إن الدارس المتفحص لوضع الفكر الإسلامي اليوم، يلحظ تعدد أنساقه الفكرية، واختلافها وتباينها لدرجة التضاد أحيانا، ومقصود هذا المقال هو النظر إلى الأنساق الفكرية الإسلامية المعاصرة من حيث الإنغلاق والإنفتاح. ويمكن تقسيم تلك الأنساق بهذا الإعتبار إلى الأنواع التالية:
1. النسق المنغلق: وهو النسق الذي يحصر الحق في نسقه، ولا يقبل مطلقا وبأي حال كان بشيء من الرأي أو الفكر من خارج نسقه، فزاوية النظر محددة وضيقة وغير قابلة للتعديل، ومن باب أولى غير قابلة للتبديل، ونتيجة هذا الانغلاق فإن هذا النسق يميل إلى التسطيح في الفهم، والحدّية في أحكامه على الأشياء وعلى الآخرين، كما يميل إلى الوصف أكثر من ميله إلى الاستدلال والتحليل، ويميل إلى الاستقراء التاريخي أكثر من ميله إلى الاستنباط، و يميل إلى النص الديني أكثر من ميله إلى الأحكام العقلية والمنطقية، ويميل إلى الإغراق في الماضي أكثر من اهتمامه بالحاضر والمستقبل وقضايا التحديث. فلا اهتمام بأمور الحاضر أو المستقبل إلا في ضوء الماضي. وبناء على ما تقدم فإن أتباع هذا النسق يتعالون على النقد، و لا يقبلونه بحال، لاسيما إذا تعلّق بشيء له علاقة بما يؤخذ مأخذ التسليم المطلق في نسقهم، أو كان قولا لشخص له مكانة مرموقة بين أتباع النسق. ويترتب على ذلك أخذ ثقافة النسق الواردة عن أئمته مأخذ النص سواء بسواء. ووحدة التحليل والتقويم لدى أصحاب هذا الاتجاه هي جزئية من جزئيات ذلك النسق مما ينتج عنه جزئية التحليل والتقويم. أما من حيث التعايش فإن هذا النسق لا يقبل التعايش مع الآخرين - الذين يتم الحكم عليهم وتوصيفهم بالمخالفين - إلا في حدود ضيقة جدا. هذا النسق المنغلق يتصف بكونه غير قابل للتطوير فكريا (لثبات زاوية النظر) وقد يستمر عقودا من الزمن بل قرونا دون أي تغيير يذكر. وهو ما يطلق عليه في علم التفكير اليوم بالشلل النسقي ولا يمكن أن يتم أي تغيير في النسق إلا في حالات استثنائية منها: في حالة من تأثر بأفكار هذا النسق أو بشيء منه؛ من خارج إطاره، خاصة من انتقل إليه أو تحوّل إليه من نسق آخر، أو من أخذ منه ما يتمشى مع إطاره الفكري الأصلي ليصبغ عليه نوعا من الشرعية المتجددة.
وهناك حالة أخرى استثنائية يحدث فيها نوع من التغيير الإيجابي على النسق المنغلق لمن كانت له الفرصة أن يتحدى الانغلاق فيطلّع على نسق آخر يقترب منه في الوجهة ويخالفه في بعض الأصول العامة أو في جزئيات كثيرة، وهو ما يسمى في عالم الفكر اليوم بالتحوّل النسقي.
2. النسق شبه المفتوح: وهو النسق الذي يغلب عليه الذاتية والانكفاء بشكل عام، لكنه قد يقبل من الأنساق الأخرى ما يتوافق مع رؤيته أو يُكمِّلها. ويغلب على هذا النسق نسبة معينة من الانغلاق إلا أن لديه قابلية للانفتاح الجزئي نتيجة طبيعة تركيبته والعناصر التي تشكّل بنيته. لذلك نجد بينه وبين النسق المنغلق تشابها إلى حد ما في التحسس من النقد. فقد يقبل النقد ولكن في إطار ضيّق مما ليس فيه مساس بالأصول التي أسس عليها رؤيته. أما وحدة التحليل والتقويم ففيها بعض الشمولية مقارنة بالنسق المنغلق لزيادة دوائر الاهتمام، وزيادة سعة زاوية النظر. لكن تسيطر عليه مفاهيم معينة تكبله ولا يستطيع أن يتعداها أو أن يتجاوزها أو أن يجددها. وهو نسق يقبل بالآخر إذا كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، فالقبول بالآخر قد لا يكون أصيلا وإنما يكون – في كثير من الأحيان – مصلحيًا، مما قد يأخذ صبغة الآنية لا الاستمرارية. أما زاوية النظر فقد تُغيّر في ظروف معينة (نوع استجابة لحدث أو ردة فعل ما) وعادة فإن هذا التغيير يكون طفيفا وعلى مراحل بطيئة مما تصعب رؤيته في الفترة الزمنية القليلة. وهذا النسق بهذه الكيفية قابل للتطوير ولكن هذا التطوير يحدث ببطء شديد مع حذر وتخوّف. وقد يكون ذلك التطوير، تطويرا متتابعا لنسقين بعد انتقال من نسق آخر لم يعد مرغوبًا فيه.
3. النسق المفتوح: ويمكن تقسيم هذا النسق هو الآخر إلى قسمين هما:
· النسق المفتوح انفتاحا انتقائيا: وهو نسق قابل للتفاعل مع بعض الأنساق المنتقاة دون الأخرى وفق منهجية انتقائية مرسومة، وضمن إطار مُعدّ سابقًا. وحيث تم وصف هذا النسق بالانفتاح الانتقائي يجب ملاحظة أنه انفتاح نسبي، أي أن بعض أفراد هذا النسق يمكن أن يكون منفتحا أكثر من غيره، كما أن بعض من ينتمي إليه قد يكون لديه نسبة تقل أو تزيد من الانغلاق وإن كانت لديه نسبة من الانفتاح. وعادةً ما يكون تشكّلّ هذا النسق نتيجة ردة فعل ما، منها التفطن إلى مأساوية واقع المسلمين المأزوم رغم إمكاناتهم ورسالتهم، مقارنة بحال الأمم الأخرى. وقد تكون ردة الفعل هذه بالنظر إلى انفصال العلوم الدينية عن العلوم الاجتماعية والإنسانية في الفكر الإسلامي المعاصر، فيأتي النسق الجديد الموّلد داعيا إلى أسلمة العلوم أو الدمج بين العلوم. وقد يكون نتيجة إعجاب بأفكار نسق آخر لدى الآخرين (غير المسلمين) فيتم إسقاطها على جزئيات منتقاة من التراث الإسلامي.
· النسق المفتوح انفتاحا علميًا منهجيًا: وهو النسق الذي تم بناؤه بنوع من الإحكام، وهو نسق أصيل بمعنى أنه لم ينشأ كردة فعل، وزاوية النظر فيه قائمة على التعدد وقابلة للتدوير والتحوير والتغيير، وهو أمر قائم على سعة الأفق وبعد النظر وقوة المدارك، وموسوعية القضايا المحركة لزاوية النظر، وتعدد أنماط التفكير. نسق فيه مجال للعاطفة إلا أنها محكومة بالمنطق، وفيه انطلاقة الفكر وتحرره من القيود الوهمية والنفسية والإدراكية والثقافية نحو الأفضل والأمثل دائما، نسق له مقدرة على تجاوز القوالب وتخطي أسوار العوائق الفكرية والبيئية والثقافية. نسق يقبل بالآخر وإن خالف، اعترافا بوجوده واحتراما لآدميته، وإقرارا بحقه في المخالفة، وفهما لوجهة نظره. كل ذلك يترتب عليه مقدرة رفيعة في التعايش مع الآخرين والتسامح معهم. نسق يتسامى عن الذات ويترفع عن الفوارق حتى كأن صاحبه يعيش بذاتين اثنتين لا واحدة، لكنها تختلف عن انفصام الشخصية في وجود انسجامية تامة بين الذاتين، و لا يعاني صاحبه من أي صراع نفسي وإن وجد فمحسوم بقدرة صاحبه على التوليف بين المتناقضات، والالتفاف حول المتقاطعات. يتميز هذا النسق بشمولية وحدة التحليل، وبتقبله للحوار، وانفتاحه على الحق، وبترحيبه وفرحه بالنقد، مع قدرة بديعة في توظيف نتائج الحوار والنقد لإعادة بناء الذات. نسق يحترم التراث عن استيعاب وحسن فهم ولكنه ينظر إليه على أنه خلاصة اجتهاد بشري يصيب ويخطئ. نسق لا يقدّس إلا الحق، و لا مكان فيه للغلو والتطرف بأي شكل كان. نسق يطور مساراته الذهنية باستمرار، ويتحاشى القولبة، وعلى استعداد لتغيير إطاراته الفكرية في ضوء ما يستجد من ظروف ومواقف. وهو نسق قابل للتفاعل مع كل الأنساق الأخرى مهما اختلفت معه، الأصيلة منها والمعاصرة، وفق منهجية علمية محكمة.
إن المستوعب لظروف العصر وتحدياته في الألفية الثالثة يعلم أنه يعيش في زمن هبت فيه رياح التغيير، مع سرعة إيقاعها، وتعدد صورها؛ وتخطت فيه تحديات العولمة والكوننة بأشكالها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية كل الحدود والسدود، وتسللت فيه ثورة المعلومات والتكنولوجيا إلى كل بيت ودار لتستهدف عقول وسلوك الأجيال الناشئة، لتفرض عليهم بهدوء قيم وثقافة المجتمع الغربي. تلك الثقافة والقيم التي يراد لها أن تسود وتهيمن.
إنّ من ألمّ بتلك التحديات، يدرك تمام الإدراك أنه لا يمكن للمسلمين أن يحافظوا على هويتهم وثقافتهم وما تحمله من قيم حضارية ومبادئ سامية وأخلاق رفيعة، إلا من خلال هندسة استراتيجيات فعّالة تواءم بين الجديد والقديم، وتوالف بين الأصيل والحديث، دون جمود عند التراث والفشل في توظيفه، ودون فقدان للهوية والذوبان في الآخر. وذلك كله لا يتحقق إلا بالمرونة المتزنة، والإبداع الإيجابي مع المحافظة على الهوية؛ والانفتاح على الآخر ومواكبة العصر مع ثبات على المبادئ والقيم. وهذا لا يتأتى إلا مع اعتماد وإشاعة النسق المفتوح انفتاحا علميا منهجيا. عندئذٍ فقط نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق إعادة بناء حضارتنا الإسلامية الرائدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق