الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

شاهد عيان : من جرائم القذافي ... حرب أوغندا

  


في أحد الأيام جمعونا داخل المعسكر التابع لإحدى كتائب المشاة في مدينة الأبيار — شرق بنغازي بحوالي ستين كيلومتراً. بعد التجميع نقلونا إلى مخزن السلاح حيث سلّمونا الأسلحة والتجهيزات من مخزن المهمات، وأخبرونا بأننا ذاهبون في مهمة عسكرية.

 ركبنا الحافلات إلى المطار، ثم صعدنا على متن طائرة نقل عسكري. لم نكن نعرف وجهتنا.

بعد ساعات طويلة تسودها الملل وخليط من الخوف والقلق، هبطت الطائرة في مطار لم نسمع به من قبل. عند نزولنا قالوا لنا: أنتم الآن في مطار «عين تيبي» في دولة أوغندا. صدمنا؛ بعضنا لم يسمع بهذه الأسماء أبداً. أخبرونا أننا جئنا لمناصره الرئيس عيدي أمين، وأن مهمتنا محاربة المتمردين والمعارضة.

نقلونا في عربات إلى قرب العاصمة كمبالا، وقُسّم العمل بين الجنود. بعض الوحدات كانت قد وصلت قبل أيام، وأخرى وصلت حديثاً مثلنا. أُعدّت خطة الهجوم من عدة محاور متقاربة. أمامنا كانت قوات إنتحارية، وقوات صاعقة ومظلات، وبعض مفارز الكتائب مزودة بسيارات عليها رشاشات مضادة للطيران، وقطع مدفعية 106 مم — لكن أعدادها كانت قليلة لأنها جُلبت بالطيران.

عندما بدأ الهجوم فوجئنا بهجوم مضاد قوي من عدة محاور، العاصمة محاطة بنيران كثيفة بكافة أنواع الأسلحة. كثافة النيران كانت مرعبة لدرجة أن لا أحد منا تكاد قدرة صدها.

اما نحن القوات الليبية فقد تفرق الجمع وهرب من هرب ومات من مات وجرح منا الكثير

 المهاجمون كانوا تنزانيين وأوغنديين — جيشهم كان عرمرماً كما تُحكى الأساطير عنه. دخلوا علينا من كل حدب وصوب.

هربت مع مجموعة صغيرة محاولاً إيجاد ضابط لمعرفة الموقف، لكن الأمر كان فوضوياً؛ الكل غادر المكان. حاولنا العودة بالطريق الذي أتينا منه لكن المسارات اختلطت بنا، فأخذنا طريقاً آخر حتى وجدنا أنفسنا في غابة كثيفة رطبة ومظلمة. سادنا التعب والجوع والماء كان يكاد ينفذ. معنا كان أحد ضباط الصف يتصرف بحكمة، يوجّهنا وينصحنا. كنا لا نتجاوز تسعة أشخاص.

قررنا المسير دون توقف حتى يفتح الله لنا مخرجاً. بعد منتصف الليل، وبخطوات متثاقلة، وصلنا — لكن إلى أين؟  


***


بعد منتصف الليل، وبينما كنا نسير ببطء وسط ظلامٍ دامس، وصلنا إلى ضفة أحد الأنهار العريضة. لم نكن نعرف إلى أين يتجه النهر، ولا في أي بقعة من الأرض نحن. وقفنا قليلاً نلتقط أنفاسنا المنهكة، فإذا بأصواتٍ تأتي من الجهة اليمنى، أصوات جنود يتحدثون بلهجات إفريقية، تخللتها كلمات بلهجةٍ مصرية واضحة.

تبادلنا النظرات بدهشة، فقال أحدنا:
 – "هؤلاء مصريون! لعلهم جاؤوا لمساعدتنا!"

لكن ضابط الصفّ، الذي كان أكثرنا خبرة، أوقفهم بحزم وقال بصوت خافت:
 – "إياكم أن تقتربوا! السادات أرسل قواته لمساندة المعارضة ضد عيدي أمين... ونحن نقاتل في صفه. لو رآنا أحدهم لن يُبقي منا أحداً."

كانت تلك الأيام تشهد عداءً حاداً بين السادات والقذافي، فازدادت حذرنا، وأيقنّا أن أي خطأ سيكون نهايتنا. السماء كانت مظلمة، ولولا ذلك لانكشف أمرنا. قررنا الرحيل من المكان فوراً.

تطوّع ضابط الصف قائلاً:
 – "سأتقدمكم، وسأجعل من بندقيتي مقياساً لعمق المياه. ارفعوا أسلحتكم فوق رؤوسكم ولا تصدروا صوتاً."

نزلنا إلى النهر بحذر، كانت المياه باردة إلى حدٍ مؤلم، تتفاوت أعماقها من مستوى الحزام حتى الرقبة. تجمدت أطرافنا وارتجفت أجسادنا من شدة البرد، لكن لم يكن أمامنا سوى الاستمرار. فجأة، بدأ أحد الجنود يرتجف بشدة، أسنانه تصطك بقوة حتى كادت تصدر صوتاً يفضحنا.

في لحظة سريعة، خلع أحد رفاقه جواربه، غسله في الماء ووضعه في فم الجندي كي يمنع صوت أسنانه. كان تصرفاً غريباً لكنه أنقذنا. غير أن الجلبة الخفيفة التي أحدثناها تسببت في تموّجاتٍ على سطح الماء، فظن الجنود على الضفة الأخرى أنها حركة تماسيح، وبدأوا بإطلاق النار باتجاهنا. رصاصات اخترقت سطح النهر من حولنا، والماء يتطاير على وجوهنا... لكن الله سلّم.

بعد مسافة طويلة وشاقة، وصلنا إلى الضفة المقابلة، وكانت غابة كثيفة لا يُرى فيها شيء. الظلام حالك، والرطوبة تخنق الأنفاس، فقررنا السير في صفٍ واحد يتقدمه ضابط الصفّ.

واصلنا السير حتى بدأ أول خيط من الفجر يشقّ ظلمة الغابة. مع بزوغ الشمس، رأينا الأرض تحت أقدامنا بوضوح، فتابعنا حتى خرجنا من بين الأشجار، لنجد أنفسنا في قرية ريفية بسيطة. أكواخ من القش، وبعض الأبقار والماعز ترعى في أطرافها.

قال لنا ضابط الصفّ:
 – "تعاملوا باحترام مع أهل القرية، لا تُشهروا السلاح أبداً."

اقتربنا ببطء حتى لمحنا عجوزاً تجلس قرب كوخها، تنظر إلينا باستغراب وقد ارتسم التعب على وجوهنا. بالإشارة طلبنا منها ماءً، فدخلت إلى كوخها وعادت بدلوٍ من الحديد فيه ماء صافٍ. شربنا بنهم، وملأنا زمزمياتنا. أشار أحدنا إلى فمه طالباً طعاماً، فذهبت ثم عادت بعرجون موزٍ ناقص النصف.

اقترب منا بعض الصبية والكهول بفضول، يتهامسون بلغتهم الغريبة. عندها قال أحد رفاقي وهو يلوّح بيده:
 – "مطار... مطار..."

نظروا إلينا بصمتٍ للحظات، ثم أشار أحد الشيوخ بيده إلى اتجاهٍ بعيد، نحو الجنوب الشرقي تقريباً. تبادلنا النظرات، وضابط الصف قال:
 – "يبدو أنهم فهموا. هذا طريقنا."

حملنا أسلحتنا بصمتٍ، واستعددنا لمواصلة المسير نحو المجهول...

 

***

 

طلبنا من أهل القرية أن يدلّونا على الطريق إلى المطار بالإشارة، فأومأوا بأيديهم باتجاهٍ معين. شكرناهم على ما قدموه لنا من ماءٍ وموزٍ، وغادرناهم دون أن نعرف هل هم معنا أم ضدنا، لكن الحذر في تلك الظروف كان فرضاً لا خياراً.

واصلنا المسير في صمتٍ تام، نتحسس الأرض بأقدامٍ متعبة ونرقب كل حركة من حولنا. دخلنا وادياً جافاً تحيط به الأشجار المتناثرة، وكانت الأرض متشققة من الجفاف، والغبار يلتصق بوجوهنا المبللة بعرق الخوف والإرهاق. كلما لمحنا قرويين أو رعاة من بعيد، كنا نميل عن الطريق ونختبئ بين الشجيرات حتى يبتعدوا، فلا أحد يعرف من يكون عدواً أو صديقاً في أرضٍ غريبة كهذه.

مع اقتراب الغروب، لاح لنا مبنى في الأفق تعلوه هوائية طويلة، فقررنا التوجه نحوه على أمل أن نجد فيه أحداً من رفاقنا. ومع اقترابنا أكثر، بدأنا نسمع أصواتاً مألوفة... لهجة ليبية! فهرعنا نحوهم لنكتشف أنهم جنود وضباط ليبيون نجوا من المعارك وهربوا من جحيم القتال.

كان المبنى في الحقيقة مقراً للعمليات العسكرية، يتخذه الضباط الليبيون مركزاً مؤقتاً لتجميع الناجين. سجّلونا بالاسم والرتبة والانتماء إلى أي كتيبة، ثم وزعونا في إحدى الغرف. تلك الليلة كانت أول مرة ننام فيها بطمأنينة نسبية منذ أيام، رغم أصوات الرصاص البعيدة التي لم تفارق السماء.

في صباح اليوم التالي، ومع اقتراب الظهيرة، وصلت حافلات صغيرة. نادوا أسماءنا، وركبنا فيها على عجل. في مقدمة الحافلة جلس ضابط إلى جوار السائق ممسكاً بخريطة كبيرة، وخلف السائق جلس ضابط آخر يحمل بندقيته مصوّبة إلى الأمام. لاحظنا أن كل حافلة فيها نفس الترتيب تقريباً، ضابط مسلّح يراقب الركاب باهتمام.

سأل أحدنا بهدوء عن سبب هذه الشدة، فأجابه أحد الضباط بصوتٍ خافت:
 – "بعض السائقين في الأيام الماضية غيّروا الطريق وسلّموا جنودنا إلى قوات المعارضة مقابل المال... لذلك أصبح الحذر واجباً."

كانت تلك الكلمات كفيلة بأن تُعيد الخوف إلى قلوبنا. الطريق كان طويلاً، موحشاً، والقلق يسير معنا في كل لحظة.

وأخيراً، بعد رحلةٍ استغرقت ساعاتٍ طويلة، دخلنا مطار "عين تيبي" الذي أصبح أشبه بساحة فوضى كبرى. الجنود من كل الاتجاهات، أصوات النداءات، والكل يصرخ يريد العودة إلى الوطن، يريد النجاة من هذا الجحيم الذي لم يفهم أحد كيف وجد نفسه فيه.

لم تمر لحظات حتى هبطت طائرة نقل عسكرية ضخمة، وتدافع الجنود نحوها بالأمل والرهبة معاً. فتح باب الطائرة ببطء، لكن المشهد الذي تلا لم يكن في الحسبان. خرج منها رجال كبار السن، يرتدون اللباس العربي الكامل — الكاط والجرد والشنة — وجوههم هادئة، وملامحهم لا تعلم شيئاً عما ينتظرهم.

تساءل الجميع بصوتٍ خافت:

 – "من هؤلاء؟"

جاء الرد سريعاً من أحد الضباط:


 – "ممنوع الحديث معهم، لا أحد يقترب منهم ولا يعطيهم أي معلومة... نفذوا الأوامر فقط."

لم نفهم شيئاً في تلك اللحظة، لكن بعد فترة قصيرة عرفنا الحقيقة المُرّة: هؤلاء الشيوخ المساكين أُرسلوا إلى الجبهة ذاتها التي تركناها... إلى الجحيم بعينه.

وبينما كنت أراقب المشهد بحزنٍ وذهول، لمحت وجهاً مألوفاً بين الجنود الواقفين قرب الطائرة... إنه جاري من مدينتي! لم أصدق عيني، فتسللت بين الصفوف حتى وصلت إليه، ومددت يدي أحيّيه قائلاً بصوتٍ خافت:
 – "فلان! ماذا تفعل هنا؟! كيف جئت؟!"

رفع رأسه نحوي، وعلى وجهه ملامح تعبٍ عميق ودهشة أكبر، وقال لي بصوتٍ مبحوح...

***


 

اقتربتُ من جاري والدهشة تعلو وجهي، فقلت له بصوتٍ خافتٍ متعجب:
 – "شنو يا حاج؟! شتدير هنا؟!"

ابتسم في البداية، وقال بثقةٍ بسيطة:
 – "جمعونا وقالوا لنا إننا ماشين لحفلة في طبرق!"

تجمدت الكلمات على لساني، ثم قلت له بصوتٍ مبحوح من الصدمة:
 – "حفلة؟! يا حاج، أنت في أوغندا… في قلب إفريقيا! هذه حرب، مش حفلة!"

عندها تجمد في مكانه، اتسعت عيناه بدهشة، وتلعثم لسانه. ظلّ صامتاً للحظات، وكأنه لا يصدق ما يسمع. اقتربت منه أكثر وقلت:
 – "أسمعني زين، خليك مع جماعتك، لا تبتعد عنهم، كونوا حذرين. الوضع خطر جداً."

كان هذا الحاج من المنتسبين إلى ما يُعرف آنذاك بـ"التجييش العسكري" أو "المقاومة الشعبية"، وهم مجموعة من المدنيين الذين جُمعوا دون تدريب كافٍ، وأُرسلوا إلى جبهةٍ لم يعرفوا عنها شيئاً.

وقبل أن يفترق عني، خلع جرده وفرملته وأعطاني إياهما، ومعهما محفظته الخاصة وفيها بعض النقود الليبية. قال لي:
 – "خذهم يا ولدي، يمكن ما نلتقيش تاني."

غادر هو ورفاقه في الحافلات نفسها التي جاءت بنا إلى المطار… إلى المجهول. كنت أنظر إليهم من بعيد، والغصة تخنقني.

بعدها نادوا علينا نحن، وبدأنا نصعد إلى الطائرة. كانت حالتنا يُرثى لها: بعضنا حافي القدمين، وآخرون يضمدون جراحهم بقطع قماشٍ بالية. العيون غائرة، والوجوه شاحبة، والقلوب معلقة بخيطٍ من أمل العودة.

لكن لم يكن هناك مكان للجميع؛ امتلأت الطائرة سريعاً، وبقيت مجموعة صغيرة من الجنود في الخارج. نادى قائد الطائرة – وكان برتبة مقدم – بصوتٍ قوي وقال:
 – "خيرهم هذوما؟ ليش واقفين؟"

فرد عليه أحد الضباط:
 – "يا سيدي، الطيارة امتلَت."

عندها رفع القائد صوته وقال كلمته التي لا تُنسى:
 – "خليهم يركبوا الطيارة… من اخلوهم! يا نوصّلوا مع بعضنا، يا نطيحوا مع بعضنا."

صعد الجميع، وضاقت الطائرة بأجسادٍ مرهقة لكنها مليئة برجاء النجاة. أُغلقت الأبواب، وأقلعت الطائرة من مطار عين تيبي، تاركةً وراءها رائحة البارود والموت، متجهة نحو ليبيا.

مرت ساعات طويلة قبل أن نلمح سواحل الوطن، وعندها علت أصوات البكاء والدعاء، امتزجت دموع الرجال بصمتٍ مهيب لا يُنسى.

هبطنا أخيراً في قاعدة معيتيقة، حيث استقبلونا بصمتٍ شديد. نقلونا في حافلات زجاجها مظلل إلى معسكرٍ مغلق، وهناك قصّوا شعورنا، وأعطونا ملابس عربية نظيفة ومواد تنظيف. بدأوا يطعموننا جيداً، حتى تعود إلينا أوزاننا التي فقدناها في الجحيم.

وبعد قرابة شهرٍ كامل، أخلوا سبيلنا. خرجنا إلى بيوتنا ونحن نحمل في صدورنا قصصاً لا تُقال. حذرونا من الحديث عن أي شيء رأيناه، وقالوا بالحرف الواحد:
 – "انسوا ما صار، ما تحكوش مع حد."

لكن تلك الوجوه، وتلك الأصوات، وصرخات الموت، لم تُمحَ من ذاكرتي ما حييت.

بعد مدة، طلبت حضور أخ الحاج الذي رأيته في المطار، وحكيت له القصة. قلت له:
 – "أمانة أخوك – الجرد، والفرملة، والمحفظة – ما قدرت نسلمها لعائلته، حتى ما يظنّوه مات."

نظر إليّ بعينٍ دامعة وقال:
 – "خليهم عندك، لين يرجع سالم بإذن الله."

وبعد شهورٍ من الانتظار الطويل، تحقق الأمل… رجع الحاج سالماً، كما وعد الله الصابرين. سلّمته أمانته، وبكينا معاً دون أن نتحدث كثيراً. كانت الكلمات قليلة، لكنها كانت أصدق من كل الخطب.

انتهت الحكاية...
 حكاية رجالٍ ذهبوا إلى حربٍ لم يعرفوا سببها، ورجعوا منها بأرواحٍ مثقلة، لا يريدون سوى السلام.

دمتم بسلام، وحفظكم الله من كل مكروه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حريم القذافي

  حريم القذافي التعليق على الصورة،   الاندبندنت نشرت موضوعا تحت عنوان "حريم القذافي...جرائم جنسية لديكتاتور". وقامت الجريدة بتقديم...