الأربعاء، 3 أغسطس 2011

ترجمة : خالد محمد جهيمة : الوَحَل التشادي


الوَحَل التشادي
الفصل الثامن من كتاب "تشريح طاغية"
أليكسندر نجار Alexandre Najjar
ترجمة : خالد محمد جهيمة  Kaled Jhima

لم يكف القدافي التصرفُ وفق سلوك الإرهابيين, فأراد أن يكون من الفاتحين. لقد حدد العقيد , الراغبُ في بسط نفوذه على جنوب الصحراء؛ بعد فشله في إقناع محيطه العربي بمشاريعه الوحدوية, لنفسه هدفا يتمثل في إنهاء النفوذ الإسرائيلي في تشاد, التي كانت إسرائيل تقوم فيها بتدريب جزء من قوات الأمن التشادية , كما كانت تملك حق استخدام ثلاث قواعد جوية. كانت تشاد تمثل, إلى جانب أوغندا, إحدى الركائز الأساسية للإطار الاستراتيجي الإسرائيلي؛ من أجل حصار مصر الناصرية. لذا فقد خضعت ليبيا , كما كتب ريني أوتاييك, لكل المواقف المتصورة في تشاد, أو خلقتها؛ فاستخدمت " بتزامن, أو بتعاقب كل محركات الصراع, كتغيير التحالفات, والتدخلات العسكرية المباشرة, والانسحابات الكاذبة, والتوافق, والتشنج"[1] لكنها على الرغم من أنها لم تنجح دائما, بممارساتها هذه, في  إدارة هذا الصراع لخدمة مصالحها (...),فإنها أبدت رغبتها في فرض تأثيرها على تطور محيطها الإقليمي المباشر. تُظهر استراتيجية التواجد, رغم دوريته ـ وكذلك استراتيجية القوة بخاصة ـ التي تتبعها ليبيا في  تشاد, على الرغم من معارضة الأفارقة, وغيرهم, أن نهاية الأزمة التشادية مهمة جدا بالنسبة لليبيا. من جهة أخرى, لم يبلغ أحد في اهتمامه بتشاد, في الساحل الأفريقي, أو في المغرب, أو في الشرق الأوسط هذا المبلغ, الذي قد يكون سببه القربُ الجغرافي, الذي أصبحت من خلاله (أو ربما بسببه)  تشاد, بالنسبة للدبلوماسية الليبية, رهانا له انعكاسات سياسية, واستراتيجية, وأيديولوجية أعمقُ بكثير من مجرد الوصول إلى حل مرض بالنسبة لها, فيما يتعلق بالصراع على السلطة بين كوكني وداي, وحسين حبري. إنه رهان يحدد النجاح فيه مدى مصداقية صعودها في فضاء وسط الصحراء.

بدأ العقيد باقتراحه القيام بدور الوسيط على فور لامي, والجبهة الوطنية لتحرير تشاد, وهي حركة مسلحة تأسست بتاريخ 22 يونيو من عام 1966 للكفاح ضد النظام الجنوبي المتهم آنذاك باضطهاده أهل الشمال. كان القذافي يعتقد, بحسب منطقه, أنه إن لم تتعاون السلطة  المركزية في تشاد, فإن دعمه للمعارضين سيكون شرعيا. أما إن اتفق الطرفان, فإن ليبيا ستستفيد من نجاحها, على كل حال. اتخذ القذافي, بعد فشل وساطته, من الرئيس تومبالباي موقفا متشددا, وسمح لرئيس الحركة الوطنية لتحرير تشاد, أببا صديق, بالاستقرار في طرابلس. وقد برر ذلك بقوله : " أغلب التشاديين هم عرب,ومسلمون, لكن حقوقهم مهضومة. لذا؛ فإن هدف هذه الحركة التي تدعمها ليبيا, هو الاستيلاء على السلطة؛ لكي لا تحكمهم أقلية يدعمها المستعمرون".[2]
ضحى تومبالباي, في نهاية عام 1972, بعد اشتداد عود المنظمة الوطنية لتحرير تشاد, والخوفِ من إمكانية انضمام المتمردين من قبائل التبو في تيبيستي إليها, ليتجنب كارثة,؛ فوضع حدا لعلاقات تشاد مع إسرائيل, واعترف رسميا بمنظمة التحرير الفلسطينية, فتعهدت ليبيا, على إثر ذلك, باحترام مبدإ عدم التدخل في الشؤون الداخلية التشادية, ووعدت بتقديم مساعدة مالية لتشاد , قدرها 23 مليار فراك أفريقي.  لكن هذا الاتفاق أثار جدلا بمجرد توقيعه؛ فقد استند إليه القذافي لتبرير احتلاله, خلال صيف عام 1973,  شريطَ أوزو, الذي تبلغ مساحته 114 ألف كلم مربع, والغني باليورانيوم , والمنغنيز. ورد على فرنسا, التي اعترضت على ذلك, بأنها قد تنازلت, عليه لإيطاليا التي كانت تحكم ليبيا آنذاك, من خلال الاتفاقية التي عقدت بين بيير لافال, وموسليني, لكن لم تتم المصادقة عليها. يُمثل هذا الاحتلال بالنسبة له وسيلة لصرف الأنظار عن مشاكله الأخيرة, ومحوها , كقطع العلاقات مع مصر, وتوتر العلاقات مع بلدان المغرب العربي, وعزلته الدبلوماسية المتزايدة, وعدم تحقق أحلامه الوحدوية....لقد قام, باندفاعه هذا, برسم حدود جديدة بين ليبيا, وتشاد, تقع على بعد 150 كلم جنوب الحدود المعترف بها دوليا, مؤكدا أن "الحدود الليبية تمتد, منذ العصر العثماني, حتى خط عرض 10 جنوب نجامينا . يرجع هذا الامتداد كله إلى ليبيا؛ حيث توجد مساجدنا, وقبورنا, وعائلاتنا في كل مكان... أما الحدود الحالية, فهي موروثة عن الاستعمارين الإيطالي, والفرنسي"[3]. يعيد الطاغية, على غرار هتلر, إعادة كتابة التاريخ, والجغرافيا على طريقته.
دخلت العلاقات الليبية الفرنسية, بتسلم فاليري جيسكار ديستان السلطة في فرنسا, مرحلة جديدة؛ فقد نظر العقيد, الذي كانت علاقته بالسادات باردة منذ اتفاق وقف إطلاق النار  الذي وضع حدا لحرب أكتوبر 1973 بين العرب, وإسرائيل, بعين السخط لرفع فرنسا الحضر على بيع الأسلحة مصر؛ مما دعا جاك شيراك, رئيس وزرائها في ذلك الوقت, لزيارة طرابلس في عام 1976؛ لتخفيف حدة التوتر, لكن دعم فرنسا الحكومة المركزية في تشاد أزعج قائد الثورة.
أعطت واقعةٌ مؤلمة, حصلت في عام 1974, القذافي فرصة؛ ليفرض نفسه محاورا مفضلا, على أطراف القضية. فقد قام معارضون من التبو, يكافحون عسكريا بقيادة حسين حبري, ضد حكومة نجامينا, بتاريخ 21 أبريل من هذه السنة, بخطف عالمة آثار فرنسية تتبع مركز البحوث العلمية الفرنسي, هي فرانسواز كلوستر, التي تعمل في البلاد منذ عشر سنوات, والطبيب الألماني كريستوف ستايوين, ومارك كومب معاون بيير كلوستر, زوج فرانسواز, في لجنة الإصلاح الإداري التي فرضها الجنرال ديجول على الرئيس التشادي تومبالباي , من واحة بارداي في تيبستي. وطلبوا فدية كبيرة, وسلاحا. فبدأت مفاوضات؛ لإيجاد مخرج من هذه الأزمة.
كافح الدبلوماسي ستيفان هيسيل, مؤلف الكتاب الشهير  اسخطوا !, بكل ما في مكنته, لكنه ارتكب أخطاء عقدت الموقف[4].  أرسل جيسكار ديستان, بموافقة نجامينا,القائد العسكري جالوبان؛ لتحرير الأسرى, لكن هذا الأخير, الذي قاد فترة طويلة, الحرس الوطني التشادي, ثم جهاز مخابرات المستعمرة الفرنسية السابقة, أسره المتمردون, ثم قتلوه. ذهب بيير كلوستر, بشجاعة, بعيدة عن الحكمة, إلى تيبيستي, وعرض على الخاطفين أن يحل محل زوجته ـ  التي ظلت وحيدة بعد تحرير الطبيب, إثر مفاوضات مع ألمانيا, وهروب مارك كومب. كما حاول بعد ذلك الحصول على السلاح بنفسه؛ ليقدمه للخاطفين, لكي يطلقوا سراح زوجته. لكن سوءا ألم به؛ فوقع بدوره أسيرا في شهر أغسطس 1975. حل معارض آخر محل حبري على رأس حركة التمرد, هو ككوني وداي, واتجه نحو القذافي؛ فكانت فرصة رائعة للعقيد؛ وتم تحرير الزوجين كلوستر في 31 يناير 1977, بعد قضائهما ألف يوم في الأسر, وبعد أن تم دفع فدية للخاطفين, وصرحت فرانسواز عند وصولها إلى طرابلس بأنها "تريد أن يعرف الليبيون جميعهم بأنني وزوجي في غاية السعادة من الاستقبال الرائع الذي لقيناه في ليبيا"[5]
لكن قدرة القذافي على الإزعاج تغلب دائما؛ فبفضل دعمه, بتجنيده أعضاء سابقين في جماعة القبعات الخضر الأمريكية[6] لتدريب جنود على القتال في تشاد, استطاع وداي  إحراز تقدم  هناك. مما دفع السلطة المركزية التشادية, القلقة من تقدم المتمردين, إلى طلب العون من فرنسا, في عام ,1978 ,التي عززت وجودها العسكري إذن. تحالف الجنرال فيليكس مالوم, الذي حل محل تومبالباي  بعد مقتله في عام 1975, مع عدوه القديم حسين حبري, ثم تشكلت, بعد اتفاقيتي كانو 1, وكانو 2 (في شهري مارس, وأبريل 1979), واتفاق لاجوس (في شهر أغسطس 1979), حكومة وطنية انتفالية (GUNT) برئاسة وداي, الذي صار بذلك رئيس الجمهورية رسميا, وحسين حبري وزير دفاع. لكن هذا الأخير ترك هذه الحكومة, في عام 1980, واستولى على نجامينا, التي استطاع واداي إخراجه منها, بفضل دعم القوات الليبية الحاسم, وأجبره على الذهاب إلى السودان منفيا. اقترح القذافي الفَرِح, في عام 1981, على حليفه الوحدة, التي أخفقت, كما رأينا.
لقد قرر رونالد ريغين, بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض, القضاء على قائد الثورة, الذي اتهمه بزعزعة الاستقرار في المنطقة؛ فقام مباشرة بقفل السفارة الليبية في واشنطون, وبزيادة الدعم الاقتصادي, والعسكري, لجيران ليبيا. ثم أعد, بالاتفاق مع فرنسا[7], ومصر السادات, عملية عسكرية تهدف إلى التخلص من العقيد, وإلى إحلال الهدوء في  المتوسط. وهو ما كشفت عنه مجلة نيوزويك في مقال عُنون ببلاغة : خطة للإطاحة بالقذافي"[8], مما أجبر البيت الأبيض على تكذيب الخبر.
أظهر الرئيس ميتيران,  غداة انتخابه, حذرا, وحاول التوفيق؛ فقام برفض فكرة مهاجمة القذافي, التي دافع  عنها, حتى ذلك الوقت, جيسكار ديستان, وألكسندر مارينش ("وَردَّ على مدير المخابرات الفرنسية, قائلا : "هذا لا يمثل فلسفتي")[9]., وأفرج عن عقود تسليح, وعقود نفط كبيرة, كان سلفه قد جمدها, كما طلب من القائد سحب قواته من تشاد. أطاع هذا الأخير, الذي كان يرغب في أن ينتخب رئيسا لمنظمة الوحدة الإفريقية, والذي كان يبحث عن التهدئة, بعد قيام طائرتي إف 14 أمريكيتين بإسقاط طائرتين ليبيتين فوق خليج سرت, بتاريخ 19 أغسطس 1981, ونفذ انسحابه في شهر نوفمبر من السنة نفسها, لكن مفاجأة كبيرة كانت في انتظاره؛ فقد استفاد حبري من الوضع, واستطاع دخول نجامينا, والإطاحة بوداي, بدعم من إدريس دبي, ومن المخابرات الفرنسية, والأمريكية[10]. لكن وداي لم يعترف بالهزيمة, وبدأ يناضل من جديد, مستفيدا من الدعم العسكري المقدم من القذافي, الذي كان مستاء بسبب "فشله في ترأس منظمة الوحدة الإفريقية"[11]. ذلك أقلق السي أي إي , وهو ما عبرت عنه مذكرة موجهة لمدير المخابرات الأمريكية نقرأ فيها :"قام الليبيون , خلال الأشهر الأخيرة, بتزويد الآلاف من جنود الرئيس السابق كوكني وداي الموجودين في شمال تشاد, بأسلحة مدفعية, وبذخائر, وببنزين, وبسيارات خفيفة الحركة, وبمستشارين عسكريين. ثم استُكملت قوات وداي بقوات تشادية تم تجنيدها بمساعدة ليبيين, ونقلوا عن طريق بنين ليتم إدخالهم إلى شمال تشاد"[12]
لم يُكذِّب وداي أبدا هذه المعلومات, بل أضاف إليها أن الليبيين حاولوا, عن طريق أحمد إبراهيم, رئيس حركة اللجان الثورية, السيطرة على قادة المتمردين الذين ربوا على فكر الكتاب الأخضر. يقول : "لقد فهمت بمرور الأيام أن هناك فكرة جاهزة تهدف إلى إلحاق إدارة المناطق المحررة   ببنغازي, و بسبها, بواسطة رجال مخابرات مطلعين على الكتاب الأخضر. لقد تم إرسال موظفين إداريين, إلى ليبيا, ليتعلموا الكتاب الأخضر, [13]؛ ليظلوا, بعد عودتهم إلى تشاد, مرتبطين به, وبليبيا, بدلا من وضع أنفسهم في خدمة الحكومة الوطنية التشادية"
قامت قوات حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية, بتاريخ 19 يونيو 1983, مسنودة بقوات ليبية كبيرة, باجتياز الحدود الليبية التشادية, واحتلت مدينة فايا لارجو ذات بساتين النخل, وانطلقت عبر الصحراء قاصدة نجامينا. مما دعا رولان دوما إلى القول : "إن القذافي مستمر في اللعب بالنار". لقد بدأ بتجميع قوات عسكرية في شريط أوزو,  ثم دعم, في شهر يونيو, هجوم كوكني واداي ـ الذي أمر, في الواقع, قواته بالاشتراك فيه ـ على فايا لارجو, التي سقطت في بضع ساعات. لقد انتهى الآن عهد حرب العصابات الصغيرة ؛ وتدخل الليبيون مباشرة في الصراع بطائرات مقاتلة, وبأسلحة ثقيلة على الأرض, وفُتحت الطريق إلى نجامينا, بعد سقوط فايا لارجو التي كانت تعتبر حلقة مهمة في سلسلة الدفاع التشادية, وبدا أن القذافي قد كان على وشك تحقيق هدفه, بتنصيب رجل مخلص له على رأس الدولة التشادية, نتيجة عمل عسكري[14] أصاب الذعرُ حبري, فطلب العون من فرنسا, التي أطلقت مباشرة عملية "مانتا", وأرسلت إلى هناك ثلاثة آلاف جندي مدعومين بحوالي عشرين طائرة مروحية مقاتلة, وبحوالي ثلاثين آلية من آليات السلاح الجوي, والبحري الجوي. أما الرئيس ريجين, فقد أرسل, من جانبه, طائرتي أواكس لمراقبة الحدود الليبية التشادية, كما أسس, من دون معرفة الفرنسيين, بالقرب من نجامينا, جيشا صغيرا مكونا من معارضي القذافي, سمي "جيشَ حفتر" نسبة إلى قائده خليفة حفتر ـ الذي سنراه من جديد في ثورة 2011ـ . انسحب المعارضون, الذين , تأثروا بذلك الانتشار الواسع للقوى, إلى شريط أوزو, معقلِهم في شمال تشاد.
تَم في شهر أكتوبر من عام 1983, القبضُ على رجل مخابرات ليبي, هو رشيد سيد محمد عبد الله, في باريس بناء على مذكرة توقيف دولية, بطلب من الإيطاليين, الذين كانوا يتهمونه بارتكاب عدد من الهجمات ضد معارضين ليبيين؛ فقام القذافي, ردا على ذلك, بالحجز على سبعة وثلاثين مواطنا فرنسيا, وطالب بإطلاق سراح رجل مخابراته. غضب ميتران, وقال "ليطلق الرهائن أولا", فأرسل رولان دوما مباشرة برسالة إلى القذافي يقول له فيها "إن الوضع خطير جدا"[15]. ثم قام العقيد "بخطوة إيجابية" نحو فرنسا, التي سلمت الليبي إلى بلده, بدل أن تضعه بين أيدي الإيطاليين.
توتر الموقف إثر إسقاط صاروخ ليبي طائرة مقاتلة فرنسية من نوع جاجوار, وقتل تسعة جنود فرنسيين, بعد ذلك بزمن يسير؛ فاقترح القذافي انسحاب القوات الليبية, والفرنسية, انسحابا مشتركا, من خلال آلية يشرف عليها مراقبون محايدون, كما طالب, رغبة منه في منح نظامه "اعترافا", بلقاء رسمي يجمعه بفرانسوا ميتيران, لإنهاء الاتفاق. وقد عُقد ذلك اللقاء, بحسب رولان دوما, في أرض محايدة, في جزيرة كريت حيث قام رئيس الوزراء اليوناني, باباندريو, بمساع حميدة في هذه القضية. لكن رولان دوما لم يحضر هذا اللقاء, ولم يكن موجودا فيه كذلك كلود شيسون؛ لأن فرانسوا ميتيران لم يكن يريد منحه أهمية كبيرة. أما القذافي فقد اصطحب معه وفدا مكونا من حوالي مائة شخص. لقد كان الرئيس, بطبيعته حذرا, لكنني أعتقد أنه كان يرغب في رؤية هذا العقيد الغريب, ورئيس الدولة الذي حير العالم كله, رأي العين,". يشترك جاك أتالي, أيضا, في هذا الانطباع, مع دوما,: "على الرغم من أن هناك أسبابا لها علاقة بتشاد دعت فرانسوا ميتيران للقائه, فإنه كان مدفوعا, بشكل رئيسي, برغبة رومانسية في معرفة رئيس الدولة الأكثر كرها على وجه الأرض آنذاك. لقد ظهر قويا جدا , أمام ذلك الذي كان يعتبره الأمريكيون الإرهابي الأول في العالم, وبين له أنه  لن يكون هناك أي تراخ فرنسي؛ فلا يمكنه أن يتجاوز, منذ الآن,  خط العرض 16 "[16]. اعترف فرانسوا ميتران لفرانز أوليفيير جيسبير[17] بأن محاوره بدا "فائق النعومة في النقاش", وبأنه "كان يوافق دائما على كلام محدثه". اقترح القذافي العبارة التالية : "لا قوات فرنسي, ولا قوات ليبية" , ووافقه الرئيس الفرنسي, إيماء, على الرغم من  أنه لم يساوره شك في كذب مخاطبه.
بدأت تصل, منذ بداية عام 1985, إلى فرنسا تقاريرُ خطيرةٌ, تشير إلى أن الليبيين قد تركوا شمال تشاد, لكنهم رجعوا إليها من الغرب, وإلى أن القدافي قد بدأ يطور مهبط طيران وادي الدوم؛ لتتمكن طائراته من الهبوط عليه؛ فقد ذهب رولاند دوما, الذي التقى العقيد  في خيمته من قبل  بتاريخ 7, و15 أغسطس, في  شهر أبريل 1985 إليه حاملا معه أدلة الاتهام[18]. يتذكر دوما أنه "كان من الضروري التحرك بسرعة؛ لذا فقد رجعت إلى طرابلس للقاء جديد تحت سقف خيمة العقيد القذافي, لكن باعتباري عضوا في الحكومة هذه المرة, وقد تكلمت بحرية أكثر. حملت معي صورا جوية تثبت وجود قوات ليبية في تشاد, وأريته إياها, فلم ينكر ما هو واضح, ثم أنذرته قائلا : إننا لن نسمح بوجود مهبط الطيران ذاك. لقد تفاجأ بموقفي,  وسألني عمن "يتولى ملف تشاد في بلدنا" فذكَّرته بأن الأمر يتعلق بأمر حساس جدا, بالنسبة لنا. ثم تركته, بعد أن حذرته قائلا " سندمر هذه القاعدة إن استقبلت طائرات عسكرية. لكنه لم يعر ذلك أي اهتمام"
قرر رونالد ريجين, بتاريخ 7 يناير, بعد هجمات روما, وفيينا,  التي قُتل فيها تسعة عشر شخصا, الذين كان من بينهم خمسة أمريكيين, فرضَ حضر تجاري على ليبيا, قواه  الكونجرس الأمريكي, في عام 1996, وفقا لقانون أماتو كينيدي, الهادف لمعاقبة الدول المارقة, بسبب دعمها الإرهابَ الدولي, ورغبتِها في الحصول على أسلحة الدمار الشامل, وعدائِها لعملية السلام في الشرق الأوسط. ثم أمر, بتاريخ 15 أبريل, بشن هجوم جوي  سريع على مقار إقامة القذافي في  طرابلس, وبنغازي. لكن العقيد نجا بأعجوبة من عملية "إلدورادو كانيون" التي استهدفته"
أطلقت فرنسا, بتاريخ 16 فبراير, عملية "شبكة الصيد", ووضعت في المكان تجهيزات عسكرية آتت أكلها, من أجل إيقاف هجوم ليبي جديد في الشمال. وقد تضمنت العمليات الجوية, بخاصة, هجوما على القاعدة الليبية في وادي الدوم انطلاقا من بانجوي (أفريقيا الوسطى), وآخر على دفاعات القاعدة الجوية نفسها. لكن تدمير قوات تشادية قاعدة السارة, في شهر سبتمبر 1987, أثار رد القوات الليبية؛ التي قصفت نجامينا, وأبشه, بطائرتين من نوع تيوبوليف تيو ـ22, أسقطت إحداهما في سماء نجامينا, بواسطة صاروخ هاواك أطلقته كتيبة الدفاع الجوي رقم 403.
بدأت العلاقات, في تلك الأثناء, بين وداي, وليبيا, في التدهور على نحو جدي؛ فقد قام الأمن الليبي بمهاجمة زعيم المعارضة, المتهم برغبته في الاتفاق مع حبري, في محل إقامته في طرابلس, فجُرح, واضطُّر للذهاب إلى الجزائر منفيا. لكن القذافي أنكر ذلك تماما, وأكد أن من قام بذلك "عناصر تشادية", مما استدعى تدخل قوات الأمن الليبية. ثم صرح, محبطا, : "لم نعد نرغب في دعم شخص لا يكف عن الانقلاب ضدنا, كما لم تعد لنا رغبة في إرسال قوات إلى تشاد" [19]
أجبر هجوم معاكس تم في عام 1987, قواتِ القذافي على الانسحاب من البلاد, ومن سخرية القدر أن يقوم إدريس دبي, وهو رفيق سلاح سابق لحبري, بطرده من السلطة في الأول من شهر ديسمبر عام 1990. لقد تحول هذا العدو الشرس للقذافي, إلى حليف للجماهيرية, مقابل اتفاقيات مالية كبيرة. لذا فقد أرسل في أثناء الثورة الليبية في عام 2011, إلى ليبيا 1500 رجل على متن أربع طائرات شحن؛ لدعم قوات القذافي !
حكمت محكمة العدل الدولية في لاهاي لصالح تشاد في صراعها مع ليبيا المتعلق بأوزو, لكن القذافي, الذي انسحب من الشريط بالقوة, لم يعترف رسميا بالحكم. لا عجب من ذلك؛ لأنه لا يوجد, بحسب الديكتاتور عدل, سوى عدله.
لقد كشف الخلاف التشادي عن خلافات استراتيجية بين فرنسا, والولايات المتحدة؛ ففي حين أن هذه الأخيرة أظهرت رغبة ملحة في القضاء على الديكتاتور الليبي بأسرع ما يمكن, وأنها اهتمت بأمر تشاد, من أجل القضاء عليه, كانت السلطات الفرنسية تنظر إلى عملها هناك نظرة طويلة الأمد, رغبة منها في فرض حالة وضع راهن دقيق, وفي عدم ترك منطقة نفوذها الأفريقية تخرج عن سيطرتها[20]. يُبِينُ هذا الخلاف, الذي تتم فيه التحالفات, وتنتهي, وتتوالى فيه عملية أخذ الرهائن, والانقلابات العسكرية, وتتداخل فيه المصالح, وتتصادم, عن طموحاتِ القذافي التوسعية, ومناوراته, وأيضا عن عدم قدرته على مواجهة خصم أقوى منه؛ فيتجه المتبجح, بعد فشله باعتباره استراتيجيا, إلى ممارسة الأعمال الإرهابية بنذالة, وإلى اضطهاد معارضيه, كما يُظهر في الوقت نفسه "مرض الانفصام" المصابة به فرنسا التي قاتلت ذلك الذي قامت هي نفسها بتسليحه.




[1] Cf. l’excellente étude de René Otayek, «  La Libye face à la France au Tchad : qui perd gagne ? » Politique africaine, 16 décembre 1984, p. 66-85.
[2]  الصياد, 18 نوفمبر 1988. زعم في مقابلة مع صحيفة الكفاح العربي (24, أكتوبر 1988), أن المتمردين لجأوا إلى ليبيا؛ لأنها بلد مسلم, مستبعدا بذلك أي طموح توسعي.
[3]  السفير, 1 يناير 1988.
[4]  خصص هيسيل في كتابه المعنون بـ رقص مع القرن, فصلا كاملا لقضية كلوستر, اعترف فيه بالدور الرديء" الذي لعبه فيها (Seuil, « points », 2011, p. 2011.)
[5]  لقد تحولت هذه القضية المؤثرة إلى فيلم سينمائي, بعنوان أسيرة الصحراء, بطولة ريمون دوباردون, وساندرين بوناير. كما كتب عنها بيير كلوستر كتابا بعنوان :  L’Affaire Claustre : autopsie d’une prise d’otages, Karthala, 1990.و كلود ووتيير كتابا آخر بعنوان عنوانه : quatre présidents et l’Afrique, Seuil, 1995
[6] Patrick Pesnot, Les dessous de la Françafrique, op. cit., p. 285 sq. ; Vincent Nouzille, Dans le secret des présidents, 2011, p. 90.
[7]  أخبر جيسكار ديستان خلفه فرانسوا ميتران, خلال حقل تسلم, واستلام السلطة, أن فرنسا, والولايات المتحدة تعدان للقيام بعملية ضد القذافي " في شهر أغسطس" (Françoit-Olivier Gisbert, Mitterrand, Une vie, Seuil, 2011, p. 304 )
[8] Newsweek, 20 juillet 1981.
[9] Giesbert, op. cit., p. 372.
[10]  Nouzille, op. cit., p. 97 ; Tom Weiner, Des cendres en héritage, L’histoire de la CIA, Tempus, p. 520.
[11] Burgat et Laronde, op. cit., p. 112.
[12] Libyan Activities, in Northern Chad, mémorande de la CIA du é novembre 1982 ; Libya-Chad Militry Situation, mémorandum de la CIA, 9 décembre 1982 (Nouzille, op. cit., p. 99).
[13] Entretien avec Laurent Correau (RFI).
[14] Entretien avec Georges Saunier, Institut François-Mitterrand, 14 juin 2005.
[15] Roland Dumas, Coups et blessures, Le Cherche Midi, 2011, p. 285.
[16] Jacques Attali, c’était François Mitterrand, Livre de Poche, 2007, p. 273.
[17] Gisbert , op. cit. , p. 577.
[18] Roland Dumas. Le Fil et la Pelote, Mémoires, Plon, 1996, p. 410-424 et Affaires étrangères, 1981-1988, Fayard, 2007, p. 309.
  السفير, 1 يناير 1988.[19]
[20] Ghassan Salamé, Appels d’empire, Fayard, 1996, p. 285

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق