الأحد، 22 مايو 2011

د. فتحي خليفة عقوب : الوعي المدني وموقعه في خارطة طريق ليبيا


لا تقتصر أهمية الوعي المدني على أنه مقدمة لبناء مجتمع مدني، من حيث إنه ليس فكرة عقلانية مجرّدة، بل هي عمليةٌ مُرتبطة بالواقع المادي المحسوس ارتباطا وثيقاً. بداية، وبعيداً عن اختزال مفهوم التوعية المدنية في عملية التوعية السياسية، فإن الظرف الراهن يقتضي ضرورة التأكيد على مسألة التوعية تلك، بل التوعية المكافئة والملائمة لظروف الثورة، بحيث تشكّل قنطرةَ عبورٍ صلبة إلى مرحلة جديدة تُوصل في نهاية المطاف إلى مرحلة بناء الدولة بسلاسة وسلم. لذلك وفضلا عن ضرورة إصلاح منظومة الوعي برمتها التي عمل نظام القذافي على هدمها لأكثر من أربعين سنة، تتأكد أيضاً ضرورة الاهتمام الجِدّي ببرامج التوعية والتعبئة التوعوية العملية للمرحلة التالية. وإنّ مما يَستدعي هذه الضرورة غيابُ الأفق الذي ينبغي أن يحتضن مرحلة جديدة من تاريخ ليبيا، مرحلة لم يكن مُخطَّطاً لها ولم يكن وراءَها أيّ مشروعٍ أو عملٍ سياسي مُنظَّم وسابق لمرحلة الثورة، وأعني تحديداً غيابُ ميثاق وطني - أو أيّ مُسمّى آخر - يَحظى بإجماعٍ وطني عليه ويُحدِّد إطارا للمرحلة وما بعدها، بحيث يُمثّل الأُفُق المنشود الذي يَنبغي أن تَتحرّك في إطاره الجهود الوطنية بعامة وفي نفس الوقت يُمثّل هدفاً عاماً في هذه المرحلة، يَعضده عملٌ جادٌّ على أرض الواقع، كخطوة أولى يجب أن تكون حاسمة لتجاوز مرحلةٍ دمويّة اتسمت بفوضى عارمة وأدّت لاضطراب واسع في مختلف المجالات، وللانتقال إلى مرحلة جديدة مُشرقة تسعى لبناء دولةٍ ذات سيادة ودستور ومؤسسات، يُحقِّق فيها الأفراد معاني الانتماء إلى الوطن.


وفي حين يَرى بعض الفضلاء أن التأكيد على مسألة التوعية المدنية الشاملة وضرورتها للمرحلة والتركيز على ذلك قد يفهم على أنه فرضُ وصاية على الشعب الليبي، أو حكم على مثقفيه وقياداته بالطفولة السياسية أو السذاجة، أو غير ذلك من اللوازم غير اللازمة أصلا! لا أرى أيّ مبررٍ لمثل هذه التخوّفات، بل أعتقد بأن التأكيد على ضرورة الوعي المدني هي مرحلة تمهيدية ينبغي أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تسلم الشعب الليبي وشباب ثورته المباركة زمام الأمور فهم أهلها ومَن أشعل فتيلها وهو وَقُودها، وسيقف معهم أحرار ليبيا في كل مكان، وسيُيجنبهم ذلك التّبعيّة لأيِّ طرف خارجي، ولتكون ليبية خالصةً، ويعتمد تسريع عمليّة التّسلُّم تلك على عمق عملية التوعية وشمولها، والتي يجب أن يحرص عليها أفراد المجتمع بعامةٍ وفئة الشباب على وجه التحديد.

وبالتالي فإنَّ حديثنا عن التوعية لا يعني سوى ضرورة استدعاء الوعي بمتطلبات المرحلة ومواكبة الحدث خلالها، وبغض النظر عما قد تخفيه الأيام القادمة من أحداثٍ داخليّة في مرحلة ما بعد القذافي يصعب التنبؤ بها؛ سواء كانت الأمور - كما نتمنى - ستمر بسلام ويُثبت الشعب الليبي للعالم للمرة الثانية تميّزه ويفجأ الجميع بقدرته على مواجهة أشدّ التحديات بعد مواجهته لأعتى الديكتاتوريات في التّاريخ، أم سارت الأمور في اتجاه آخر. وفي الحالتين ستكون العناية بالتوعية ورفع سقفها وتطوير آليات التعامل مع الواقع المتجه نحو تغيّرات جذرية عنصرا إيجابياً تصنع المكتسبات بحد ذاتها أو على الأقل تُعزّزها وتُحافظ عليها.

وفي خصوص الوعي السياسي وضرورته ولتقريب الصورة لمحدثي، أوضحتُ له الأمر في نقطتين عامتين :

1-     التمهيد لمرحلة انفتاح سياسي قادم، يتطلب كفاية من الوعي السياسي لدى أفراد المجتمع، بحيث لا تتمكن أيّة قوة سياسية مهما كانت مدعومة من أي طرف آخر أو تفرض بلسان حالها أو مقالها الوصاية على أولئك الأفراد، في ظل غياب أي غطاءٍ إعلامي يدعمهم ويغذي مفاصل الوعي لديهم، مما يُصعِّب عليهم الصمود في وجه حملات إعلامية منظمة، فضلا عن أيّة أساليب "كولسة" دعائية وإعلامية موجودة حتى في أكبر ديمقراطيات العالم بل لها مؤسساتها الخاصة المؤثرة بشكل كبير، كل ذلك يُعتبر من وسائل التأثير أو قل التشويش على ممارسة الشعب لحقوقه السياسية. فإذا أضفنا إلى ما سبق حداثةَ عهد مجتمعنا الليبي باللعبة السياسية من أصلها وبتلك الكواليس وطبيعتها فإننا سنصل إلى نقطة التأكيد على وجوب بناء ثقافة متينة ووعي رصين لا تهزه هذه الممارسات ولا تستلب حتى حقّ المواطن العادي فيه فضلا عن المثقف.

2-     من ناحية أخرى، وبما أن الديمقراطية التي يتنادى إليها الجميع تُعبّر عن مفهوم تاريخي متطور اتخذ صوراً وأشكالا متعدّدة في سياق التطور الاجتماعي والثقافي، وبناء على أنها تقوم أساساً على تسلم الشعب لزمام الحكم فعلياً وممارسته لدور الرقابة على مؤسسات الحكومة وأجهزتها، فبالتالي وجب أن يكون أفراد المجتمع على وعيٍ كافٍ بتلك الأشكال والتّطبيقات الديمقراطية لممارسة ذلك الدور، إضافة لحيازتهم لوعيٍ كافٍ يُرشِّد ذلك الدور الرقابي الذي ينبغي أن تقود فيه مؤسسات المجتمع المدني المتينة الجماهير قيادة واعية رشيدة، بمعنى أن العملية الديمقراطية هنا تسعى لتوفير وسائل منهجية وحضارية لإدارة المجتمع سياسياً بهدف تطوير فُرص حياةٍ أفضل يتطلع إليها الشعب منذ آماد بعيدة، إذن فالديمقراطية المنشودة تتطلب أولاً وعياً يُوجد مجتمعاً سياسياً يشكل دولةً مدنيّة، إذ غياب دولةٍ على هذا النحو لا بديل له سوى الفوضى من جديد.

أعود للتأكيد على أن الوعي المدني بمعناه الشامل هو الضمانة الأهم في أيّة مرحلة تالية، وفي ظل أيّة طروف واقعة أو متوقعة، وبالتالي لا مناص لنا – إن كنا صادقين في الحفاظ على مُكتسبات الثورة – من التأكيد على هذا الوعي وفي كل مناسبة وفي كل مجال، بداية من مجال البناء الثقافي بالحقوق والواجبات، وبأن نتعلم جميعاً ونتربى ليس فقط على احترام الإنسان الآخر أو احترام النظام والقانون، بل أن تتغذى نفوسنا بذلك من خلال التدرب عل العمل التعاوني الجماعي لتفعيل تلك القوانين والأنظمة في كل نواحي الحياة الاجتماعية، مع العمل على ترسيخ ذلك الوعي المدني بالإقناع ومخاطبة العقل والروح معاً، على أمل أن نعيش حياة أفضل، يكون فيها الإنسان المواطن هو محور المجتمع "المدني" لا مجرد ترس في آلة الأنظمة السياسية، بل إنّ أيَّ نظام سياسي كان، وأي قيادة سياسية تصل إلى سدّة الحكم، فلن تعدو أن تكون خادمة المجتمع "المدني" و وسيلةً من وسائل تنفيذ آماله وتطلعاته، ولن يكون هناك تملق ولا تزلّف، ولا محسوبية ولا وصولية ولا استبداد ولا استعباد، فقد شبَّ الجميعُ عن الطوق فلا وسائل القمع و التخويف ستُرعب، ولا التفافات السياسة ودهاليزها ستجدي، وستبقى ميادين الحرية أبوابها مشرعة لكل من تسول له نفسه العبث بآمال الشعب وتطلعاته، ولن يكون الأمر محصورا في النُّخَبُ فقط، بحيثُ يسهل قمعها أو إسكاتها أو إغراؤها أو نفيها أو استعمال أي وسيلة من عصور الظلم والظلام، بل لا حاجة أساساً عندئذ بأي طرف أو حزب أو جهةٍ لتُجهد نفسها في التنافسٍ السياسي الشرير للوصول إلى السلطة أو السيطرة على كرسي الحكم أو طاولته، لأنّها - أي السلطة والقيادة - عندئذ سوف لن تكون مَغنما بل مَغرماً، في ظل مسؤوليات جمّة وتكاليف ثقيلة، ورقابة نافذة بصيرة وجماهير واعية متيقظة .. فلن يحرص عليها عندئذ إلا من أراد الخير لأمته ولشعبه ولمجتمعه، وإلا مَن عايش آلام الشعب وعاش معاناته وأدرك تطلعاته.

وللحديث بقية بإذن الله، لأني في كل يوم أزداد يقينا بأهمية الموضوع، نسأل الله تعالى أن يسلك بنا طرق السلامة والسداد ..

د. فتحي خليفة عقوب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق