الخميس، 10 سبتمبر 2015

محمد الشارف : الدكتور هشام ميزر.. يترجل

الدكتور هشام ميزر.. يترجل
1941 ــــــــــ 2015 م
ودعت الجالية المسلمة في سويسرا  الدكتور الفاضل هشام ميزر،  ذلك المقدسي الأصيل الذي جمعتني به أواصر أخوة في أسمى مشاعرها النبيلة، وذكريات لا تنسى، فإقامتي المتنوعة في سويسرا، وتعرفي على مستويات مختلفة من الجالية المسلمة تجعلني أقول: إن شخصية الدكتور هشام كانت استثنائية ومميزة، وذلك لقدرته على تكوين شبكة من العلاقات المتنوعة والمتعددة؛ فالفقيد كان رئيسا للأطباء في مركز الطب في مدينة سنغالن،


وهو أمر ليس هينا في مدينة يصعب عليها أن تقدم غير أبنائها للمواقع القيادية، تلاه النجاح الذي حققته عيادته الخاصة، وإجادته التامة وفصاحته المتميزة في اللغة الألمانية، ولهجة الشرق السويسري وخاصة مدينة St.Gallen وحضوره الفعال بين النخب السويسرية، وصناع القرار والرأي، وأنشطته المشهودة بين أبناء الجالية المسلمة، جعله محل تقدير من الجميع. لم تكن فصاحته الألمانية نابعة من دراسة متخصصة في اللغة، أو من طول الإقامة في سويسرا فحسب، بل من موهبته الأدبية، وهذا الذي علمته فيما بعد، فقد كانت توجهاته أدبية، وعندما بلغ العاشرة مرض والده مرضا عضالا توفي على أثرها، وبسبب مرض أبيه قرر الدكتور هشام رحمه الله ورحم والديه دراسة الطب.
تكوين الجالية المسلمة في سويسرا تغلب عليه فئة العمال، وبعض الموظفين، وفئة من الأكاديميين والمثقفين، ورجال الأعمال، والجو العام مثقل بالنظام الصارم المغلق لنمط الحياة، ويعيش أغلب أبناء الجالية عزلتهم المهنية والاجتماعية.
 تجاوز الدكتور هشام شبكة علاقته الخاصة، وانفتح على شبكة علاقات مختلفة عززها خلقه الرفيع ودبلوماسيته الفطرية وبديهته الحاضرة، وروحه المرحة، وفهمه المستوعب للمناخ السياسي والفكري في سويسرا، وهي صفات جعلت منه وجها مشرفا للمسلمين في سويسرا.
أرقه تشتت كلمة المسلمين في سويسرا، وهو ألم ممض عند الجميع، وكان طريق استغلال من بعض الصحفيين والسياسيين  في سويسرا، تحرك الدكتور هشام بحصافة وحنكة لسد هذا الثغر، وبخبرة الطبيب شخص الحال وبأفق  المثقف المسؤول انطلق بفاعلية  في تأسيس مؤسسة توحد كلمة المسلمين وتمثلهم لدى المؤسسات السويسرية بمختلف أنواعها، وتمنع استغلال هذا التشتت، فكانت ولادة  فيدرالية الجمعيات الإسلامية بسويسرا في عام 2006م، وانتخب الدكتور مرتين لرئاسة الفدرالية، كما اختير  سنة 2014م رئيسا لمجلس الديانات السويسري، فكان أول مسلم يتسلم مسؤولية هذا المجلس.
معظم الكانتونات (المحافظات) في سويسرا تحمل جينات ثقافية وتاريخية محافظة ومتحفظة في علاقتها مع الآخر، فالسعي في المطالبة بحقوق المسلمين والاعتراف الرسمي بالإسلام ليس سهلا في حقل المحافظة والحذر.
كانت الهموم المشتركة لأحوال الجالية وسبل النهوض بها هو ديدن نقاشاتنا،  وبعضها كان في بيت المرحوم، التي تحرص  فيه الحاجة عايدة -متعها الله بالصحة والعافية، وأحسن عزاءها في مصابها الجلل- على مائدتها العامرة التي يتجلى فيها  كرم المطبخ المقدسي، وبشاشة الفرح الحفي بالضيوف،  فكانت هذه الحفاوة المقدسية الأصيلة ترفع عنا كلف الضيافة، وتجعلك بين أهلك وفي بيتك.
هموم الجالية  المسلمة في سويسرا متنوعة ومتعددة، لكن أحدها كان له في نفوسنا وقع خاص وهو مشروع مقبرة للمسلمين في الشرق السويسري؛ هذا المشروع المدفوع بسؤال المصير، وهو القلق الوجودي الذي تحاول مظاهر بهجة الحياة السويسرية محاصرته والتخفيف من وطئته.
  في بداية قدومي إلى سويسرا،  تعرض أحد الإخوة المغاربة، وهو في ريعان شبابه لحادث سير من اصطدامه بسيارة، وهو يقود دراجته، فأرداه قتيلا، وهرب صاحب السيارة، كانت  صدمة هذا السلوك العابث، بداية الانطلاق في التعرف على الوجه الآخر للحياة في سويسرا، تلاه  إنذار السلطات السويسرية أن عدم دفع رسوم نقل الجثمان، والإتيان بالأوراق الأصلية التي تثبت هوية المتوفى في أيام معدودة سيترتب عليه أن تقوم السلطات السويسرية بدفنه، كان توفيقا ربانيا أن يسر الله التعرف على أحد أقارب المتوفى، وكان يقيم في بريطانيا، فأتى بما يثبت هويته، ويسر الله في مصاريف النقل، ودفن في المغرب، أرقني كثيرا ذلك الموقف، فجرح الشعور بالمنفى ما زال ينزف في بدايته، ولم أتعرف على آلامه الكثيرة بعد، والسؤال الذي أرقني  بعد هذا الموقف، لو حان الأجل في هذه القرية هل سأطوى في حفرة من حفرها بين قبور النصارى بعيدا عن أهلي ووطني؟ رحماك يا إلهي، إن الوطن الذي يسكن قلوبنا لا تحرم منه أجسادنا، هذا الموقف فرض أولوية السعي في إيجاد مقبرة للمسلمين في الشرق السويسري، كان حلما وقلقا يقض مضاجعنا، إلى أن تحقق بعد سنوات من الجهد المتواصل، وكان القلب النابض لهذا المشروع وقطب رحاه هو الدكتور هشام رحمه الله، فكانت الموافقة قبل وفاته بمدة وجيزة، فاستفتحت المقبرة بطفلين وكان هو الثالث، كما وضع حجر الأساس لأول مسجد يبنى في شرق سويسرا بعد وفاته تقريبا بشهر، وكانت الموافقة على بناء هذه المسجد من ضمن مساعي المرحوم.
الحركة الدءوبة للدكتور هشام في مفاصل الحياة السويسرية، فتحت آفاقا جديدة للجالية المسلمة فمن اهتمامه بسجناء المسلمين في السجون السويسرية، إلى زياراته للمرضى في المستشفيات والاطمئنان على صحتهم، ومتابعة القضايا المختلفة بين الجالية والمؤسسات، وحرصه على أن يكون صوت المسلمين حاضرا في الأنشطة المتعددة، ولن أنسى يوما عندما أخبرني عن قدوم أحد الصهاينة الألمان المقيمين في القدس إلى سويسرا وقد أصدر كتابا ويقوم بتسويق كتابه في محافظة (Appenzell ausserhoden) وهي محافظة بروتستانتية، انشقت عن محافظة (Appenzell)  بسبب الصراع الكاثوليكي البروتستانتي، فانقسمت إلى محافظتين على الرغم من صغر حجمها، فكان التساؤل في حينها، لماذا تعقد هذه الندوة في المحافظة البروتستانتية ولم تعقد في المحافظة الكاثوليكية؟ وهو أمر يرجع  إلى العلاقة التي تجمع بين الصهيونية والبروتستانتية.
 كان الحضور من المسلمين أربعة الدكتور هشام، وجمعة العمامي، و فرج العلواني، وكاتب هذه السطور، فوجئنا بوجود الشرطة تحرس المكان، ولم نر قط وجود شرطة تحرس مكانا لنشاط سياسي أو ثقافي أو اجتماعي إلا هذه المرة، حتى في حضور شخصيات رسمية، كان المكان ممتلئا، وأغلب الحضور من كبار السن جالسين يستمعون في تبتل وخشوع إلى صاحب الكتاب، وكأنهم في تكية يتحدث فيها شيخ إلى مريديه، كنت أنظر في استغراب إلى هذه الحالة، وسألت  نفسي: أين أثر النظام التعليمي للمدرسة في سويسرا في هذه العقلية؟ النظام التعليمي الذي يحرص على تفعيل العقل النقدي ومحاربة الأساطير السياسية، وترسيخ مفهوم الحقيقة النسبية لم نجد له أثرا في تلك الجلسة، استمعنا إلى خطاب مشحون بانفعالات عاطفية، وأساطير سياسية، بعيدا عن اللغة الهادئة التي نعرفها في الخطاب السياسي أو الثقافي في أوروبا. لكن ربما يعود ذلك إلى عامل السن فأغلب الحضور من كبار السن، ولم يدركوا التطورات الحديثة التي تمر بها التنشئة التعليمية في سويسرا.
كان الجو العام لا يسمح بالحوار، كان مهرجانا خطابيا ودعائيا، كنا على مضض، وكان الدكتور هشام يتحين الفرصة ليبلغ رسالته بطريقته اللبقة، وعند خروجنا كان صاحب الكتاب واقفا في المدخل أمام منضدة عليها نسخ من كتابه، وكأني بالدكتور استدرجه إلى سؤال فسأل صاحب الكتاب، من أين أنت؟ فأجابه أنه من ألمانيا ويسكن في القدس، فرد صاحب الكتاب على الدكتور السؤال الذي يبدو أنه كان ينتظره، فأجابه الدكتور هشام: أنا من المدينة الذي أخذت فيها أنت مكاني، فبهت الذي تصهين، تغير وجهه، وبدت عليه علامات الارتباك،  ولم يعرف ما يقول. وبدا وكأنه لم يفهم الجواب، فقال له الدكتور أنا من القدس، وخرجنا من المكان.
الدكتور هشام من مواليد القدس بالمدينة القديمة في حارة السعدية قرب المسجد الأقصى، وسليل أبوين من مدينة خليل الرحمن، درس في المدرسة العمرية الابتدائية، ودرس المرحلة الثانوية في المدرسة الرشيدية قرب الساهرة، كان من أساتذته في اللغة العربية الأستاذ الخطاط محمد صيام، والأستاذ راتب الرابي، والأستاذ أحمد عبد اللطيف، ومدير مدرسة الراشدية كان الأستاذ يوسف جلال.
 أخذ الشهادة الثانوية في أواخر الخمسينات، ثم ذهب إلى سراييفو لدراسة الطب، ونصحه أحد أساتذته بأن لا يبقى طويلا في يوغسلافيا، ويذهب إلى مدينة
( Heidelberg) الألمانية، ففيها أرقى الجامعات، فدرس فيها ثم انتقل إلى الدراسة في النمسا، وأتى إلى سويسرا للتخصص في الطب الباطني المتعلق بأمراض الكلى.
  عندما وقفت على قبره تعجبت لهذا الذكاء الألمعي، يتآكل تحت التراب، ولكن هي سنن الله، فحق لهذا الجسد أن يستريح من تحمل عبء هذه النفس الكبيرة والهمة العالية، والإرادة اليقظة، والذكاء اللماح، وقد نعاه شقيقه الدكتور عز الدين ميزر بأبيات جميلة عنونها: نعاك دمعي، يقول فيها:
أضقت بالأرض ذرعا أم بساكنها * أم أنه القدر المحتوم وافاكا
نعاك دمعي فعيني منه ساخنة * وكيف يبرد دمعي وهو ينعاكا
  ستعيش الجالية المسلمة ومدينة سنغالن فراغا  بفقدانها للدكتور هشام أسأل الله أن يعوضها خيرا ويلهم ذويه الصبر والسلوان.  إنا لله وإنا إليه راجعون
محمد عوض الشارف
ذو القعدة 1436 ه  أغسطس 2015م



قبر الدكتور هشام في المقبرة الخاصة للمسلمين بعد جهوده في تخصيص مقبرة خاصة للمسلمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق