الجمعة، 21 أكتوبر 2016

السنوسي بسيكري : العسكر وثنائية الأمن والتنمية: الفشل هو العنوان

  



لم تأتِ تجربة حكم العسكر في العالم العربي في نهاياتها بخير على الإطلاق، والمقارنة البسيطة لواقع الدول العربية، التي شهدت انقلابات عسكرية ورزحت تحت حكم ضباط الجيش قبل وبعد تلك الانقلابات، تكشف عن حقيقة هي أن حكم العسكر في بداياته يحقق إنجازا، لكن الكوارث تقترن بتوجهاتهم وممارساتهم بعد ذلك.

واقع مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني كان على النقيض في مطلع خمسينيات القرن الماضي مع استلام الجيش الحكم، وواقعها اليوم بعد مرور ما يزيد عن ستين عاما. والعراق مثال ثاني عن حجم التردي الاقتصادي والاجتماعي والإنساني في الفترة التي تعاقبت فيها الانقلابات العسكرية، وبالمستوى نفسه تحولت سوريا من حاضرة مستقرة بها مقومات انطلاق ونمو اقتصادي وتطور ثقافي واجتماعي إلى مسخ قاد إلى الكارثة التي تشهد سوريا اليوم. وينطبق التحليل على اليمين وليبيا، وبالمناسبة جميعها كانت مهدا للثورات ووعاء للفورة، كردة فعل على الإخفاقات الكبيرة لحكم العسكر.

يستهوي العسكرُ الجماهيرَ بشعاراتهم ويداعبون عواطفهم بإيحاء القوة والسطوة والقدرة على ضبط الأوضاع المنفلتة، وفرض الأمن الذي كان ولا يزال أبرز مخاوف المواطنين زمن الأزمات والهزات. بهذا نجحوا في كسب تأييد الرأي العام في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، وبالطريقة نفسها ينجحون في دغدغة مشاعرهم اليوم، بعد ثورات الربيع العربي وما تبعها من فوضى واضطرابات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية.

سؤال الأمن بمفهومه الأوسع لدى مواطن حقبة الخمسينيات والستينيات كان الأبرز، حيث شهدت فترة الاستعمار وما بعده انتكاسة كبيرة على صعيد الهوية وتوزيع الثروات والحقوق السياسية والاجتماعية، فطرح العسكريون شعارات براقة محورها الاستقلال والإرادة الحرة، والأمن، والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، فكان أن تحول الواقع بعد فترة ازدهار محدودة إلى تبعية وكبت وإخفاق سياسي وضياع اقتصادي واجتماعي، حَوَّل الشعوب المكتفية بل والتي تشهد بدايات تنمية ورفاه اقتصادي، إلى تجمعات بشرية تعاني الفقر والتخلف بدرجة مخيفة.

اليوم، بعد ثورات الربيع العربي وما شهدته تلك البلدان من حالة من الارتباك والفوضى السياسية والأمنية واختلالات اقتصادية واجتماعية، عاد الخوف من المجهول إلى الصدارة، وعندما يطغى الخوف من القادم فلا تحدث الناس عن الديمقراطية وارتباط الاستقرار والتنمية بها، فهم باتوا يجزمون أن الديمقراطية وضعتهم في مهب الرياح، وجعلتهم كالأيتام يبحثون عن الأب والعاهل والوصي، وصورة الأب والعاهل والوصي محصورة في الجيش وفي الزعماء العسكريين المخلِّصون.

لابد أن نقر أن العسكر ينجحون في طمأنة المواطنين ويفلحون في مجابهة أسباب خوف الرأي العام من المجهول، ولكنه بالقطع نجاح محدود بمنظار الزمن وبمعيار التحول والانتقال من التخلف بكل مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى فضاء التنمية المستدامة.

العسكر قادرون على معالجة الاضطربات الأمنية المخيفة، وهم أنجح من غيرهم في احتواء مظاهر فوضى السلاح والاقتتال، لكن نجاحهم محصور في المدى القصير، أما المدى المتوسط والطويل فكل أو جُل تجارب حكم العسكر أخفقت في فرض الأمن، لأنها ببساطة تعيد إنتاج أسباب الاضطرابات لممارستها الكبت والسطوة والعنف الذي لا تتقن غيره، ولاحظ معي أن كل دول الربيع العربي التي انتفضت شعوبها كانت ترزح تحت حكم العسكر، بينما لم تقع الثورات في البلدان التي تحكمها ملكيات وأنظمة "أميرية".

أبرز الأسباب التي تجعل من حكم العسكر كارثيا في المدى المتوسط والطويل، هو عدم قدرتهم على التجاوب مع "المدنية" والمقومات الأساسية للحياة المدنية، خاصة التكوينات السياسية والاجتماعية والثقافية التي دونها لا يمكن أن تشهد البلاد نهضة أو تسلك دربها بثقة في اتجاه التنمية. حالة الرفض القطعي هذه ناجمة عن حس عسكري خالص، يقود إلى تفكير استبدادي يصبغ الواقع المتنوع والمتعدد بصبغته الأحادية، فيشله بل ويحيله إلى مسخ نشاهده اليوم في العراق وسوريا واليمن وليبيا بعد عقود من الحكم العسكري المتفرد.

التجربة المصرية اليوم أكبر دليل على ما قلنا، فقد ظهر أن العسكر أعادوا للمصريين الطمأنينة بعد حالة الخوف من المجهول التي اجتاحتهم، ونجحوا في إعادة الأجهزة الأمنية لسابق عملها بعد أن تراجعت وانزوت تحت طَرْق الحالة الثورية، لكن سرعان ما انتكست الأوضاع وبشكل مخيف، ويواجه المصريون اليوم أصعب أيامهم على المستوى الاقتصادي، مما يعني أن مصر في اتجاهها إلى اضطرابات قد تكون أشد وأقوى.

ويبقى السؤال: كيف نوائم بين الحاجة للعسكر الذين لا غنى عنهم في الأزمات الكبرى وفي مرحلة البناء، وبين منع تغولهم وجر البلاد إلى دائرة مفرغة لا تنتهي إلى النهوض الذي يبحث عنه العرب منذ عقود طويلة؟

أجزم أن المواءمة المشار إليها أعلى هي مسؤولية النخبة المثقفة التي يناط بها تقديم نموذج لعقد اجتماعي يتوافق عليه الجميع، فهي القادرة على دفع الرأي العام إلى مستوى من الوعي يمكنه من أن يحمي نفسه من الانجرار الأعمى خلف الشعارات، وأيضا تحديد الدور الإيجابي المطلوب من الجيش لتحقيق النهضة. المشكلة اليوم أن قطاع من النخبة تقع أسيرة العلات نفسها، وترهن عقولها للتيار الجارف لسطوة وقوة العسكر، فتفشل في التعبئة باتجاه المواءمة المنشودة والعقد الاجتماعي المطلوب.

نقلا عن عربي21

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق