الجمعة، 30 سبتمبر 2016

إسماعيل القريتلي : " لا للتمديد" أو لماذا فشلنا (الليبيون) في التداول السلمي؟



 

لم يكن القذافي ورجال حكمه حالة استثنائية بين الليبيين في تمسكهم بالسلطة (المنصب). فباستقراء ناقص وسريع نجد أن اليوم لدينا ثلاث حكومات في ليبيا، أقدمها زمنا الحكومة المؤقتة برئاسة السيد عبدالله الثني لاتزال ترفض أن تعتبر نفسها منتهية الولاية، بل تحدث أول رئيس لها السيد علي زيدان مرارا بصفته رئيس وزراء باقٍ وشرعيٍ، وحكومة الإنقاذ أصدر رئيسها السيد خليفة الغويل بيانا بُعيد تصويت مجلس النواب ضد منح الثقة ل حكومة الوفاق يدعو فيه وزراء الإنقاذ إلى العودة لمناصبهم.

المؤتمر الوطني العام مدد لنفسه لأن مجلس النواب رفض التسليم والاستلام في جلسة تعقد في مقر المؤتمر الوطني في طرابلس ، ثم استند إلى حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا الصادر ضد تعديلات لجنة فبراير ليستمر في ممارسة سلطاته، رغم أن ذلك أدى إلى انقسام البلاد سياسيا وهيكليا وأثر عميقا على الانقسام المجتمي والاجتماعي، ثم لحق مجلس النواب المنتخب في شهر يونيو 2014 بركب المؤتمر ورفض انتهاء ولايته في نهاية 2015 ومدد لنفسه مبررا ذلك بأن "المصلحة الوطنية العليا" تقتضي التمديد كذلك. وقبل أيام طالعنا بيانا لمجلس الدولة المؤسس من أعضاء في المؤتمر الوطني يمنح نفسه الصلاحيات التشريعية بحجة أن مجلس النواب لا يمارس دوره بالشكل "الصحيح".

الشركة العامة للكهرباء والمؤسسة الوطنية للاستمثار في طرابلس يعيشان على وقع خلافات تتعلق برفض الإدارات القديمة لقرارات المجلس الرئاسي بتعيين لجان تسييرية تخلفها. مديرية الأمن في بنغازي شهدت نزاعا بين آمرها السابق مع وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة، بل أصدر الأول أمرا باعتقال الوزير لأنه أصدر أمرا بإقالة الآمر، وتنقضي هذه الأيام ولاية محافظ مصرف ليبيا المركزي في طرابلس لكن سبق ذلك صدور توضيح عن إدارة الإعلام في المصرف تبرر الأسباب القانونية التي تمنع الصديق من التخلي عن منصبه.

بعد انعقاد مجلس النواب في مدينة طبرق أصدر عددا من القرارات بإقالة عديد المسؤولين من مناصبهم الدينية والعسكرية والمدنية ولم يستجب الموجودون خارج حدود سيطرته مع تقديم مبررات الرفض التي وصلت لدى بعض الرافضين إلى حد عدم الاعتراف بشرعية وجود مجلس النواب من الأساس، طبعا استنادا لحكم الدستورية.والاستقراء سيمتد لو تتبعناه فنجد الأمر في سفارات وبعثات ليبيا في الخارج وفي مستوى الإدارات المحلية والبلدية.

والمشهد يتكرر بين الأحزاب السياسية التي تواجه أزمة في التداول ومن المتوقع أن تحدث انشقاقات لبعضها عندما يحين زمن انتخابات قياداتها أو ربما نعلم حينها بتعديلات في قوانينها الأساسية ولوائحها الداخلية تجيز لقياداتها الاستمرار لولاية ثالثة وربما ولايات غير محددة. حتى مؤسسات المجتمع المدني يستمر أغلبها مع المدير ذاته أو رئيس مجلس الإدارة، وغالبا هو من يقرر التنحي ربما للترقي إلى منصب آخر، وأحيانا يستمر تمسكه بمنصبه الأصغر إلى جانب الأكبر.

شيوخ القبائل والعُمداء يستمرون في تسيير شؤون القبيلة أو البيت الذي ينتسب إليه الشيخ دون تغيير إلا بالموت أو المرض الذي يمنعه من ممارسة دور المشيخة وهذا يقترب من كلام فقهاء الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية عن أسباب انتهاء ولاية الخليفة.

ما من شك أن تداولا تم في ليبيا عندما تخلى المجلس الوطني الانتقالي عن سلطته وأصدر قانون انتخاب المؤتمر الوطني العام غير أن الكل يعرف أن ضغوطا شعبية كبيرة كانت تمارس على المجلس ليعقد انتخابات المؤتمر الوطني وعديدهم كان يقودها زعماء وشيوخ ومشايخ. وهذا أمر يشبهه ما حدث في انتخابات المجالس المحلية الأولى ثم البلدية. وشهدنا تأخر كبير في انتخابات المجلس المحلي طرابلس الذي فوَّت الانتخاب الأول، واضطر إلى التسليم في الانتخابات الثانية.

التداول كموضوعة معرفية أو قيمة أخلاقية (سلوكية) ليس من مكونات الإرث الثقافي الاجتماعي لنا كليبيين لأسباب تتعلق بالبنية الاجتماعية ذات الشكل الهرمي المستديم وهو نظام المشيخة للقبيلة الذي حظي بتأويلات معرفية مستمدة من الثقافي الديني حيث تستمر سلطة شيخ القبيلة بموازاة مع سلطة (الفقيه) اللذين يتعاضدان في استمرار سلطتيهما على أبناء القبيلة.

ولم تغير مقولات التحديث التي تبناها ظاهرا بعض الليبيين الكثير في هياكل السلطة الاجتماعية والدينية. بل استمرت السلطتان تتعاضدان في دعم الحاكم الذي التزم بديمومة السلطة لديه استنادا للتنشئة التي تعرض لها والمؤسسة من جهتها على الإرث الثقافي والاجتماعي.

التداول هو مفهوم غربي جاء بعد تغييرات جذرية نتجت عن حروب وثورات وسيرورة تنويرية استغرقت قروناعدة، تقلصت فيها سلطة الحاكم (الملك وأمراء الإقطاعيات) والراهب والقس والبابا (رجل الدين) ونتج الفكر الديموقراطي المستند إلى عديد النظريات الفلسفية من بينها نظرية التعددية، واستفاد التداول من نظرات فلاسفة الاجتماع والسياسة في آرائهم المتأثرة بنسبية
 (نسبيات) جاليليو ونيوتن وأينشتاين، وهناك تأثيرات الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر وأقرانه في توطينهم لنظرية التطور في العلوم الاجتماعية.

أما في مجتمعنا الليبي فلانزال نعيش تأثيرات الإرث الثقافي الاجتماعي الذي منح "الزعماء والشيوخ والمشايخ" في مستوياتهم المختلفة مستوى من التقديس والأبدية، وعندما حاولنا تطبيق التداول في جانبه السياسي بشكله الغربي اصطدمنا بذلك الإرث الذي تتسع فيه حلقات المطلق، وتتضاءل النسبية التي لاتزال تصدر في حقها فتاوى دينية في عالمنا "الإسلامي". ونظرا لعدم تمكننا من إعادة صوغ نظرياتنا المعرفية وهياكل التفكير لتقبل نسبية الأفكار لعلة صدورها عن الإنسان الموسوم بالقصور. كما ليس من وظائفه الكلام باسم المقدس، وينتج عن النسبية خطابات وتطبيقات في السلوك والعلاقات تعكس تعددية معرفية في المجتمع. عند تحقق ذلك يصبح ممكنا الانتقال إلى التداول على السلطة، وعدم تبرير التموضع الثابت في "المناصب" بحجج قانونية أو دينية أو اجتماعية.

ربما هذا يفسر "العسر" المزمن في عمليات الانتقال الاجتماعي والثقافي والسياسي في ليبيا الذي يتمثل في الاحتراب الأهلي الواسع منذ فبراير 2011 حيث يصطف فيه الناس خلف الزعماء والشيوخ والمشايخ مصحوبين بكم واسع من المبررات لرفض التداول السلمي على السلطة والمناصب أو التخلي عن النظام المركزي الذي يمثل سببا رئيسيا للصراع في ليبيا. ومقاومة القذافي في فبراير للتداول ثم التغيير هو ذاته ما يحدث في ليبيا منذ الاصطدام معه حتى يومنا هذا، فالحرب المستمرة في ليبيا هي مقاومة للتداول لعدم الإيمان بالتعددية المؤسسة على النسبية وهذا قاد الزعماء والشيوخ والمشايخ الحاليين وكذلك المحسوبين على النظام السابق إلى التموقع في مناصبهم والتحصن بمجتمعات محلية تشاركهم الوعي المعرفي والتطبيق السلوكي الرافض للتعددية المؤسسة على النسبية.


ولعل الحالة "الزعماتية" منحت الزعماء "الحق المطلق" في عقد تحالفات خارج جغرافية الوطن وتبرير مجموعاتهم الاجتماعية لتلك التحالفات بشكل لا يمكن معه قبول أي ملاحظة فضلا عن نقد تفصيلي، وربما قاد هذا "الزعماء والشيوخ والمشايخ" إلى أن يصبحوا وكلاء للحرب بين القوى الإقليمية المتصارعة، وهم الآن يتطورون ليصبحوا وكلاء للحرب بين القوى الكبرى في الحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق