الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

ونيس المبروك : نبيل ، في زمن "الأنا"



هناك " طبيعة " إنسانية ، لا يملك أحدٌ منّا طمسَها ؛ لأنّها أمرٌ مركوز في أصلِ الخِلقة .
هذه الطبيعة هي السعي لإثبات " الأنا " !

عادة ما تتجلّى هذه "الأنا" في التعريف بأفكارنا ، وآرائنا ، والحرص على ما ينفعنا ويسعدنا ، والسعي لإثبات خصوصيتنا ،والمطالبة باحترامنا ،و تقدير كل ما يتعلق بكياننا ...
لا يوجد كائن بشري متجرد من " الأنا " من كل وجه ! بل إن أنانيتنا ،هي التعبير الحقيقي عن وجودنا ،وكينونتنا .

والإسلام العظيم ، بسماحته وواقعيته ، لم يطالب الناس أن يطمسوا وجودهم الخاص، ولا خصوصية وجودهم ،... أو يهملوا مصالحهم ، وما يعود عليهم باللذة والسعادة والنفع ، لأن هذه " الأنانية " هي طبيعة بشرية كما قلت ، بل يمكن -بشيء من التوجيه- أن تكون " مفتاحا " لكل أبواب الخيرات ، ويسهُل بشيء من المجاهدة ، والتسامي ؛ أن تصنع العظماء والنبلاء .

ما يحدث في مجتمعاتنا العربية ، هو " طغيان " الأنانية وطمسها لبذور الخيرات والمرواءت ، حتى أن الكثير منا لا يعنيهم في الكون من حولهم إلا ما اتصل بوجودهم الخاص ،أو " الأنا " ! ولا يشعرون بآلام الآخرين ، وآمالهم !، ولا يتحمسون لرأي ، أو يناصرون فكرة ، ومشطون لمكرمة ، ويدافعون عن موقف، إلا إن كان يجلب لذواتهم كسبا ، أو يعود على عيشهم المحدود بالرخاء ، وعلى آجالهم القصيرة بالبقاء .





تفاقمُ هذا الأمرِ في مجتمعاتنا دون علاج ، جعلها عبارة عن مستنقعات نتنة ، تتربص هوامُها ببعض ،وتنحسر فيها قيم التعارف، والتراحم، والتكافل على حساب " أنا " !

لو قلبت البصر في مجتمعات البشر ، سترى أن مصدر كل العلل والأمراض الاجتماعية والسياسية ،والأخلاقية ...؛ هو طغيان " أنا " على غيرها من القيم .
تبا لتلكم " الأنا " ؛ فهي تحمل الزوجَ على إهمال زوجته ، وتسوغ للحاكم ظلم رعيته ، وتسول للعالم خيانة أمانته ، وتصد الغنيَ عن الجود بماله ، وتدفع المثقفَ إلى مواراة رأيه ، وتبرر للحاذق كتمان سر صنعته ، ...!!
لماذا ؟
لأنهم يرون خدمةَ الآخرين ،والنظرَ في همومهم، وتفريج كرباتهم ؛ٌ هو ضرب من ضروب المثالية ،وسوء التقدير ، أوتجارة بائرة لا تزيدهم إلا تخسير ، ...فهي لا تلبي حاجة " الأنا "التي يعبدونها !

من هنا كان الشهيد هو أعظم شخصية إنسانية بعد الأنبياء على الإطلاق ، لأنه يقدم كل " الأنا " فيعطي الحياة ، ويسمو بالأحياء ، ولا يسحب من حطامها ورصيدها شيئا ، ولا ينتظر من الأحياء جزاء ولا شكورا ...

تصفح تاريخ كل أبطال الأمم ، سترى أن حياتهم تدور على آخية ثابتة ، إلا وهي " التضحية " .
فهم يضحون بالأنا ، لأجل دينهم، وأمتهم، والمستضعفين من الناس ، ... ليس لأنهم فاقدون " الأنا " ويكرهون الحياة ، ويضيقون ذرعا بها ، بل هم بتلك التضحية وذلك "التقدم " يستبقون الحياة ، على ماقال شاعرهم : تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما .

تأخر الجبناء ، الذين يعيشون على هذه الأرض ، ويتعاملون في ميادين "القيم " بلغة السوق ، فيقولون هذا مقام أغلى من مقام بلغة الذهب والمال ، وليس مقام أشرف من مقام بلغة الحقيقة والجمال !
هؤلاء الأقزام لا يقيسون النجاح والفشل إلا بما حققوا لذواتهم من حياة ، وتناسوا (أن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها )

مع طول الأمد تقسى قلوبهم ، ويصبح "استبقاء الحياة" نهجا قارا ، وفلسفة رائجة في سوق النذالة ، تعمل " الأنا " على غرسها في حنايا القلب ، ويتكفل العقل بحشد الدلائل لها ، وتجميل وجهها القبيح .

لم تكن بعثة الرسل والأنبياء لأجل نزع " الأنا ، "كلا !
إنما كانت بعثتهم ، لتوجيهها وتصريفها في أبواب البر ، وجعلها سلما يسمو بها الفرد في معارج الكمال .
بعض شبابنا وكهولنا اليوم، يسلكون مسلك يهود ،وهم لا يشعرون ! أولئك الذين قال عنهم الله تبارك وتعالى " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة "
هكذا ؛" حياة " ... نكرة ! ،
بمعنى : أي لون من الحياة !
المهم أن نحي ونأكل ملء بطوننا ، ونشرب سِعةَ أضلعنا ، وننام ملء أجفاننا !
أقول لكل قزم يستكثر علينا ضريبة المكارم ،
: دع المكارم لا ترحل لبغيتها * وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي .
ونقول للمشفقين الذين سيقولون لنا غدا (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ )
نقول لهم (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )

إن من لطف الكريم ورحمته -سبحانه- أنه لم يجعل الجبن منافيا لشرط الإسلام ؛ ( أيكون المسلم جبانا يا رسول الله ، قال : نعم )
ولكن تبرير الجبن ، ودعوة الناس له ، وتشجيعهم على الزحف على بطونهم بين حفره ،وسراديبه، ودهاليزه، وفنادقه ،وأنفاقه ،... هو الذي ينافي خصال البر ، ويقوض مخايل الرجولة والمروءة معا .
سنمضي على طريق هذه الدعوة التي يتصل أحد أطرافها بصدر النبوة الأول ؛ لا نقيل ولانستقيل ، ولانندم على فضل الله ورحمته، وإن أصابتنا اللأواء، وسخر منا الدهماء .

اعتملت في صدري هذه الخواطر وأنا في الجو أثناء رحلتي لجاكرتا ، ومحيا الشهيد النبيل عبد العظيم الفراوي لا يفارق خيالي .

فقلت كما عنونت : طبت حيا وميتا أيها النبيل في زمن " الأنا ".
والصلاة على معلم الناس الهدى .


.ونيس المبروك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق