الأحد، 31 يوليو 2016

إسماعيل القريتلي : احتمالات القضية الليبية : التفرد – الحرب – الانقسام – التفاوض



أشرت في مقالين سابقين إلى جذور الصراع في ليبيا، ركز الأول على الدور الذي يلعبه الدين والجماعة الاجتماعية في الصراع على السلطة في ليبيا، والثاني تناول تأثيرات الجغرافيا والديموغرافيا على الصراع الحالي. وكلا المقالين يثيران إشكالات ذات عمق تاريخي لم تكن أبدا وليدة صراع ما بعد فبراير 2011. بل يوعد في أساسه الثقافي إلى قرون عديدة في ما يتعلق بدور الدين؛ من خلال التعريفات والمفاهيم التي أسهمت من عهود قديمة في إذكاء الصراعات على السلطة. وغالبا، لم ينجح الفقهاء عمليا في تقديم منظور للسلم الاجتماعي بل كانوا يميلون للسلاطين والأمراء والحكام المتنازعين على الحكم. وكان لكل بطانته الفقهية وجماعته الاجتماعية التي تؤيده وتشاركه الحرب ضد مجموعة أو مجموعات أخرى تناهضه.
كذلك أشرت إلى أن الصراع في ليبيا له بعد آخر يتعلق بغياب تفاهم سياسي ذي بعد معرفي بين مكونات الديموغرافيا الليبية، التي لم تتشكل في مجتمع حديث نتيجة سيرورة تطور اجتماعي طبيعي، وسياق سياسي تاريخي واحد فوق جغرافية ليبيا الحاضرة. وإن كانت ملامح ذلك بدأت تظهر منذ العهد العثماني الأول دون أن يصل التحديد فيها إلى التفاصيل، التي تشكل مجتمعة العقد الاجتماعي ومن ثم الهيكل السياسي للسلطة والإدارة، وكل ما يتعلق بهما من توزيع الموارد والعلاقة بين المحلي والمركزي.
ولاحظت في المقال الثاني أن الليبيين اجتمعوا وجدانيا دون تنظيم على مقاومة الاستعمار الإيطالي، ثم رفض الانتداب الإنجليزي، لكنهم لم ينجحوا في التفاوض والاتفاق على نموذج التعايش بينهم. وأعلن استقلال ليبيا في ظل غياب تفاهم واتفاق بل كانت الخلافات منذ البداية على النظام الاتحادي والملكية والعاصمة وأعلن الاستقلال دون حسمها.
ولأن ما حدث في فبراير 2011 كان يمكن أن يشكل فرصة لإعادة بناء تفاهم اجتماعي سياسي بين مكونات ليبيا، غير أن أيا من ذلك لم يحدث. وعلى عكسه، ما حدث هو الإسراع لخلق حالة سياسية غير مؤسسة على تفاهمات ومفاوضات وتنازلات ومساومات. مما فتح الباب واسعا لصراعات ذات عناوين متعددة، لأن سقوط الاستبداد وحكم الفرد أعاد تشتيت قوة السلطة على الجهات والمناطق والجماعات الاجتماعية. وكلما طال أمد الحرب كلما تفتت قوة السلطة لصالح الزعامات المحلية، التي تسعى لتوفير دعم عبر تحالفات محلية وخارجية، أو تفشل لتحل مكانها أخرى فازت بذلك الدعم المحلي والخارجي.
تتبع التحولات في الصراع الاجتماعي الجهوي الاقتصادي السياسي عبر واجهاته السياسية والعسكرية  يشير إلى أن ثمة احتمالات أربعة تتجه نحوها القضية الليبية. وهي احتمالات ليست بالضرورة أن أحدها يتلو الأخرى، بل قد توجد في زمن واحد وفي عين المكان. وأساس هذه الاحتمالات الصراع على السلطة والموارد بين الجهويات التاريخية، وما يدور في فلكها من تموضعات سياسية بعضها يعود إلى عهد الملكية، وأخرى تتخذ من نظام القذافي واجهة لها، وأخرى تصر على ملكية فبراير. مع جهوية تاريخية وأحلاف من المتدينين والليبراليين يمنحونها الشرعية الإيدولوجية الغائية.
في الصراع الحاضر، يبدو أن جهويات وواجهات تصر على التفرد بمركزية الموارد والقرار التشريعي والتنفيذي في السياسة والاقتصاد. ورغم أن التناقضات الواضحة داخل جغرافية تلك الجهويات. وبعض التناقضات لها عمق تاريخي وظهرت بعض تمثلاتها بعد فبراير، فلا تزال القوة الأكبر في إقليم طرابلس ترفض أي تنازلات لصالح الجهويات خاصة برقة التي تقدم تصورا غير مركزي للقرار التشريعي والتنفيذي والمالي في السياسة والاقتصاد. الأمر الذي لا يناقض فقط مكاسب إقليم طرابلس من المركزية بل يتعارض مع تعريف الوطنية الطوباوي الذي نشأت عليه أجيال عديدة منذ ألغاء النظام الاتحادي في 1963 فكل حديث عن حقوق الجهويات يفسر على أنه توجه انقسامي يناقض وحدة ليبيا.
وهناك محاولة الاستناد إلى المؤسسة العسكرية للوصول إلى التفرد المركزي السابق مع تناقض بات واضحا لهذا الاتجاه مع جهوية برقة التي حالفته بداية ربما ضد مركزية إقليم طرابلس. وكلا الاتجاهين المركزيين قد ينتهيان إلى إنتاج حالة استبداد فردية؛ يعتمد في إحداها على المؤسسة العسكرية ويحاكي نماذج عربية حاضرة وسابقة، في الثانية استبداد جهوي يعتمد المحافظة على مكاسب المركزية لنظام ما بعد 1963. ولكن لحدوث ذلك قد تندلع حرب مركزية بين اتجاهي التفرد والاستبداد، وفيها يعاد تشكيل التحالفات الجهوية وما يتبعها من نخب دينية وليبرالية تبرر تلك الحرب وتحرض عليها.
في حال عجز أي من اتجاهات التفرد والاستبداد على إنهاء الحرب المحتملة بينهما لصالحه، فإن مزيدا من الحروب الصغيرة والمحلية بين جماعات اجتماعية وعرقية وثقافية من المحتمل أن تندلع بعد أن تختفي العناوين الهوياتية الوطنية الجامعة، التي تحقق خسارة مستمرة منذ اندلاع الحرب في فبراير، وتنحسر أمام تقدم الدعاوى الجهوية المحلية؛ ربما بسبب طوباوية الهوية الوطنية الجامعة المتسندة لمثيولوجيات قومية ودينية ترفض الاعتراف بالاختلاف، وتتنكر للتنوع وتستند إلى مركزية السلطة في جانبها التشريعي والتنفيذي.
ومن المحتمل أن تتسع المواجهات الجهوية ذات الصبغة الدينية كلما نجح المتدينون في خلق أحلاف تخدم غايات الاجتماعي والديني وهذا أمر له شواهد تاريخية عديدة وفي مناطق جغرافية مختلفة فالديني يفتقر إلى القوة الاجتماعية التي تمكنه من فرض منظوره الديني باستخدام القوة الناعمة والخشنة للحليف الاجتماعي.
وقد لا يتوقع الكثير أن حروبا محتملة قد تندلع بسبب فشل السلطة المركزية وظلالها في المحليات من إيصال الخدمات وتوفير السلع وتسييل الأموال في أيدي الناس لشراء تلك السلع الضرورية، وهذه الحروب ستكون أشبه بعمليات السطو والسلب والقرصنة. وربما تضطر بعض التجمعات الاجتماعية من الاعتماد عليها للحصول على ضرورات الحياة الأساسية. فضلا عن التوسع فيها لدى بعض أمراء الحرب لضمان استمرار سيطرتهم على مجموعتهم المسلحة وجماعاتهم الاجتماعية.
وليس بعيدا أن تصعد في المشهد المتناثر زعامات جهوية في مناطق عدة، تتمكن من تحصيل أسباب التفرد في مناطق وجودها، وتشكل منظورا للاستقلال عن السلطة المركزية، التي يتسع عجزها ليس فقط في السيطرة العملية على جغرافية ليبيا، بل حتى على جغرافية جهويتها الأقرب. ناهيك عن عديد الصراعات والخلافات في مناطق نفوذها المفترضة.
قد يختلف شكل الاستقلال وإطاره السياسي والهيكلي؛ فما بين مطالبات بالانفصال خاصة في برقة وبعض مناطق الجنوب خصوصا المتاخمة لتشاد وبين المطالبة بالتوسع في نظام الإدارة المحلية الذي يمنح المناطق والجهويات استقلالا واسعا عن السلطة المركزية. وهذا تتسع المطالب به في إقليم طرابلس التاريخي. وقد عبرت بعض البلديات عن رفضها التقاسم في طرح الأحمال الذي يخطط له مركزيا بسبب ما وصفوه بمحاباة بعض المدن والجهات داخل الإقليم. بل حتى بعض بلديات طرابلس العاصمة رفضت طرح الأحمال لذات السبب.
من المؤكد أن الاحتمالات الثلاثة السابقة؛ التفرد والحرب والانفسام ليست ثابتة من الناحية الجغرافية والديموغرافية. بل من المتوقع أن تتغير فيها التداخلات؛ فتنشأ أحلاف وتنقض أخرى. وهو أمر شاهدناه يتعدل بوضوح منذ فبراير 2011، ورأينا حلفاء الأمس باتوا أعداء اليوم، والعكس حدث كذلك.
وفي تقديري أن المشهد هذه الفترة يعاد تشكله على أساسين السلطة المتفردة والإدارة المركزية من جهة والمحاولات المستمرة لعديد الجهويات بالتحرر من التفرد والمركزية من جهة أخرى. وتشهد برقة خاصة إعادة رسم تحالفاتها بسبب المنظور المنفرد الذي أظهره زعيم الكرامة. وهو أمر بات ظاهرا للعيان خاصة في بنغازي. والأمر ذاته من المحتمل أن يشهده إقليم طرابلس بعد متغيرات معركة سرت التي ستؤثر على موازين القوى خاصة بين مدينتي مصراتة وطرابلس سواء انتهت الحرب بسرعة لصالح مصراتة أم تأخر الحسم واستمرت جيوب تنظيم الدولة في التفجيرات. بالعموم ستمنح الحرب في سرت مبررا لمصراتة للعودة إلى طرابلس بقوة وتضع مطالبها أولوية سواء أمام المجلس الرئاسي وحكومته أو أي سلطة أخرى. وتقابلها جهويات العاصمة التاريخية التي باتت تمتلك مجموعات مسلحة قوية نسبيا.
ولم يكن الصراع على الموارد والقرار السيادي المركزي (التشريعي والتنفيذي) بمنأة عن مصالح عديد القوى الإقليمية والدولية التي وجدت في النزاعات المحلية طريقا لرسم تحالفاتها في ليبيا التي تحفظ لها مصالحها في الموارد والقرار الليبي. وليس صعبا إدراك التناقضات بين القوى الخارجية الإقليمية والدولية تجاه مصالحها في ليبيا؛ فبعضها تمثل له ليبيا مجالا اقتصاديا حيويا خاصة في النفط والغاز وما تملكه تلك الدول من شركات في ليبيا أو تلك التي تطمح لتوسيع نفوذها الجيوبولتيكي سواء في إفريقيا جنوب الصحراء أو شمال إفريقيا.
وربما أدى هذا التدخل والتداخل من القوى الأقليمية والدولية في ليبيا عبر حلفاء متوزعين جهويا وثقافيا ولهم واجهات عسكرية وسياسية وفكرية دينية وليبرالية إلى نشوء حروب بالوكالة وخلقت بيئة للمتاجرة بالحروب والتكسب بتجارة السلاح العابرة للحدود وأوجد في ليبيا ملاذا للمقاتلين العابرين للحدود سواء بخلفيات دينية أو غيرها.
تلك الاحتمالات من المتوقع أن تتسع. مع احتمال أن تتبدل شخوصها وجهوياتها وإعادة تشكل التحالفات المحلية والخارجية المرتبطة بها. ولكن هناك احتمال رابع ننهي به المقال. وهو من جهة العقل ليس مستحيلا وإن كانت صعوبات الواقع من احتراب وانقسام تجعل تحققه عسيرا، خاصة في ظل عدم وجود ظهير خارجي له. أي لابد أن يتأسس ويتحرك محليا. وهذا الاحتمال هو التفاوض بين كل الليبيين دون إقصاء لجهة أو مجموعة وأن يكون موضوع التفاوض هو القضايا الأساسية التي شكل عدم الاتفاق عليها أساس الخلاف والصراع في ليبيا وبرر إسقاط الملكية ونظام القذافي على التوالي..
وتمثل مركزية السلطة والإدارة القضية الأهم في الخلاف بين الليبيين وبالتفاوض بقصد الاتفاق بشأنها يمكن أن تنشأ الهوية الوطنية الجامعة التي تعترف بأصالة الاختلاف والتنوع وترفض كل المركزية في السلطة (القرار السيادي التشريعي والتنفيدي) والإدارة والتخطيط لأنها ليس نموذجا يصلح لليبيا في ظل اتساع جغرافيتها وعدم توازن توزيعها الديموغرافي وللتجربة التاريخية منذ قرابة ستة عقود.
مفهوم الوطن الواحد يفتقر إلى تفاوض عميق وعريض يحدد مفهوم الوحدة بين الليبيين دون أن ينتهي المفهوم إلى حصر مفهوم الوحدة إلى حالة مركزية طوباوية تحافظ على مكاسب جهة دون غيرها.
ومن المهم أن يتم في هذا الاحتمال التوسع في مفهوم الموارد بحيث لا يقتصر الأمر على النفط والغاز. بل لابد دستوريا وتشريعيا وتنفيذيا وإداريا من التركيز على الموارد المحلية لكل جهة ومنطقة ومدينة وقرية وإعادة استثمار الموارد الوطنية (النفط والغاز) في تطوير البنية التحتية الأساسية وتنمية الموارد المحلية وتحديث الإدارة المحلية لتتمكن إدارة مواردها بما يجعل اقتصاد المناطق والجهات والمدن والقرى مستقلا وبالتالي رافدا للاقتصاد الوطني.
أعتقد أن تنمية الاقتصادات المحلية بعيدا عن هيمنة المركز السياسية والتشريعية والإدارية التنفيذية والمالية وفي التخطيط ليس فقط يحمي وحدة ليبيا ويمنح لمفهوم الوحدة بعدا عملياتيا (براغماتيا) بل ويحمي تلك المناطق والمحليات والجهويات من احتمال نشوب حروب على الموارد المحصلة من المركز بعد أن تقل موارد المركز نفسها وهي النفط والغاز.
ربما إعادة تحديد أولويات السلطة المركزية هذه الفترة في إطلاق يد المحليات والجهويات في التنمية المكانية، وتوجيه كل الموارد المركزية لبناء الخبرة والمهارة المحلية في إدارة المشروعات والموارد، وضمان تعاقدات عادلة بين المحليات والجهويات والمستمثر المحلي والأجنبي، والتزام دور السلطة المركزية دور الاستشاري، وكذلك المدافع عن التنمية المكانية ومن ثم تعديل كل التشريعات المعارضة لذلك.
من الواضح أن التفرد في مركزية قرار إدارة الموارد سوف ينتج حروبا عديدة ويوسع احتمالات الانقسام ويمكن للقوى الخارجية التي تبحث عن مصالحها حتى على حساب مصالح الليبيين المتناحرين. في المقابل قد تمثل التنمية المكانية غير المرتبطة عضويا بالمركز الحل لمشاكل أساسية متعلقة بالنظام السياسي ونموذج الإدارة ويخلق هوية وطنية عملياتية مؤسسة على المصالح المشتركة الحاضرة والفرص المنظورة لتأهيل المجتمعات المحلية والجهويات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق