الأحد، 7 أغسطس 2011

ترجمة : خالد محمد جهيمة : اضطهاد



الفصل العاشر من كتاب تشريح طاغية"
أليكسندر نجارAlexandre Najjar
ترجمة : خالد محمد جهيمةKaled Jhima

يُدين الكاتب الليبي هشام مطر, في كتاب مؤثر بعنوان في بلاد الرجال[1], درجةَ الرعب التي يمكن أي يصل إليها ديكتاتور ـ أعني هنا معمر القذافي ـ  إنه يحكي تاريخَ الإرهاب, والقمعِ البوليسيين اللذين عاشت في ظلهما الأسرُ الليبية, وبخاصة الأطفالَ الذين كانوا يشاهدون كل ما يحدث (مراقبة مستمرة, تفتيش البيوت, اعتقالات, محاكمات, إعدامات منقولةٌ مباشرة عبر شاشات التلفزيون), دون التفكير في أي طريقة لحمايتهم. كما وضَّح الأسلوب الذي يلجأ إليه الأمن السياسي لاستخدامهم, وللتلاعب بهم ؛ من أجل أي يشاركوا, دون أن يشعروا بفداحة ما قاموا به, في اختفاء والديهم . لعل من بين نقاط الذروة في تلك الرواية, تلك اللحظة التي يترك فيها الراوي, الطفلُ سليمان, نفسَه ليخدعه أحد أعضاء جهاز المخابرات؛ فيخبره بما يعلم؛ ويخون, من حيث لا يدري, أباه, وأصدقاءَه...[2]

هذا الوصف ليس كاريكاتيرا؛ بل هو وصف يعكس حياة المعارضين اليومية, ومناهجَ جلاوزة النظام الديكتاتوري. لقد أُعدِم رميا بالرصاص, في سجن أبي سليم, في طرابلس, بتاريخ 29 يونيو 1996, ألفٌ ومائتا معتقل ـأغلبهم من الإسلاميين أعداء القذافي الألداء, كما كان من بينهم ليبراليون أيضاـ لكن السلطات أخفت الحقيقة , على الرغم من من استمرار عائلات كثر في نقل الأكل, والملبس, وتركهما على أبواب السجن, معتقدين أنها ستصل إلى أقربائهم, الذين كانوا في عداد الموتى آنذاك. ولم تعترف تلك السلطات بحصول اضطرابات في السجن المذكور, إلا في عام 2004, زاعمة أن سقوط هؤلاء الضحايا كان نتيجة تبادل لإطلاق نار بين الحراس, والمعتقلين على إثر تمرد قام به هؤلاء, ثم اقترحت في النهاية تقديم تعويضات إلى أهالي الضحايا, الذين رفضوا التنازل قبل معرفة المسؤولين عن المجزرة.
التعذيب والاغتصاب أمران شائعان في سجون القذافي, التي تعد, كما في أغلب البلاد العربية,  بحسب تعبير معارض تونسي, "أدغالا حضرية, تمثل العودة إلى البربرية"[3]. وهو ما يشهد عليه الطبيب الفلسطيني, والممرضات البلغاريات, الذين اتهموا بنقل مرض الإيدز لأطفال ليبيين. لقد وصلت الممرضات الخمس المتهمات إلى ليبيا في عام 1988, للعمل في قسم الأطفال. أما الشاب أشرف الحجوج, طبيب التخدير الفلسطيني, فقد كان يقضي فترة تدريبية هناك, ويشترك مع الممرضات في العمليات الإنسانية التي كانت تتم في مستشفى بنغازي في ظل ظروف يرثى لها. اكتشفت الخدمات الطبية الليبية, في عام 1999, أن 400 طفل كانوا يعالجون في هذا المستشفى, قد تعرضوا لعمليات نقل دم ملوث بفيروس في أي إتش, وتم اتهام الطبيب, والممرضات الخمس مباشرة, بعد تحقيق قضائي, بنقل الفيروس إلى الضحايا قصدا, وبأنهم كانوا جزءا من مؤامرة كبيرة.؛ فتعرضوا للتعذيب, وكانوا هدفا لأعمال لا يمكن تصورها؛ كإطلاق الكلاب عليهم, وتعذيبهم بالكهرباء, وضربهم ضربا مبرِّحا. لقد تعرضوا لكل أنواع الإهانة, والعنف. ومن الأمثلة على ذلك ما حكاه إيمانويل ألتيت, المحامي الذي دافع عن البلغاريات, بقوله : "لقد كانت الشرطة تتركهم من غير أكل تقريبا, وكانوا يجردونهم من ثيابهم في أثناء كل جلسة تحقيق, ويضربونهم بأسلاك كهربائية, وبالسياط, وبالحبال... كما كانوا يُضربون بالمواسير على باطن أرجلهم حتى تسقط أظافرها. ويضعون أقطابا كهربائية على الأقدام, وعلى الأثداء, وعلى الأعضاء التناسلية؛ فتهزهم الصدمات الكهربائية, من القدمين إلى الرأس"[4]. أكدت هذه الرواية إحدى الممرضات, وهي كريستيانا فالشيفا’ بقولها : "لقد تناوبت علينا العصي, والحبال النحاسية, ليل نهار.... تورَّمت...بصق محمد على وجهي, ووضع رماد السجائر في فمي, ثم استمر في لعبته تلك مُستخدما سيجارة .... كان الجنرال يمسك عصا كهربائية..... وكان يطلب مني؛ ليريحني من الكهرباء, الجري على أرض مليئة بالشوك. لم يبق من جلدي شيء... أعتقد أنني عرفت كل صور المعاناة الجسدية..... ليس هناك كلمات يمكنها التعبير عما تعرضنا له" [5] شهادة اشرف, هي أيضا, مفحِمة. يقول : "حُبست في الأيام الأولى في حجرة مع ثلاثة كلاب, أُمِرت بمهاجمتي (...). من الأشياء التي تعرضت لها, ربط ذكري بسلك معدني, وجذبي من خلاله في الصالة. لم أتوقف عن الصراخ. لكن الأسوأ كان آلة التعذيب الكهربائية, فقد كانوا يضعون خيطا على أحد أصابعي, وآخر على أذني, أو على أعضائي التناسلية. لقد عذبت في بعض الأحيان, في الحجرة نفسها (التي كانت الممرضات يعذبن فيها). كنت عاريا, وهن نصف عاريات. أستحي أن أخبر عما كانوا يفعلونه بالنساء. لقد اغتصبن.". اعترف سيف الإسلام, عندما سئل عن ذلك, بتاريخ 9 أغسطس 2007, بهذه الاعتداءات, مدققا في شهادة الفلسطيني : "لقد عذبن بالكهرباء, وهددن بالانتقام من عائلاتهم. لكن جزءا كبيرا مما يقوله الطبيب الفلسطيني الأصل, هو محض كذب". كما لو أن التعذيب بالكهرباء لا يعد جريمة في حد ذاته !
على الرغم من شجب المتهمين, في أثناء المحاكمة, ظروف اعتقالهم, وتعذيبهم, فإن ذلك لم يقلق حراسهم, بل قام هؤلاء برفع قضية تشهير ضدهم. سُلِّمت الممرضات الخمس, ومعهن الطبيب الفلسطيني, في النهاية, إلى بلغاريا, بتاريخ 27 يونيو 2007, بعد أن أكدت محكمة الاستئناف حكم الإعدام الصادر بحقهم, ثم استبدل بالسجن مدى الحياة. وقد تم ذلك بعد مفاوضات طويلة قادها الاتحاد الأوروبي, وعلى إثر اقتراح بتعويض عائلات المرضى. وصلوا جميعهم إلى صوفيا على متن طائرة الرئاسة الفرنسية, في صحبة سيسيليا ساركوزي, والمفوضة الأوروبية للعلاقات الخارجية بينيتا فيريرو والنير, وسكرتير الإليزيه العام كلود جييان. أجابت ابنة الديكتاتور المحامية عائشة, عن سؤال صحيفة التليجراف, المتعلق بالاعتداء على حقوق الإنسان في بلدها, بقولها : " حاولت أن أفهم لماذا يتهم الناس ليبيا باعتدائها على حقوق الإنسان, لكنني لم أجد لذلك سببا. هذه الانتقادات لا أساس لها"[6]. إذا قالت حذام فصدقوها...
يوجد, بحسب منظمة هيومن رايتش, "عشرات الأشخاص في سجون ليبيا, بسبب ممارستهم أنشطة سياسية سلمية, كما أن بعضهم قد "اختفى" "؛ فالقانون رقم 71 يمنع أي نشاط سياسي, ومن يخالف ذلك يعرض نفسه للحكم عليه بالإعدام.. لقد سجنت السلطات الليبية, على مر السنين, مئات الأشخاص, وأعدمت بعضهم؛ لمخالفتهم هذا القانون. من بين هؤلاء إدريس أبو فايد, اللاجئ السياسي السابق, والذي حكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات , ثم أفرج عنه  لسبب طبي, وبفضل الضغوط الدولية[7]. لقد أُلحق هذا الليبي, عندما كان طبيبا شابا, بالجيش الليبي, وذهب معه إلى تشاد, وأسَرَته القوات التشادية, ليمضي عامين في زنزانات حسين حبري , الذي كان رئيس الجمهورية التشادية آنذاك. ثم انضم, بعد ما أُطلق سراحه في نهاية الثمانينات, مع ألف ومائتي سجين آخرين, إلى الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا, التي تأسست في عام 1981 للإطاحة بالعقيد. يؤكد إدريس أن "القذافي يسجن, أو يقتل, منذ عام 1973, كل قادة المعارضة".  حَمى الطبيب الشاب نفسه, في بداية الأمر, باعتباره أسير حرب؛ فلم يستطع النظام فعل أي شيء ضده. لكن ارتفاع شدة الضغط, وخوفَه على حياته دفعاه إلى طلب اللجوء السياسي, عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر.لكن, وصولَه إلى سويسرا لم يضع حدا للضغوط؛ فلم يتوقف التهديد, والتخويف. لذا قررت برن إخفاءه في كانتون جريسونو, ووفرت له حماية أمنية. رجع إلى بلده, بكل ثقة, بعد أن أعلنت ليبيا, في عام 2006, العفو عن أي شخص هرب من البلاد, ولم يشوه يديه بالدماء. لكن ضرا مسَّه؛ فسُجن بسبب تخطيطه للقيام بمظاهرة سلمية, وحُكم عليه بالسجن مدة خمسة وعشرين عاما بذريعة قيامه "بمؤامرة إرهابية". أما ظروف سجنه, فقد كانت مخالفة لكل الاتفاقيات؛ فقد وضع في عزلة طيلة فترة سجنه تقريبا, ولم يسمح لعائلته بزيارته أبدا, كما أن اللقاء الوحيد الذي جمعه بمحاميه, تم قبل ثلاث دقائق من بداية المحاكمة. لقد كان يسمع من زنزانته صراخ السجناء, وهم يعذبون. يحكي أنه رُبط, في فترة النقاهة, على سريره, وأحيط بأربعة حراس مسلَّحين. فاشترك في إضراب عن الطعام, احتجاجا على تلك الظروف, لكن من دون جدوى. بل إن مرضه نفسه, عندما اكتُشفت إصابته بمرض السرطان, استُغل لابتزازه؛ إذ عرضت عليه السلطات الليبية, ثم مؤسسة القذافي للتنمية أن تجرى له عملية جراحية خلال أربعة أيام, مقابل أن يتوقف نهائيا عن أي مطالبات سياسية. لكنه خاطر بحياته, ورفض العرض. ثم أُطلق سراحه في النهاية بفضل ضغط المجتمع الدولي.
من الذي سجنوا في ليبيا أيضا, السويسري ماكس جوادي, الذي أمضى أربعة أشهر "بعد أربعة أشهر من محاكمة غير عادلة". تقول بشأنها  ديانا الطحاوي  الباحثة في منظمة العفو الدولية : "إن لم تحترم المعايير الدولية في حالة كهذه, ركزت عليها وسائل الإعلام, وتعرضت السلطات الليبية بسببها لضغوط كبيرة, فيمكنكم تخيل كيف تجري الأمور بالنسبة لأناس عاديين, لا يسمع عنهم أحد". سُمح لهذه المنظمة بزيارة ليبيا, في عام 2009, لأول مرة منذ خمس سنوات؛ فذهبت ديانا الطحاوي صحبة عدد من مسؤولي هذه المنظمة الغير حكومية, وقضوا أسبوعا في طرابلس, وما حولها, وقاموا بزيارة ثلاثة سجون, كان من بينها سجنُ الجديدة, الذي اعتقل فيه ماكس جولدي, ومركزُ اعتقال مخصَّص للمهاجرين الغير شرعيين. لكن السلطات الليبية منعت الوفد من زيارة سجون أخرى في شرق البلاد, وغربها, ولم تسمح لهم بالصعود إلى طائرة كانت متجهة إلى بنغازي, المدينة التي كانت ستلتقي فيها عائلات معتَقلين. مات جاب الله, والد الروائي هشام مطر, في أحد هذه السجون. يتذكر هذا الكاتب قائلا : "كان أبي معارضا سياسيا, وقد لجأت عائلتي, وعمري 9 سنوات, إلى القاهرة هربا من عقاب النظام... ثُم خطَفه الأمن السياسي المصري في عام 1990, وسلمه إلى الليبيين, الذين وضعوه في سجن أبي سليم, الذي نجح في أن يبعث إلينا منه رسائل, في عام 1995, حكى لنا فيها عن ظروف اعتقال السجناء السياسيين السيئة. لقد كانت تلك آخر كلمات وصلتنا منه"[8]
لم تتغير هذه التصرفات البربرية ؛ فقد دخلت, خلال ثورة 2011, امرأةٌ, اسمها إيمان العبيدي, فجأة إلى فندق يأوي مراسلين صحفيين أجانب, وكشفت عن كدماتها, وأخبرت الصحفيين بأن رجال القذافي اغتصبوها؛ لأنها من بنغازي, قبل أن يقوم رجال الأمن بإخراجها بالقوة من هناك. اعترف الناطق باسم القائد, بعد زعمه أن هذه المرأة كانت سكرانة, بخطورة الحادثة, وأكد أن تحقيقا مكن من اعتقال أربعة أفراد....كما تعرض الثوار الذين قبض عليهم, خلال هذه الأحداث, لكل أنواع العنف؛ ووصلت الدرجة بأن أجبِر أحدهم على تجرع دم أخيه المقتول[9] !
لقد اختفي كذلك عدد من المعارضين, كعزات يوسف المقريف, الذي اختطف من القاهرة, بتاريخ 12 مارس 1990[10], أو منصور الكيخيا, وزير الخارجية الليبية السابق, الذي خطف في العاصمة المصرية  في شهر ديسمبر 1993, ورُحِّل على الأرجح إلى ليبيا, التي قتل فيها. كما قُتل آخرون في حوادث سيارات دبرتها أجهزة الأمن الليبية, كما حصل مع محمد الحراثي, وعطية الكاسح, وإبراهيم البشاري, وزير الإعلام, ومدير الأمن سابقا, ومَحِمَّد المقريف أحدِ أعضاء مجلس قيادة الثورة, وأيضا الشاعر سعيد المحروق, الملقب بسيفاو, أحد رموز الشعب الأمازيغي الذي اضطهده نظام القذافي, والذي ظل معاقا طيلة حياته, بسبب حادث سير "مدبَّر", ومات في المنفى, في جربة, في عام 1994. كان سيفاو يقول دائما : "يمكن أن تعدَّ كتابة الشعر في ليبيا جريمة. وهي الجريمة نفسها التي اخترت, أنا, ارتكابَها ! "[11]
يضاف إلى هؤلاء خمسة وثلاثون معارضا ليبيا قتلوا خارج البلاد, قتلهم قتلة مأجورون لحساب القذافي :
عيسى الدرسي, قتل في أثينا  في عام 1076.
سليم الرثيمي, روما, 1980.
محمد رمضان, لندن, 1980.
عبد الجليل عارف, روما, 1980.
عبد اللطيف المنتصر, بيروت, 1980.
محمود نافع, لندن, 1980.
عمر المهدوي, بون, 1980.
عبدالله الخزامي, روما, 1980.
محمد أبو حجر, روما, 1980.
أبو بكر رحمان, أثينا, 1980.
عزالدين الحضيري, ميلانو, 1980.
أحمد أبو رقية, مانشستر, 1980.
السنوسي ليطيوش, أثينا, 1980.
عبد الحميد الريشي, روما, 1981.
عمران الفيتوري, أنقرة, 1981.
صالح أبو فروة, رومانيا, 1983.
صالح الشطيطي, أثينا, 1984.
عبد المنعم الزاوي, أثينا, 1984.
محمد خميس, روما, 1984.
أحمد البراني, قبرص, 1985.
جبريل الدينالي, بون, 1985.
المهدي بوزو, باريس, 1985.
الشيخ مبروك الترهوني, السعودية, 1984.
مصطفى السويحلي, مدريد, 1985.
حسين العبيدي, بولندا, 1985.
محمد عاشور, برلين, 1986.
محمد فحيمة, أثينا, 1987.
محمد المسناني, مالطا , 1987.
يوسف خريبيش, روما, 1987.
الرضا السنوسي, القاهرة, 1995.
محمد عرب, القاهرة, 1995.
على محمد أبو زيد, لندن, 1995.
محمد بن غالي, لوس أنجلوس, 1996.
عمر علي محمد, مالطا, 1996.
ينبغي أن يضاف إلى هذه القائمة الطويلة, التي أعدتها المعارضة الليبية, العديدُ من محاولات الاغتيال, التي جرت في عواصم عربية, وأوروبية, والتي استهدفت دبلوماسيين, وضباطا سابقين معارضين[12], وأيضا "تسليمُ العقيد السوداني هاشم العطا, الذي غير اتجاه طائرته القادمة من لندن, رجالُ مخابرات القذافي, لنميري الذي قتله رميا بالرصاص مباشرة[13]
قام حرس السفارة الليبية في لندن بإطلاق النار على المتظاهرين, بتاريخ 17 أبريل 1984, وقتلوا على الفور الشرطية إنجليزية, إيفون فليتشر. التي لم يقبض على قتلتها, حتى الآن, أي بعد ثمانية عشر عاما من الحادثة, لكن صحيفة الديلي جراف, تعتقد أنها تعرف المسؤولَين الليبيَّين اللذين تم معرفة هويتهما أخيرا[14]. تَمَّ وضعُ نصب تذكاري باسم إيفون فليتشر في ميدان سانت جيمس.
من القصص المروعة  أيضا, تلك المتعلقة بعمر المحيشي, أحدِ أعضاء مجلس قيادة الثورة الاثني عشر, والذي هرب إلى تونس في منتصف شهر أغسطس 1975, على إثر إفشاء سر محاولة انقلابية مزعومة كان سيقوم بها مع عضوين آخرين من أعضاء المجلس المذكور, هما بشير هوادي, وعوض حمزة, وبعضِ الضباط الأحرار, الذين ينتمي معظمهم لمدينته مصراتة. لكن الرئيس أبو رقيبة رفض تسليمه, على الرغم من إصرار القذافي على ذلك.  لجأ المعارض بعد ستة اشهر إلى مصر, ثم استقر في المغرب. وحكمت عليه محكمة عسكرية غيابيا بالإعدام, وكذلك على 21 ضابطا شابا, تم رميهم جميعهم بالرصاص. قام الحسن الثاني, على عكس كل التوقعات, بتسليمه, في عام 1983, للقذافي, مقابل أن تُوقف الجماهيرية دعمها جبهةَ البوليساريو [15]. حطت الطائرة الملكية, التي كان يفترض فيها نقل عمر إلى مكة لأداء فريضة الحج, فجأة في ليبيا, حيث كان العقيد شخصيا في استقبال رفيقه السابق, فأشبعه ضربا, وطلب من المحكمة العسكرية, التي اصطحبها معه إلى القاعدة الجوية بالمناسبة, بأن تحكم عليه بالإعدام, ثم أمر رجاله بتنفيذ الحكم في المكان نفسه.[16]
هناك أيضا قصة المعارض ضيف الغزال, البالغ من العمر 32 عاما, والصحفي بصحيفة ليبيا اليوم, التي تصدر على الانترنت, من لندن. لقد خُطف لإدانته فسادَ, ومحسوبيةَ القائد, فَعُذب, وقُطِّعت أصابعه, وعثر على جثته في بنغازي, بتاريخ 1 يونيو 2005, وقد أدانت منظمة مراسلون بلا حدود هذه الجريمة مباشرة, كما نشر كوريشيرو ماتسورا, مدير منظمة اليونسكو العام بيانا صحفيا ندد فيه "بقتل هذا الصحفي الشجاع الذي دفع حياته ثمنا لدفاعه عن حق أساسي, يتمثل في حرية التعبير. إن التعذيب الوحشي الذي تعرض له قبل وفاته, لَيعبر عن  غياب المبادئ الأخلاقية لدى قتلته"
لم يَسلم من أذي القائد حتى رجاله المقربون منه؛ فقد قَتل ابنَ عمه العقيد حسن اشكال عضو مجلس قيادة الثورة, وآمر السلاح الجوي[17], في شهر نوفمبر 1985. لقد تمت, بحسب رولان دوما الذي استشهد بمارغريت تاتشر, تصفيةُ اشكال, لذهابه بعيدا في سياسته القريبة من الغرب. وقد وشت به, بحسب المصدر نفسه, "الشبكات الاستخبارية الفرنسية" التي كانت تراه قريبا من الأمريكيين؛ لأجهزة أمن القذافي[18]. لكن هذا الاتهام الخطير يصعب التحقق منه, ما لم يتم رفع الحضر عن نشر الأسرار العسكرية.
ظلت أغلب هذه الاغتيالات, أو محاولات الاغتيال, الجديرةِ بسفاح, دون عقاب؛ فكيف  يمكن تفسير كسل قوات الأمن, وعجز القضاء في الدول التي تمت فيها ؟ يوضح منصف المرزوقي, الذي عرفت بلاده الوضع نفسه, ذلك بقوله : "هذه جرائم قتل لمعارضين, أو متظاهرين من عامة الناس, ويُقضى فيها, عادة, وفق القوانين العامة, لكنها تهرب منها؛ بحجة أنها ارتكبت باسم ما يُدعى الأمن الوطني, أو بوسائل الدولة المناط بها حماية المواطنين. نحن إذن أمام مفارقة, بحيث يوجد في المجتمع نوعان من الجرائم, ونوعان من التعامل معهما؛ فهناك الجرائم التي يرتكبها الأقوياء, والتي لا يطبق عليها القانون العام (...) والجرائم التي يقوم بها ضعاف الناس, الذين يدفعون ثمنها غاليا"[19]. أما القذافي, فقد غسل يديه منها, لكنه يعترف بأن اللجان الثورية هي التي تقضي على المعارضين في داخل البلاد, وفي خارجها, وهي التي تحاكم المتهمين, وتحكم عليهم, عند الحاجة, بحسب "القانون الثوري". في حين يُصر على أنه ليس من حق المعارضين استهدافَه؛ لأنه لا يملك أي سلطة؛ فالشعب هو من يحكم في الجماهيرية, لذا فهو يدعو المعارضة إلى الرجوع إلى البلاد, والتعبير عن آرائها في المؤتمرات الشعبية الأساسية[20]. أما خارج هذه المؤتمرات, فإن المعارضين, وبخاصة الإسلاميين منهم, فيجب أن يعاملوا "كما يعامل الذباب, والصراصير"[21], ويستحقون  التصفية دون محاكمة؛ لأنهم "كالأبقار المجنونة المعدية"[22]
يعزو العقيد, في أحد نصوصه, سُقوطَ الشيوعية, إلى الابتزاز الذي مورس في الاتحاد السوفييتي. يقول : "ما هو سبب هذا السقوط ؟ ورطَّت الماركسية العالم في طريق التصفية الجسدية للطبقة المعادية, وقتل المعارضين السياسيين, والسجن السياسي, والشرطة السرية, والأمن, والمحاكم الخاصة, على طريقة الثورة الفرنسية"[23] يبدو أننا نحلم ! فالقائد الذي قضى على معارضيه, وكمم الحرية في ليبيا, ليس لديه ما يَحسد عليه أولئك الذين تأسَّف لتجاوزاتهم. عندما ينظر الطاغية إلى نفسه في المرآة, يرى نفسه نقيا.



[1] Hisham Matar, Au pays des hommes, Paris, Donoël, coll. « & d’ailleurs », 2007.
[2]. Charif Majdalani, L’Orient littéraire, Mars 2011.
[3] Marzouki, op. cit., p. 48.
[4] Emanuel Altit, Dans les geôles de Kadhafi, Jean-Claude Gawsewitch Editeur, 2007, p. 73.
[5] Kristyana Valcheva, J’ai gardé la tête haute, Oh ! Edition, 2007, p. 90 et 150.
[6] The Telegraph, 10 octobre 2010.
[7] Cf. le magazine Ammnesty, n° 58, publié par la section suisse d’Ammnesty Internatinal, septembre 2009.
[8] Jeune Afrique, 13-19 mars 2010.
[9]  Le Point, 3 mars 2011, p. 46.
[10] René Naba, Libye, la révolution comme alibi, Ed. du Cygne, 2008, p. 99.
[11] Lorient littéraire, avril 2011, p. 4.
  [12]  محمد يوسف المقريف, جرائم اللجان الثورية في ليبيا, مركز الدراسات الليبية, 2009, ص. 212, وما بعدها.
[13] Naba, op. cit., p. 99.
[14] The Daily telegraph, 16 octobre 2010.
[15] Jeun Afrique, 30 août 2009, الحياة , 16 أكتوبر 2010
 الشراع, عدد 1485, 21 مارس 2011, ص. 6.[16]
 لم يكن حسن اشكال عضوا في مجلس قيادة "الثورة", ولا أعتقد أنه كان آمرا سلاح الجو (المترجم).[17]
[18] Dumas, op. cit., p. 278.
[19] Marzouki, op. cit., p. 57.
 مقابلة للقذافي مع مجلة المجلة, 29 يناير 1985.[20]
 خطاب بتاريخ 6 أغسطس 1990.[21]
 خطاب بتاريخ 19 يوليو 1990.[22]
[23] Mouammar Kadhafi, Escapade en enfer et autres nouvelles, Favre, 1996, p. 155.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق