هناك نوع من القرّاء من يفهم دلالات الألفاظ ويدرك المفاهيم ويفسرها وفق خارطته الذهنية وفي إطار رؤيته للأمور وفي قالب خبرته وتجربته الذاتية غير عابئ بأسوار العوائق النفسية، و لا بشباك صور الأسر الوجدانية، و لا بأحابيل القولبة الذهنية، و لا بمحددات الثقافة والبيئة، التي شكلت لديه تعاريج زوايا النظر إلى الأمور، و لا بالأفكار المسيطرة والمهيمنة على اختياراته الفكرية والتي تنتهي به إلى طريق محدد الاتجاه سلفا. قد تكلّست علاماته، وابتليت بالجمود مناراته، فأضحت حركته الذهنية عبر ذاك الطريق معروفة المآل والخاتمة فيقطعه دون حاجة للتوقف ولا التلفت ولا الاهتمام بخيارات السير والمرور الذهني الأخرى والممكنة. قد كفته العادة والألف همّ ذلك كله، بل أصبح لديه – أحيانا وبفضل التمرس في التمترس خلف الأنماط الذهنية المتجذّرة- المقدرة على القفز إلى آخر الطريق دفعة واحدة عندما يلوح له سراب صورته، ويكفيه التعرّف على إشارات بدايته لتقوده إلى حتمية نهايته.
الأحكام عند هذا النوع من القرّاء مسبقة وقاطعة، وغير قابلة للنقاش والجدل، وإثارة السؤال حولها يعد بلبلة وتشكيك، وطرح احتمال آخر مهما كان سائغا يعد مصادرة، وأي رؤية مخالفة مهما بدت مقنعة تعدّ جنوحا وميلا عن الجادة.
من كانت هذه حاله من القراء غلب عليه الانتقاء والتجزيء. فهو لا محالة تارك لكل ما لا ينسجم مع رؤيته من حقائق أو معلومات، مهملا لها لعدم تمشيها مع أسلوب رصفه لغيرها مما ارتضاه وقابل في مخيلته استحسانا.
و لا يدري قارئنا أن مجرد تغيير حدود البناء الذي شيد أركانه، وتحرير الحقائق من أسر مساراته، ومحاولة إعادة تأطيرها وتشكيل هيكل آخر جديد ينتظمها قد يقوده إلى احتمال أفضل وفهم أقوم.
إن مجرد تغيير الفكرة التي قرأ في ضوئها النص قد تقوده إلى تفسير أكثر إبداعا وإشراقا. كما أن تغيير دوائر الاهتمام الذهني لتتعدى الدائرة الأولى التي سيطرت على التفكير كفيلة بتوجيه سير الفكر نحو اتجاه آخر ما كان يخطر على بال صاحبه إمكانه.
وبالإضافة إلى ذلك نجد أن التأمل المبدع الذي يتوقف عند محطات السير الذهني من حين لآخر ليتساءل: هل من تأويل آخر لهذا؟ يا ترى هل من إدراك مختلف لذاك؟ كل ذلك من شأنه أن يسد الباب أمام المسارات الذهنية الجامدة ليفتح طرقا جديدة تسير بالفكر ليستقر في محطات أفضل.
ومن أدوات القراءة المتجردة، التحدي المبدع للعوامل التي تؤثر على تشكل التفكير من فرضيات ومفاهيم مسيطرة، لاختبار فرضيات ومفاهيم جديدة تعين القارئ على تشكيل رؤية أعمق وتصور أدق للقضايا والآراء.
وأخيرا فإنّ تعويد الذهن على الحركة إلى الأمام، وتحريره من سيطرة الأوهام، وعدم الرضا بما يستعجله من أحكام، وما ينتج عنه من حسن فهم وإدراك لما نقرأه، إن لذلك كله فرحا ونشوة لا يدركها إلا من تجرّد وصبر وقلّب زوايا النظر وسبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق