السبت، 14 مايو 2011

عبدالنبى أبوسيف ياسين : أسطورة وطن وعلم ونشيد



 
بعد غربة دامت ثلاثة عقود، كان لابد لى من زيارة للوطن، وأراه حر وشعبه حر. فبرغم زيارت قمت بها منذ تسعينات القرن الماضى كانت آخرها عام 2000..   إلاّ أنها كانت أشبه بزيارات لعزيز محبوس مظلوم.. يقبع فى سجون سفاح؛ حيث القمع فيه مباح.. والكذب مباح.. وحيث الفساد والزور مباح؛ فكلّ ما تتمنّاه، كان محرّماً.. وكلّ ما تخشاه، كان مباح. فلا تأمن فى دار.. ولا تأمّن جار.
هكذا قرّرت على أن أرى بأم عينى.. ما لم أكن أتخيّله وفق أغلى ما عندى من أمانى؛ وحتى أرى بأمّ عينى أنّ شعب بلادى.. هو نفسه ذلك الشعب المقدام الذى حدثنى عنه والدى وأعمامى وأخوالى وأجدادى.. وبأنّ ليبيا لا تلد سوى الفرسان.. ولا تنجب سوى الحرائر والاحرار.
حدثونا كثيراً عن ذلك ونحن صبياناً صغار.. وكيف قاوم آبائنا وأجدادنا بجسارة ضد جحافل الفاشية الغازية.. حتى خيّل لنا أنهم جعلوا منها أساطيرمُبالغ فيها.
ولكن ها أنا الآن فى بنغازى الثائرة العصيّة.. ودخان معارك البطولة والفدا التى خاضتها.. لم يخمد فيها بعد؛ وزرت مثوى المئات من شهدائها الأبرار.. وثرى قبورهم الزكية لم يجف بعد؛ كما رأيت جراح المئات الآخرين التى لم تلتئم بعد. شاهدت دماراً ودياراً دُكت فوق رؤوس أهلها العزّل.. من جراء قصف كتائب الموت الوحشى.. لتكون خير دليل على  شجاعة وصمود شعبنا الأسطوري. 
وليس هذا فقط، فلقد أطلعنى الأحباب - بالصوت والصورة - ما يوثّق بطولات شعب عمر المختارهذه؛ وأرى للشهيد عمر المختار فى بنغازى.. عدة مئات من الصور والاسماء.. لقيتها تزيّن جدران البطولة والشرف، فى ساحة الحرية؛ وجوه تختلف.. وأعمار تختلف.. وأسماء تختلف.. ولكن صدورهم واحدة.. تحتضن قلب أسد صحراء واحد.. من طراز قلب عمر المختار.
عرفت لأوّل مرة.. أنّ ليبيا ليست أرض المليون شهيد فقط.. ولا أرض المليون حافظ فقط.. بل هى أيضاً، أرض المليون عمر المختار. فهنيئاً لكِ يا ليبيا.
فهذا عمر مختار شابٌ يصلّى الفجر حاضرأ.. ويمشى من الظلّ إلى الظلّ، هكذا إعتقدناه. وهذا عمر مختار ثانٍ.. يلبس " الجينز" ولا يهمه سوى الحديث عن أحدث ألعاب "البلاى ستيشن" .. وعن آخر نتائج برشلونه وريال مدريد؛ وميئوس منه اعتبرناه.
وثالث أشبه بتمثال متحجّر يحتل إحدى زوايا شوارعنا.. خاملٌ - عاطلٌ - لا خدمة له ولا قدمه - هكذا صنّفناه. وهناك رابعٌ وخامسٌ.. وكم من عمر مختار آخر، تجاهلناه.
غير أنّهم لم يتجاهلوننا.. ولم يتجاهلوا آلامهم وآلام آبائهم وأمهاتهم؛ عزّ عليهم أن يتجاهلوا محنة الوطن.  فثاروا.. ليأخذوا بثأرنا.. وثأر إذلالنا وتركيعنا أربعة عقودٍ من الزمن؛ خرجوا بصدورٍ عارية.. ليستقبلوا قنابل مُسيّلة للدماء.. لا مسيّلة للدموع.. وقذائف مضادة للطائرات وللدروع، لا البشر. واجهوا ترسانة حرب فتاكة أعدّها الطاغية.. تحسباً ليومٍ مثل هذا اليوم.. يوم يرفع فيه الشعب رأسه ويقول: كفى!
فحذارِ من يوم ينفذ فيه صبر الصبور. ومن يوم يغضب فيه الحليم الوقور. فإمّا الحياة الحرّة الكريمة لهم، وإمّا القبور.
هكذا أُوقدت شعلة الحرية التى سوف لن تنطفئ.. هكذا بدأت ثورة 17 فبراير المجيدة.
وهكذا التحق الأهالى مع الشباب.. رجالاّ ونساءاً.. شيوخاً وصبيانا؛ فهبوا من كلّ حي من أحياء بنغازى، زنقه، زنقه؛ تسابقوا وهم يلاقون وابل الرصاص الموجّه لصدورهم من حصون الشرّ.. وآثر كلّ منهم أنّ تكون روحه هو، مفتاحاً لدحر بوابة قلعة الطاغية.. فشاء الله أن يفوز بهذا السبق، البطل الشهيد المهدى زيو.
انهارت قلاع الإرهاب فى بنغازى، الواحدة تلو الأخرى.. وأفرج الثوار يومها عن عشرات السجناء الأبرياء، من أقبية الظلم والظلام. كما أُفرجوا، عن أقدم سجين سياسي فى التاريخ الحديث(1) من معتقله فى مديرية الأمن.. وذلك عندما أفرجوا عن "علم الإستقلال".. الذى لم يراه معظمهم مرّةً فى حياتهم.. لكى يصبح لهم ، ولكل ثائر آخر فى ربوع ليبيا، رايةً حرية وإستقلال من ضيم بومنيار.. بعد أن كان لأجدادهم راية إستقلال من ضيم إستعمار؛ ولينشد الشيب والشباب والصغار معاً.. وبصوت واحد، دون سابق إعداد، نشيد الحرية.. نشيد الإستقلال: إسلمى طول المدا.. إننا نحن الفدا.. ليبيا ليبيا ليبيا(2).

عبدالنبى أبوسيف ياسين –  5\5\2011- بنغازى الحرة

(1)     ليعذرنى المناضل السيّد أحمد الزبير السنوسى عن خلع هذا اللقب عنه وأحسب أنه لن يمانع أبدا.
(2)     تشاء الأقدار.. أنّ يكون مؤلف هذا نشيدنا الوطنى، شاعر تونسى.. وتونس هى التى أوقدت ثورة الشعوب العربية. وأن يكون ملحن هذا النشيد الرائع، موسيقار مصرى.. ومصر هى التى تلقفت بعدها شعلة الثورة، ثم سلمتها لنا.. لينشده ثوارنا الليبيون الأحرار مجدداً نشيداً لاستقلالنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق