الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

عصام الحاسي : ماذا يعني غياب الحرية؟


كي نجيب على هذا التساؤل علينا أن نعيد الأشياء إلي أصولها أوّلاً ، فلا يمكن أن تـُـفهم حقيقة الحرية إلا إذا ارتبطت بأصل وجودها واقترنت بموجدها في دائرة الكون الكبرى لهذا الوجود المتجانس الذي يرتبط مع بعضه البعض بنسيج متصل ارتباطاً جينياً. إذ لا تعدو الحرية كونها قيمة استثنائية مستحدثة في منظومة القيم ، ظهرت مع التكليف وارتبطت بالإنسان بالدرجة الأولى ارتباطا وجودياً ، فلم يكن هناك شيء اسمه حرية بمعنى التخيير بالأساس!!! . وبالرغم من أن الملائكة تتمتع بمساحة من الحرية كما بيّنت قصة خلق آدم في القرآن ، حين ما وجهت سؤالًا استفسارياً لرب العالمين (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.....البقرة) ، إلا انها ومع ذلك لا تملك حرية الاختيار ، فحرية الملائكة حجر على إرادة واحدة وهي إرادة الخير. أما الحرية بمعنى التخيير فليست في حقيقتها سوى استثناء في منظومة من العبودية تدين فيها الكائنات بالولاء المطلق والتسليم التام لله سبحانه ، وترتبط  مع خالقها في تناغم وانسجام برباط مقدس من الحب و الطاعة ؛ وتظهر هذه العلاقة واضحة جلية في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ....... فصلت : 11 ، ولو شاء سبحانه لأمر السموات والأرض بأن يأتيا دون تخيير لكنه جل وعلا أراد بتخييرهما أن يبلغنا رسالة مفادها التنويه إلي طبيعة العلاقة بين هذه المخلوقات و بارئها ، إذ لو كانت العلاقة غير الحب لكان الجواب أتينا كارهين.



في هذه المنظومة المتناغمة من العبودية والخضوع التي قوامها الرحمة والعدل والحب ، شاءت حكمة الخالق سبحانه أن يستثني مخلوقاً متميزاً ذو مواصفات سمعية وبصرية خاصة ، ليهبه هذه القيمة الاستثنائية التي لم يعطيها لأي مخلوق آخر في الكون ، وهبه حرية أن يختار بمطلق إرادته ، في أن يكون داخل هذه المنظومة أو خارجها. وبالرغم من الثمن الباهظ للإخفاق في تحمل تبعات وأعباء وتكاليف هذه الحرية ’ إلا أن هذا المخلوق الظلوم الجهول قَبِل أن يدفع الثمن ، في حين آثرت عظائم المخلوقات البقاء داخل المنظومة إشفاقا ورهبة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا......... الأحزاب: 72، فكانت حرية الإنسان في حقيقتها محنة و ابتلاء عظيم وامتحان غاية في الشدة (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ......الإنسان : 2

لكن الإنسان خلق ليكون حرّاً ، فحرية الإنسان في أساسها إرادة ربانية و مشيئة إلاهية قبل أن تكون مطلباً إنسانياً وإرادة بشرية. فقد شاءت حكمته سبحانه أن يكون للعقل إرادة مطلقة غير مقيدة ، وهذا من تمام العدل الذي يكافئ مقتضى التكليف ، إذ لا يمكن لمسألة الاختيار أن تتم بمنتهى العدالة إلا إذا امتلك العقل مطلق الإرادة. ليختار طائعاً السير مع حركة الكون و الالتحاق بركب الكائنات في المنظومة الأمّ ، منظومة العبودية ، إذ لا يصح ولا يستقيم أن تكون علاقة المحدود بالمطلق غير العبودية والخضوع ، ولن ترضى الإرادة المطلقة بأن تكون العلاقة دون ذلك ( وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ....الزمر 7 ) فالكفر خروج عن المنظومة. إذ كيف يمكن للضعف والعجز والاحتياج أن يتساوى مع القدرة والقوة والجبروت المطلق او كيف يمكن للمعرفة المحدودة ان تحيط بالعلم أللّا محدود او العقل المحدود أن يفهم الحكمة المطلقة ﴿ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ.... الرعد: 13. لا يمكن لهذه العلاقة إلا أن تكون علاقة سيد ومسود وخالق ومخلوق ومطلق و محدود هكذا هي وهكذا أرادها الله. والجدير بالذكر هنا أن الانسان- وبالرغم من كونه خلق حراً- إلّا أنّ حرّيته منقوصة  ومحصورة في نطاقه العقلي ، فهو ليس في كامل التحكم في مجريات حياته ، فعلى سبيل المثال لا يستطيع الإنسان أن يتحكم في شكله أو طوله أو لونه ، ولا يستطيع أن يبقي دون نوم أو أكل أو شرب أو أن يبقى دون تنفس ، أو أن يتحكم في العمليات الفسيولوجية التي تحدث داخل جسمه ، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه  المرض أو الموت... إلى آخر هذه المسائل الخارجة عن نطاق سيطرته والتي ليس له القدرة على التحكم فيها ، فهو في هذا الجانب اللّاإرادي لا حرية له ، و يعتبر داخلاً في منظومة العبودية جبراً و لا خيار له إلا التسليم والخضوع. ويصف القرآن هذين الجانبين في الإنسان وصفاً بديعاً. قال تعالى:   (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.......... آل‌عمران 83 و المقصود بقوله: "طَوْعًا" هنا هو الإنسان ، إذ انه المخلوق الوحيد الذي يملك إرادة التخيير في أن يفعل أو لا يفعل دون قيد أو شرط.  والمعنى أن الإنسان يستطيع وبمطلق إرادته أن يُسلم نفسه لله طواعية دون إكراه أو إجبار﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾. أما قوله "وَكَرْهًا" فباستثناء حرية الإرادة عند الانسان فإن باقي الانسان ليس حراً ، بل هو مسلم لله كرهاً دون تخيير ، شأنه  في ذلك شأن بقية الكائنات التي ليس لها خيار فيما تفعل  إلا الإذعان والطاعة والله اعلم.

وتـُفهم حرية الانسان بشكل أكثر وضوحاً في حدود ما منحت لأجله و ذلك في  إطار التكليف ومسألة الاختيار. و هنا علينا أن نميّز بين أمرين أساسيّين و نفهم أنّ ثمّة فارق فاصل وجوهري بين مفهوم حرية الإرادة و حرية الإنسان بمفهوم الممارسة ، فالأولى مطلقة وتتعلق بكينونة الإنسان وقدرته على الاختيار ، وهي سبيله لمعرفة حقائق الأشياء و بها يصل إلي خالقه وفيها تتجلى حكمة الخلق. وأما حرية الإنسان بمفهوم الممارسة فمقيدة بالمنهج الذي يختاره الإنسان بمطلق إرادته ويرتضيه حكماً لسلوكيات حياته ، كونه كائن اجتماعي يعيش في تجمعات بشريه عليه واجبات وله حقوق ، بافتراض أنّ هذا المنهج المختار يكرس للحرية و يتواءم مع فطرة الإنسان وتركيبته البشرية ، وهو افتراض يحتاج إلي نظر.

 فلو استعرضنا الأيديولوجيات التي تتبنى الحرية كمعلمٍ رئيس ومركّبٍ أساسٍ لمكونات المجتمع المختلفة ، السياسية والاجتماعية والفكرية...الخ ، فسنجد وبالرغم من التنوع الايديولوجي في عالمنا الحاضر أن الإسلام و الليبرالية هما من يتصدر المشهد على الساحة اليوم. غير أن الإسلام ليس له وجود فعلي تتمثل فيه تعاليمه السامية وروحه الأصيلة مما يجعله أقل رواجاً وجاذبية من الليبرالية التي لها تواجد فاعل و حقيقي على الأرض. وبالرغم من التشابه الكبير بين الإسلام والليبرالية في تقديس الإنسان وحريته وخياراته وفي توصيف الحرية ومسمياتها إلا أن الانسان في الإسلام ليس حرّاً بالمفهوم الليبرالي للحرية ، فثمّة خلاف جوهري وعميق في المرجعية والمفهوم ، حيث يري الليبراليون أن المرجعية الليبرالية تكمن في هذا الفضاء الواسع من القيم التي تتمحور حول فردانية الإنسان وحرية الإنسان وحول العقل والتسامح والعدالة ، فكل ليبرالي هو مرجع ليبراليته وبالتّالي الفرد هو منبع القيم والسلوك ، فالحق الفردي له الأولويّة دون فرض أيّ مفهوم للصلاح أو الفضيلة ، بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد ووفق قناعته لا كما يُشاء له. ويختلف مفهوم الحرية في الإسلام عن نظيرتها في الليبرالية ، حيث الفرد في الاسلام ليس قيمة مطلقه يتصرف وفق ما يمليه عليه هواه ، بل هو مقيد باتباع تعاليم المنهج الرباني الذي يسعى حثيثاً إلي تحرير إرادة الإنسان واستقلاليتها من خلال مجاهدة النفس وأداء الواجبات. فالفرد المسلم جزء من المجتمع الذي يعيش فيه عليه مسؤولية وتكاليف تجاه الأفراد الآخرين في مجتمعه ؛  فالغنيّ مستأمن في مال الله الذي عنده وللفقير حق في هذا المال ، والأقارب لهم حق الزيارة و المواساة وحق الإنفاق إن كانوا فقراء ، وللجار حق كاد أن يصل إلي الميراث ، وللوالدين حق الطاعة والإنفاق والإيواء... إلي آخر هذه السلوكيات التراحمية التي تؤدي في نهاية المطاف إلي تكاثف المجتمع وتعميق الشعور بالمسئولية  لدى أفراده تجاه الآخرين ، والذي يقود بدوره إلي تحرير مشاعر الفرد من قيود الأنانية والكسل  وينتج أفراداً أكثر اتزانًا و تحكماً في أنفسهم ومشاعرهم ، وبالتالي  أفرداً أكثر حرية وتحرراً. وكما أنّ الفرد المسلم مسؤول تجاه أفراد مجتمعه فهو مسؤول تجاه نفسه أيضاً ومطالب بمجاهدتها وتزكيتها حتى يصبح في كامل التحكم في نفسه ، صالحاً في ذاته قادراً على التأثير في غيره ، وهكذا تتحقق حرية الفرد و سعادته في المجتمع المسلم عندما ينتصر على نفسه ويكون نافعاً لغيره ، فحجر الزاوية في حرية الفرد هو في مجاهدة النفس وأداء الواجبات. فالحرية في الاسلام عمل دؤوب وجهد متواصل يؤدّي إلي تحرير الإرادة واستقلاليتها وهو المعنى الحقيقي  لمضمون حرية الانسان.

و خلاصة ما يجب أن  نفهمه هنا أن حرية الإنسان في مسألة الاختيار غير مقيّدة  فهو حر بهذا المعنى حرية مطلقه يختار ما يراه مناسباً ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾، لكن عليه أن يفهم أيضاً أنّه محاسب على اختياراته (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ....المؤمنون ﴾. لذلك من يختار الإسلام فقد أختار المنهج الذي يتواءم مع فطرته وتركيبته البشرية (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ...... الروم: ٣٠﴾ وأبرم عقداً مع الله بمطلق حريته، وفوّض ربّ العالمين للتصرف في إرادته والتحكم في سلوكياته من خلال الالتزام بتعاليم منهجه الذي يكرّس لحرية الإنسان ،  وهو بذلك قد اختار أن يعيش آمناً حرّاً.

ويكمن جوهر الإنسان في إرادة عقله الحرة (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ، ولو كان باستطاعتنا أن نجرد إنساناً من كل الأفكار والمعتقدات والقيم والأخلاق والمبادئ التي ورثها في حياته كلها لوصلنا في نهاية المطاف إلي حقيقة ذاته وهي هذه الصفحة البيضاء النقية المسماة الفطرة ، الخالية من أي شيء إلا الاستعداد لاستقبال ما ينقش عليها ، وتعد هذه الفطرة أو هذه الإرادة الحرة أو بتعبير ثالث هذه الحرية التي يولد بها الإنسان بمثابة عدسة الكاميرا ، كل ما كانت العدسة نظيفة وشفافة وغير مشوها كل ما كانت الصور التي تلتقط اقرب للواقع والحقيقة والعكس صحيح ، والفطرة السليمة تعني أنه لا يوجد مؤثرات تحجب العقل عن رؤية حقائق الاشياء ، وهي ترجمة لحرية الإنسان ، فالفرد الذي لا يستطيع أن يري حقائق الأشياء هو فرد مكبّل حبيس الإرادة مسجونٌ في نفسه معزولٌ عن حقيقة الحياة (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ...الروم: 7. لذلك كل ما كانت فطرتك نقية كل ما كانت قدرتك على فهم الحياة وتقييم الرؤى والأفكار أكثر دقّة وأقرب للواقع والحقيقة ، وبالتالي أقدر على بناء التصورات الصحيحة واتخاذ القرارات الصائبة ، فنظرتك للحياة عموماً تنبع من إدراكٍ نظيف وإرادة حرّة. و لعل هذا هو قول النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسّانه.....الحديث. أي كل مولود يولد بإرادة حرة وإدراك نظيف يؤهّله لمعرفة  حقائق الحياة ، ما لم تكبل هذه الإرادة ويشوه هذا الإدراك.  ومن أعظم حقائق الحياة بل وأعظمها على الإطلاق ، هي معرفة خالق الحياة واستقبال رسالته وإفراده بالعبادة كما أدرك ذلك إبراهيم عليه السلام بفطرته النقيّة ، وهي الغاية التي من أجلها وهب الله الإنسان هذه الإرادة وهذا الإدراك. ولكن من سنن الحياة أن لا تبقى هذه الإرادة حرةً باستمرار ولا هذا الإدراك نظيفاً على الدوام ، فقد يستبد بالعدسة الظلام وتسودّ هذه الصفحة البيضاء النقية ، فيٌـحجب الإنسان عن حقيقة ذاته وجوهر إنسانيته خلف أسوار عاتية من الأهواء والأطماع والمصالح ، والأفكار والمعتقدات الخاطئة ، و خلف تراكمات من الجهل والظلم و الاستبداد ، التي تحول بينه وبين رؤية حقائق الأشياء ، فيغوص في ظلمات من التيه والضلال ، وهنا تُضرب حرية الإنسان في مقتل ؛ (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا... الفرقان..... 43﴾ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ...... ابراهيم 3. ويصاحب هذا الطمس في الفطرة سلسلة كارثية من التردّي الأخلاقي أشبه بالقنابل العنقودية التي يفضي بعضها إلي بعض.

 لكن السؤال هو كيف تُسلب من الإنسان  حريتُه وكيف يفقد إنسانيتَه ويصل إلي هذا المستوى المتدني من الانحطاط الفكري والأخلاقي.؟ وهل يمكن أن تُـبعث فيه الحياة من جديد ويسترجع كنزه المفقود وحقه السليب ؟؟. يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

إنّ أصل كل بلية ومصدر كل شر هو الظلم والاستبداد ، لأنه يستهدف أخصّ ما في الإنسان وهي إنسانيته فيسحقها ، وإياك أن تنخدع بالأقنعة التي يلبسها أو الأشكال التي يتّخذها ، دينية كانت أم سياسية. اجتماعية كانت أم فكرية ، فهو ذات الوجه الكريه وعين الشجرة الملعونة ، التي رُويت بماء الجهل ونشأت في تربة الغفلة والتخلف وأنتجت ثمار العبودية. عندما تقمع الحريات و تحاصر الأفكار وتصادر الحقوق وتسلب الإرادة ويغيب العدل ، ويقهر الإنسان في رزقه وحقه في العيش الكريم ، وعندما تهان كرامته وكبرياؤه ويستهان بحرمته وخصوصيته ، ويـُعتدى على قيمه وثوابته و تُمارس عليه شتى أصناف البطش والإرهاب والتعذيب. عندها يتصدع بناؤه النّفسي والأخلاقي فيـُحدث ذلك شروخاً وتشوهات عميقة في كيانه تفقده إنسانيته و نقاءه الفطري ، فيُـظلِمُ قلبُه وتعمى بصيرته ويفقد حريتَه ، فتتيه خطاه على الطريق ويتحول إلي كائن غريزي أجوف لا روح فيه ، يحركه الخوف وتدفعه المصلحة والطمع ، لا يكاد يفهم للحياةِ معنى إلا بقدر ما تُـشبع رغباته الحسية ، غير قادر على فهم جوهر الأشياء و روح المعاني ، فنظرته للحياة قاصرة تنبع من إدراك مُـشوّه وإرادة حبيسة. فهو لا يحفظ ودّاً ولا يكتم سرّاً ، ولا يفهم للصداقة معنى ولا يقيم للمحبّة قدرا ، لا يدرك قيمة الإيثار والتضحية ولا يعرف معنى الصدق والوفاء ، لا يتذوق الجمال ولا يستشعر الحياة من حوله ، وليس للأدب والشعر عنده مكان ، يميل إلي تصديق الخرافة ويجمع بين المتناقصات؛ يتحدث عن التخلف وهو مصدره ويتكلم عن الفساد وهو أصله ، الرحمة عنده ضعف والتسامح عنده جبن ، يلين للقوي ويقسو على الضعيف ، يُـكذّب الصادق ويُصدّقُ الكذّاب ويأتمن الخائن ويُخوَّنُ الأمين ، تغلبه الظنون ويحكم بالشبهات ، كثير الشك مرتفع الصوت بذئ اللسان ، ينشط في الفتن ويتخاذل في نصرة الحق ، لا يكاد يُحقّ حقاً أو يبطل باطلاً.

عندما ترى الشعوب تخضع لحاكم ظالم أو تنقاد لإعلام مضلل أو ترتهن لآلة اقتصادية مستبدة ، دون أن تقاوم هذا الاستبداد والظلم والتضليل ، ودون أن تتفطّن بأنّها تساق إلي القيود والأغلال ، فاعلم أنها شعوب قد تعرضت للظلم والقهر فترات طويلة من الزمن ، شعوب قد توقف فيها النبض ومات فيها الإحساس بالزمن وفقدت القدرة على النهوض بذاتها وتقرير مصيرها بنفسها ، قد أسلمت قيادها ورهنت إرادتها لغيرها ، شعوب يرهبها التفكير وتخشى استخدام العقل ، قد استمرأت الذلّ وتعوّدت التبعية والانقياد. وهي أوضح معالم الشعوب المستعبدة وأبرز خصائص شخصية العبيد التي أنتجها الظلم وأفرزها الاستبداد. إنّ الظلم وغياب الحرية والعدل له آثار تدميرية هائلة على عقل الشعوب ووعيها ، ويكرس لمعاني الشر والفساد والسلبية ، فالشعوب المضطهدة بيئات حاضنه للتطرف والجهل والتخلف ، وأراضٍ خصبة للفوضى والتردي الذوقي والأخلاقي. ففي مثل هذه البيئات الموبوءة تنشأ سلسلة لا تنتهي من السلوكيات السيئة والأخلاقيات الهابطة ، كالحسد والكراهية والحقد والرغبة في البطش والانتقام وعدم التسامح والإمعان في الأذى وظلم المرأة ، والاستهانة بالمال العام وعدم احترام القانون ، والكسل وعدم الجدية والرغبة في العمل ، واستيفاء الحقوق وعدم أداء الواجبات ، والإفراط في المتع والترفيه ، والتخلي عن المبادئ والقيم بأبخس الاثمان.....الخ من هذه السلوكيات السلبية التي تدمر المجتمعات وتقضي على أي أمل في النهوض. وليست هذه الصفات حكر على فئة معينه من فئات المجتمع بل تطال  كل الطبقات والشرائح دون استثناء إلا من رحم ربي.


لا أمل لنا في النهوض إلا بتحرير إرادة الإنسان من أغلال القيد و العبودية ، لابد أن تتداعى الأسوار وتزول الحجب لتشرق في القلب أنوار الفطرة من جديد ويعود العقل حراً طليقاً كما خلقه الله ، ولا يكون ذلك إلا بالعودة إلي مصادر النور كتاب الله وسنة رسوله نعضّ عليها بالنواجذ. علينا أن نفهم أن  هذا الدين جاء من اجل الإنسان وحرية الانسان وكرامة الانسان ، فإذا تخطى ذلك فقد جوهره و لم يعد يصح أن يسمى ديناً. علينا أن نجدد خطابنا الديني و نصنع وعياً جديداً في العقل العربي الإسلامي ونفهم أن للدين جوهر وللشريعة مقصد ، وأنّ مقاصد الشريعة وجوهر الدين هو في الحرية و إقامة العدل ونشر الرحمة والمحبة والسلام والتعايش مع الآخر ، قال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ..الأنبياء 107 ، وقال تعالى ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ...طه 2 وقال تعالى  (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...الحديد 25 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق