهج متبع ومن يشغل عقله فهو زنديق بنظرهم" سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولكن ها هنا أمر مهم جدا يجب التنبه له، وهو أن العقل والفكر والإستنباط والإجتهاد والمنهج التجريبي والتحليل المنطقي العقلي لا يكون في أمور حسمها الوحي أو في أمور غيبية أو بصفة عامة إعمال العقل في غير مجاله، كالذين أعملوا عقولهم وأفكارهم الفلسفية في ذات الله جل جلاله وأسمائه وصفاته، أو في الروح، أو في حياة البرزخ ونحو ذلك، فهذه هي التي حاربها علماء الشريعة ـ قديما وحديثا ـ وذموا الخوض فيها، أما إعمال العقل في مجاله كالطب والهندسة والجبر ونحو ذلك فقد جاءت النصوص لتحثنا على تعلم هذه العلوم، بل عد كثير من العلماء تعلم هذه العلوم من فروض الكفايات التي تأثم الأمة إن لم تقم بها، وأوروبا لم تنهض بالمسائل الفلسفية التي خاض فيها بعض المسلمين، إنما نهضت بالعلوم التجريبية التطبيقية الأخرى، وأعتقد أن هذا محل اتفاق بين جميع المنصفين، فأوروبا اليوم حينما نهضت بتراث المسلمين لم تنهض بأقوال ابن سينا والفارابي وابن رشد الفلسفية التي تصادم نصوص الوحيين إنما نهضت بعلومهم التجريبية والتي جاء الإسلام لتشجيعها والحث على تحصيلها، ولذلك حارب علماء الشريعة ـ قديما وحديثا ـ الجانب الفلسفي المصادم للشريعة الذي جاء به ابن سينا وغيره، وشجعوا الجوانب التجريبية التطبيقية التي أبدعوها، وهذا عين الإنصاف والحكمة.

اختصر ما تقدم بالسؤال التالي، هل أوروبا استفاذت شيئا من قول بعض المسلمين بأن الله ليس فوق ولا تحت ولا خارج العالم ولا داخله؟ الجواب قطعا لا، إنما استفاذت من العلوم النافعة الأخرى، وبهذا تتضح الصورة لديك أخي الكريم والحمد لله رب العالمين.

د. علي رحومة المحمودي


____________________

1. من كلام جان بول سارتر عند تقديمه لكتاب "معذبو الأرض" لفرانتزفانون نقلا عن كتاب "المثقف العربي بين العصرانية والإسلامية" للدكتور عبد الرحمن الزنيدي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق