الجمعة، 7 أكتوبر 2011

ترجمة : خالد محمد جهيمة : الفصل الخامس من كتاب تشريح طاغية (معمر القذافي)


في السلطة
الفصل الخامس من كتاب تشريح طاغية (معمر القذافي)
الكسندر نجارAlexandre Najjar
ترجمة : خالد محمد جهيمةKaled Jhima

فرض القذافي, بسرعة, سلطته, وأسلوبه. كان في ذلك الوقت بعيدا جدا عن الشخصية الشاذة التي رأيناها فيما بعد, على الرغم من أنه بدا متقلبا نوعا ما؛ فقد رفض, في أثناء زيارته لبنان, والأردن, وسوريا, في شهر يونيو من عام 1970, الالتزام ببرنامج, بل كان يفعل, بحسب الرئيس حلو "عكس كل ما هو متوقع"[1].

 
العقيد عدو للولايات المتحدة, وللغرب حقيق, لكنه لم يرتم بقوة في أحضان الاتحاد السوفييتي, وهو ما يؤكده المؤرخ فرانسوا بروش, بقوله : "لم يلعب القذافي قط دور حصان طروادة الاتحاد السوفييتي, كما هو حال كاسترو في أمريكا الوسطى, ولم يكن يهدف إلى  تأسيس الشيوعية في بلاده, ولا إلى غرس الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط, أو في أفريقيا, ولا إلى دعمه للسيطرة عليهما"[2]
لقد دعا القذافي, لكي يحقق حلم الوحدة العربية, العزيزَ على عبد الناصر, إلى التوحد مع دول عربية أخرى, فوقَّع, بتاريخ 17 فبراير من عام 1971, اتفاق بنغازي الذي ينص على تأسيس اتحاد الجمهوريات العربية, الذي ضم مصر, وليبيا, وسوريا, بقيادة أنور السادات, وتحت راية ثلاثية الألوان, حمراء, وبيضاء, وسوداء, ومَزِينةِ بصورة صقر بلون ذهبي, يمسك بمخالبه شريطا مكتوبا عليه " اتحاد الجمهوريات العربية"[3]. لكن كانت هناك خلافات عميقة, على أرض الواقع, أعاقت تطبيق هذا المشروع الطموح؛ فقد ساءت العلاقات مع مصر بعد حرب أكتوبر 1973. اشترك القذافي, مناصر القضية الفلسطينية القوي, في الحضر النفطي, ودعم الفدائيين بهمة. أما مصر فقد قطعت علاقاتها بموسكو, واقتربت من الولايات المتحدة, مع نهج سياسة المصالحة مع إسرائيل. وزاد التوتر في علاقاتها مع ليبيا, عندما أعلنت حكومتها إفشال مؤامرة ليبية للإطاحة بالسادات[4]. ثم هدد القذافي, بتاريخ 22 يونيو 1976, بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر, إن استمرت في القيام بأعمال تخريبية على تراب بلاده. انفجرت قنبلة, بتاريخ 8 أغسطس من عام 1976, في دورات مياه المجمع الإداري الواقع بميدان التحرير, في القاهرة, فجرحت أربعة عشر شخصا, واتهمت الحكومة, ووسائل الإعلام المصرية, مباشرة العقيد, وأعلنت اعتقال مواطنَين مصريين دربتهما المخابرات الليبية, لارتكاب أعمال إرهابية في مصر, فردت الحكومة الليبية بزعمها تفكيك شبكة تجسس مصرية في ليبيا. حشدت الحكومة المصرية, خلال سنة 1976, قوات على طول حدودها مع ليبيا, وازداد التوتر, بين شهري أبريل, ومايو من عام 1977, عندما قام متظاهرون بمهاجمة سفارتي البلدين. ثم قرر القذافي, في شهر مايو من عام 1977, بطرد 225000 عامل مصري, في الوقت الذي بدأ فيه متظاهرون ليبيون "مسيرة إلى القاهرة", وسلكوا الطريق الحدودية مع مصر؛ للاحتجاج على مفاوضات السلام التي يقودها السادات مع إسرائيل. لكن حراس الحدود المصرية كبحوهم, بتاريخ 20 يوليو من عام 1977, فقامت, من غد, كتيبة ذبابات ليبية, تدعمها طائرات ميراج 5 بالهجوم على مدينة السلوم, مما دفع مصر للرد بقصف عدد من مواقع العدو, كان من بينها قاعدة طبرق الجوية. لقد كان الأمر يتعلق, بحسب السادات, "بإعطاء القذافي درسا لن ينساه أبدا"[5]. تمَّ, في نهاية عدد من الهجمات, والهجمات المضادة, التي خلفت مائة قتيل في الجانب المصري, وأربعةَ أضعافهم بين الليبيين, فرضُ وقف إطلاق النار, بتاريخ 24 يوليو من عام 1977, برعاية الرئيس الجزائري هواري أبو مدين, وتبادلُ الأسرى بين البلدين, في شهر أغسطس. لقد أضر هذا الصراع, الذي دفع محررا في صحيفة نيويورك تايمز إلى أن يقول : "لولا وجود إسرائيل, لتقاتل العرب"[6], بالعلاقات بين البلدين زمنا طويلا...يُحكى أن القذافي لم يكن يستقبل السادات في المطار, عندما كان يقوم هذا الأخير بزيارة طرابلس, بدعوى أنه مريض, فيذهب الرئيس مباشرة إلى خيمة مضيِّفه, ويضطر إلى الانحناء ليدخلها؛ لأن مدخلها منخفض جدا, ولا تنتظر الصحافة الليبية من يرجوها؛ لتصوير السادات "راكعا" أمام القائد ! وعندما هدد القذافي السادات بنشر محضر الاجتماع الذي دار بينه, وبين كيسنجر, في عام 1974, في أسوان, أعلن الرئيس تفكيك شبكة دعارة تديرها ممثلة مصرية, من زبائنها "مسؤولون ليبيون كبار. ففضل القذافي, المحرَجُ, الصمت.
لقد بدأت القطيعة بين البلدين, بعد توقيع اتفاقيات سلام كامب دايفد, بتاريخ 17 سبتمبر من عام 1978, وصار السادات, بحسب القذافي, "خائنا" يجب على الشعب المصري إسقاطُه؛ لذا فقد رحب بقتله في شهر أكتوبر من عام 1981, واعتبر ذلك "عقابا" له. أما السادات, فربما قام, من جانبه, بتشجيع رونالد ريغن, على تخليص المنطقة من "المجنون" الليبي.
كانت العلاقات مع الجار التونسي مضطربة أيضا؛ فالوحدة التونسية الليبية (في عام 1974) فشلت, كما سلَّحت ليبيا مجموعة مسلحة مكونة من شباب تونسيين, قادوا, في شهر يناير من عام 1984, هجوما عنيفا هز مدينة قفصة التونسية. أما في شهر أغسطس من عام 1985, فقد أمر العقيد بطرد آلاف من العمال التونسيين, بعد أن جُرِّدوا من أملاكهم, وجُمِّدت أموالهم. وحاول إخافة الصحف التونسية التي احتجت على هذه الإجراءات, وانتقدت نظامه بشدة, فبعث إلي مقار هيئات تحريرها عشرات من الرسائل المفخخة, عن طريق الحقيبة الدبلوماسية, مما دعا أبو رقيبة, بعد أن انفجرت اثنتان منهما في مكتب بريد المنزه, بتاريخ 25 سبتمبر 1985, وخلفتا عددا من الجرحى بين سعاة البريد, إلى اتخاذ قرار بقطع العلاقات الدبلوماسية مع القذافي...
أُُجهِض, كذلك, عددٌ آخر من المحاولات الوحدوية, كتلك التي مع الجزائر (اتفاقية حاسي مسعود في عام 1975), والوحدة مع سوريا (1980), والاندماج مع تشاد (1981), واتفاقية الوحدة العربية الأفريقية مع المغرب (1984, حُل الاتحاد في عام 1986, على إثر زيارة شمعون بيريز مدينة إيفران), واتحاد المغرب العربي الذي ضم ليبيا, وتونس, والجزائر, والمغرب, وموريتانيا (1988), والوحدة مع السودان (1991)...كيف يمكن التعجب من هذا الفشل المتكرر ؟ يمضي العقيد, الذي يصعب السيطرة عليه, وقتَه في الخصام مع أغلب الأنظمة العربية؛ فقد دعا الشعب المغربي, إبان أحداث سكيرات, والهجوم على الطائرة الملكية, إلى الانتفاض ضد الحسن الثاني, وأدان الحسين ملك الأردن, على إثر الأحداث الدامية التي جرت في عمان, في شهر سبتمبر من عام , 1970, التي هلك فيها أغلب المقاومين الفلسطينيين, كما قطع علاقاته مع العراق, بعد أن وقع هذا الأخير, في شهر يوليو من عام 1972, معاهدة تحالف, وصداقة مع الاتحاد السوفييتي, واختلف مع السودان, بسبب عبور طائرات ليبية عسكرية تنقل سرا أسلحة, إلى عيدي أمين, أجواءَ هذا الأخير, وهاجم دون كلل الكويتَ, والإماراتِ العربية, والسعوديةَ ـ كانت معاركه الكلامية مع الملك السعودي, في القمم العربية, ملحمية ! الأسوأ من ذلك, تدبيرُه هجمات ـ أُحبطت ـ ضد السادات, والملك حسين, والملك عبد الله[7]...
أما فيما يتعلق بالغرب, فقد فتحت فرنسا, منذ خريف عام 1969, ذراعيها للقذافي, الذي كان يرغب في تقوية جيشه, وبدأت مفاوضات سرية بين البلدين, في الوقت التي كانت تُبقي  فيه السلطات الفرنسية على حضر بيع طائرات الميراج لإسرائيل, الذي قرره الجنرال دي يجول في شهر يونيو من عام 1967, بعد إطلاق إسرائيل حرب الأيام الستة . لكن المخابرات الإسرائيلية, وعلى رأسها الموساد, قد أذاعت سر هذه المفاوضات, فأسرعت حكومة جاك شابان دولما, التي أزعجها هذا الكشف, بإسراع الإعلان عن "صفقة القرن" في شهر يناير من عام 1970. وقد أثار هذا الخبر ضجة, وأساء متظاهرون يهود غاضبون إلى الرئيس بومبيدو, عندما كان في  زيارة إلى شيكاغو,  في شهر فبراير من عام 1970[8]. واضطر, بعد أن لاحقه عشرون متحمس تقريبا, كانوا يصيحون قائلين : "عار عليك ياسيد بومبيدو ! ", إلى اللجوء إلى فندق بالمر.
حاول المسؤولون الفرنسيون طمأنة إسرائيل, التي كانت تخشى من نقل معدات حصل عليها القذافي إلى مصر, فأخبروهم بأنهم ضمنوا الاتفاقية شرطا يمنع ذلك , كما أصروا على ضرورة منع السوفيتيين من الاستقرار في ليبيا[9], من أجل تهدئة الأمريكيين. كما صرح بومبيدو لنيكسون, عند لقائه به قائلا : "أستطيع أن أؤكد لك أن تسليم معداتنا سيتم  إيقاع بطيء للغاية, وأننا سندرب طياريهم بعناية, وببطء. لا بد من ربح الوقت". لكن الرئيس الفرنسي أخفى الحقيقة عن نظيره الأمريكي؛ فجدول التسليم الزمني كان أسرع بكثير مما كان يزعم. كما أن العقد لم يكن يتضمن فقط تسليم خمسين طائرة ميراج, بل كان يشمل في الحقيقة ينص على بيع مائة وخمسين منها, وكذلك مروحيات, وصواريخ جو ـ جو ماترا 550, وقنابل ماترا, وصواريخ دفاع جوي كوبرا, ورادارات مراقبة جوية, إلى جانب طلبات أخرى تتضمن طوافات بحرية, وصواريخ بحر ـ بحر, ودبابات إيه إم إكس, وصواريخ إيكسسيت ...يخلص جان بيرنار ريمو, في مذكرة سرية وُجِّهت إلى بومبيدو قبل زيارة القذافي باريس في نهاية عام , 1973 , إلى أن "اتفاق 28 نوفمبر [1969], قد نُفذ, بِعامة, بما يرضي الطرفين". كما يمكن قراءة الآتي, في الرسالة نفسها: "عزَّز العقيد القذافي, بعد أربعة أعوام من الانقلاب على الملكية, نظامَه, وظل مجلس قيادة الثورة ملتفا حوله. وهو مؤثر, على الرغم من تجاوزاته, بنقائه, وبنشاطه, وبإيمانه بأمته العربية. أما خيبة أمله في محاولة الوحدة مع مصر (سبتمبر الماضي), فلا يبدو أنها قد قللت من شعبيته..."[10]
"نقاء" ؟ ستُكذب الأحداث القادمة بقسوة المستشارَ بعيدَ النظر !
أما فيما يتعلق بالداخل, فإن علاقات القذافي, على عكس ما كان يعتقد جان بيرنار ريمون, بدأت تتسمم؛  فقد "غضب القذافي", واختفى من الساحة السياسية, فيما بين 24 مايو 1970, و14 يونيو 1970, و18 سبتمبر, و4 أكتوبر 1971, ثم في شهر يوليو من عام 1972؛ إعرابا منه عن انزعاجه. لأن زملاءه كانوا ينتقدونه؛ لاتخاذه قرارات دون أن يشاورهم بشأنها, ولازدرائه إياهم, ولغضبه المستمر, ويطلبون منه إقامة انتخابات حرة, وتبنيَ دستور دائم[11], لقد بلغ التوتر حدا أوصلهم إلى الاشتباك بالأيدي, وإلى سحب أسلحتهم في وجوه بعضهم البعض, عندما لا تكفي الإهانات. تعددت محاولات الانقلاب, التي كان من بينها المؤامرة, التي أُحبطت, والتي تورط فيها وزيران هما: حسين مازق, وعبد الحميد البكوش, الذي لجأ إلى مصر, وأوهم القذافي بموته, بنشره, في صحيفة الأهرام, صورة لجسده مضرجا بالدماء ـ ماكياج تم بالتعاون مع المخابرات المصرية. وقد نجحت هذه الخطة تماما في إنقاذ حياته !
حُكم, بتاريخ 7 أغسطس من عام 1970, على رفيقين سابقين للعقيد, هما المقدمان آدم الحواز, وموسى أحمد, اللذان اعتقلا في شهر ديسمبر من عام 1969, لاتهامهما بالاشتراك في مؤامرة, بالسجن مدى الحياة, وعلى 21 ضابطا آخرين بأحكام تتراوح ما بين ثلاث سنوات, وثلاثين سنة سجنا. ثم حكم على المتهمَين الأساسين, في الاستئناف, بتاريخ 17 أكتوبر من عام 1970, بالإعدام, لكن الحكم استبدل, بعد ذلك بقليل, بالسجن المؤبد.
هناك خطة وُضعت لإسقاط القذافي, في شهر يوليو من عام 1970, رسمها دافيد ستيرلينج, أحد مؤسسي الخدمات الجوية البريطانية الخاصة, وررئيس  واتشجوارد الدولية الخاصة, التي توظف عسكريين سابقين, وسُميت  "مهمة هلتون"[12], وكُلف بها 25 مرتزقا إنجليزيا؛ لتحرير 150 سجينا سياسيا في طرابلس, وإثارة انتفاضة عامة ضد النظام. لكن تُخلي عنها, على إثر تدخل المخابرات البريطانية, والأمريكية, التي خشيت من  اتخاذ إجراءات انتقامية في حالة فشل الخطة.
صرح ألدو مورو, زعيم حزب الديمقراطية المسيحية, ووزير الخارجية, بعد لقائه القذافي, في شهر مايو من عام 1970, قائلا : " أَحبطت إيطاليا محاولة انقلاب ضد ليبيا. كما أوقفت الشرطة الإيطالية, في شهر مارس من السنة نفسها, في ميناء ترييست, الباخرة كونكيستاتور 13, التي كانت ستنقل أسلحة, ومرتزقة فرنسيين إلى طرابلس, للقيام بانقلاب, بقيادة عمر الشلحي, مستشار الملك إدريس السابق[13]...
اختار القذافي, كأن شيئا لم يكن, سياسةَ الهروب إلى الأمام, فألقى, بتاريخ 15 ابريل من عام 1973,خطابا تاريخيا دافع فيه عن ديمقراطية, تكون فيها السلطة للشعب, وقدَّم برنامجا من خمس نقاط, تضمنت إلغاءَ القوانين الموجودة, وإحلالَ الشريعة الإسلامية محلها, والقضاءَ على المعارضين "المرضى, والمنحرفين", والدعوةَ إلى الشعب المسلح, وإعلان الثورة الإدارية, والثقافية. لقد استطاع بذلك الالتفاف على مجلس قيادة الثورة, وإحداث فراغ دستوري, يعني إنكار دولة القانون, ويؤسس, باختصار, نوعا من "شريعة الفوضى", تمكنه من إدارة الأعمال العامة بطريقة اعتباطية.
بلغ السيل الزبا, فحاول, في شهر أغسطس من عام 1975, ثلاثة عشر ضابطا من "الضباط الوحدويين الأحرار", وأربعة أعضاء من مجلس قيادة الثورة,  (بشير هوادي, عوض حمزة, عبد المنعم الهوني, وعمر المحيشي), إسقاط القذافي, لكنهم فشلوا. وتمثلت أسباب هذه المحاولة الانقلابية الواضحة جدا في : أنانية القائد, وهيمنته, وغياب الحوار عن المجلس... عاقب العقيد, وأدخل إجراءات عقابية جديدة, يترتب عليها الحكم بالإعدام على كل مخرب.
أعلن العقيد, بتاريخ 2 مارس, في سبها, وفي حضور فيديل كاسترو "الثورة الشعبية, وغير اسم البلاد من الجمهورية العربية الليبية, إلى الجماهيرية[14] العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى[15], وأنشأ "اللجان الشعبية", في الوقت الذي كان ينتظر فيه زملاؤه في مجلس قيادة الثورة, أن يعلن استقالته, بسبب الخلافات العميقة بينهم, وبينه. لكنه استبدل بمجلس قيادة الثورة أمانة مؤتمر شعب عام, في ظل استياء أعضاء المجلس, الذين سينتهي أغلبهم, في المنفى, أو تحت الأرض. وعين, بعد أن أصبح قائد السفينة الوحيد, أمينَ مؤتمر الشعب العام, وهو لقب سيحمله إلى عام 1979, الذي أعلن فيه نفسه "قائدا" ـ ضمن له هذا المنصب حصانة (ليست له مسؤولية رسمية ), وعدم قابلية للعزل (ليس هناك من هو أعلى منه ), وطول بقاء (عاصر ثمانية رؤساء أمريكيين) ! وبدأ يصرح منذ ذلك الوقت قائلا : "أنا قائد الثورة التي قامت في عام 1969. وقد سلَّمت, في عام 1977, الشعب السلطة, عن طريق المؤتمرات الشعبية. القائد له قيمة رمزية, كالملكة اليازابيت ! ". لكن هذه الجمهورية ليست علمانية. فقد تبنى العقيد, المتعصب المتشدد, في عام 1977 بعد قطيعته مع مصر, التي يشبه علمها علم ليبيا, علمَ الإسلام الأخضر رمزَ الأمل, والتجديد في بلد صحراوي؛ ليُظهر بوضوح أن الإسلام هو دين الدولة, وأن "القرآن شريعة مجتمع الجماهيرية". وحول كاتدرائيتي طرابلس, وبنغازي إلى مسجدين, ومنع الخمر ـ منعا مازال مستمرا, حتى في الفنادق ـ, وشجع الرجال على التخلي عن لبس ربطات العنق, "رمز الصليبيين", وساعد على تأسيس جمعية الدعوة الإسلامية, التي تهتم بنشر الدين الإسلامي في أفريقيا, وفي آسيا, وفي أوروبا[16]. وتملك هذه الجمعية, المستقرة في طرابلس, والمزودة بوسائل مهمة, جامعة تقدم منحا, وتمنح, بعد أربعة سنوات دراسية, شهادة داعية, وإذاعة مسموعة, هي إذاعة القرآن الكريم, التي تبث برامجها إلى أفريقيا, وأوروبا, منذ عام 1977. كما تقوم, بفضل مساعديها الذين يزيد عددهم عن ثلاثة آلاف (دعاة, وأساتذة, وممرضين, وأطباء)بمساعدة المحتاجين, وتدريب المعلمين,  ونشر الإسلام, واللغة العربية[17], وتمول بناء أماكن العبادة؛ فقد افتتح, بتاريخ 24 يونيو من عام 2009, مسجدٌ يسع أربعة آلاف مصل في مدينة سيجو, بمالي, وحضر الافتتاح أمين الجمعية العام, محمد أحمد الشريف, الملقب "بالسيد إسلام". وقد كلف هذا المشروع مبلغ 1,6 مليار فرنك أفريقي (حوالي 2,5 مليون يورو) ! توجد أيضا «قوافل تدعو إلى الإسلام", تجوب أفريقيا, منذ عام 1982, وتقدم العلاج الطبي, والتعليم الديني....
لا يُخفي القذافي عداءه "للمسيحيين"؛ فقد صرح, بتاريخ 15 أغسطس من عام 1980, في مقابلة مع صحيفة السفير ـ التي كان يدعمها ماليا ـ بأن "من الضلال أي يكون الإنسان عربيا, ومسيحيا في الوقت نفسه؛ لأن دين الأمة العربية هو الإسلام. إن كانوا (المسيحيون) عربا أقحاحا, فعليهم أن يعتنقوا الدين الإسلامي, وإلا فإنهم سيصطفون, من وجهة نظر روحية, إلى جانب الإسرائيليين. يمثل تعدد الأديان في قومية واحدة شذوذا؛ لذا فإن من الغريب ألا يكون العربي مسلما." مثل رائع عن التسامح ! كما سأل, بازدراء, الوزير اللبناني مروان حمادة, الذي جاء ليدعوه إلى حضور القمة العربية في بيروت, قائلا : "ما الذي يقدمه الموارنة للبنان ؟ ما هذه الطائفة ؟ من يحسبون أنفسهم ؟ لقد انتقد؛ لاقتناعه بأنه المتحدث باسم المسلمين في العالم, بشدة الدول الاسكندينافية, التي نشرت فيها الرسوم الساخرة التي تصور النبي معمما بقنبلة. يقول : "من يهاجمون, في الدول الاسكندينافية, محمدا, فهم يعتدون, في الواقع, على رسول بعث إليهم, لذا فإنهم جهلة, ومرضى, وحاقدون, وعنصريون في نظر الرب, وعيسى, وموسى...إنهم يعتقدون أن محمدا رسول مرسل إلى العرب فقط. لكنه, في الحقيقة, مرسل إلى العرب, وإلى غيرهم. وهو رسول مؤسل إلى الاسكندينافيين أنفسهم, على الرغم من استمرارهم في إنكاره", ويضيف في خطاب ألقاه في تمبكتو , قائلا : "من حقنا, في ظل التباهي باحترام حرية التعبير, أن نرى رسما يصور عيسى معمما بقنابل نووية؛ لأن أتباعه هم من اخترعها...من المتصور أن نرى أيضا, كما صوروا محمدا محيطا بنساء محجبات, بحجة احترام حرية التعبير, وحرية الصحافة, رسما لعيسى, وهو محيط بنساء عاريات؛ نظرا؛ لأن النساء المسيحيات كذلك. تعتبر نساء اسكندينافيا أنفسهن مسيحيات, على الرغم من عريهن". إنها سباحة في بحر من الهذيان. دعا,في شهر فبراير من عام 2010, بوضوح إلى الجهاد ضد الاتحاد "الكافر, والمرتد" ! بسبب غضبه من سويسرا؛ لمنعها بناء منارات للمساجد.
لكن القائد صرح, ليتميز عن الإسلاميين, الذين أقسم بالقضاء عليهم, بأنه ضد تعدد الزوجات, ولم يفرض الحجاب, الذي يراه "واهنا", ويقارنه "بورقة عنب حواء التي هي من عمل الشيطان"[18]. جعل من نفسه, بعد أن فرض نفسه "إماما" (يخطب غالبا في المساجد), محاميا عن إصلاح جريء, زعم فيه أن الكعبة لا تزيد عن كونها مبنى كباقي المباني, وأن المكان وحده هو المقدس, كما شكك في السنة, التي تضم, بحسبه, تخمينات, وتباينات, وأعطى نفسه الحق في تفسير النص القرآني ـ مما أثار سخط عدد كبير من العلماء, وشجع الملك الحسن الثاني على أن يصفه "بالمرتد". ووبخ الأصوليين الإسلاميين, الذين يعتبرهم "خدم الإمبريالية", و"أعداء التقدم, والاشتراكية, والوحدة العربية", واعترض على فكرة الحكومة الدينية, على الرغم من دعمه الثورة الإيرانية على الشاه, المتهم بتحالفه مع إسرائيل. خلص كل من أندريه لاروند, وفرانسوا بورجا[19], إلى القول : "إن كان القذافي تقيا جدا, ليكون ناصريا بكل معنى الكلمة, فإنه في الوقت نفسه ناصري متشدد, لكي لا يعترض ظهور إسلام سياسي".
أما على المستوى القبلي, فقد توصل القذافي إلى التعامل مع القبائل, مستخدما التخويف, والتهديد, والمكافآت والتفاوض[20]. فالقبيلة بحسبه "مظلة اجتماعية طبيعية, تحفظ أمن المجتمع, وتضمن, بحسب تقاليدها, لأعضائها دفعَ  الديات, والغرامات, وكذلك الثأر, والدفاع ـ أي حماية اجتماعية" ! من الواضح جدا, أن القائد لا يبحث عن إلغاء النظام القبلي, وهو موقف يمكن ملاحظته عند كل الدكتاتوريين العرب. يبين التونسي منصف المرزوقي في كتابه (المقابلة), ذي العنوان المناسب بقاء الطغاة[21], أن " أعضاء الحزب الحاكم أنفسهم, لا يشككون أبدا في بعض العلاقات الأساسية... وأن آليات التوجيه العقائدي الرسمي, لا تضع بعض أشكال التضامن العائلي, والاجتماعي موضع الشك". لكن النواة الصلبة التي يتكئ عليها الطاغية الليبي, تتكون من أعضاء من عشيرته هو...أنشأ في عام 1988, القيادة الشعبية الاجتماعية, التي يفترض فيها تمثيل القبائل, والعشائر, والوجهاء, وتقليص دور اللجان الثورية. وألزم كل قيادة شعبية اجتماعية, تفويض منسق, يكون هو المتحدث الرسمي مع السلطة المركزية. يظل التضامن القبلي, في الواقع, حقيقة لا يمكن تجاوزها, على الرغم من أن الاختلاط الحضري, قد صاحبه اختلاط قبلي شوش على التوزيع الجغرافي التقليدي...




[1] Charles Hélou, op. cit., p. 17.
[2] Histoire magazine, n° 24, 1982, p. 37.
[3]  أضيف, من ناحية أخرى, على العلم الليبي, تحت الصقر لفيفة تحمل العبارة التالية "الجمهورية العربية الليبية".
[4]  ربما تكون إسرائيل قد زودت السادات بمعلومات تفيد بتدبير القذافي مؤامرة للإطاحة به (Times, 14, août 1978).
[5] The Washington Post, 23 Juillet 1977.
[6] The New York Times, 24 juillet 1976.
[7]  الحياة, 23 فبراير 2011.
[8] Alain Ferejean, C’était George Pompidou, fayard, 2011, p. 331-332.
[9] Collectif, Histoire de la diplomatie française, Perrin, 2005, p. 911 ; Vincent Nouzille, Les Dossiers de la CIA sur la France, 1958-1981, Hachette, « Pluriel », p. 332.
[10] Note du 23 novembre 1973, archives de la présidence de la République, 5AG26100, Archives nationales.
[11]  المقريف, ليبيا : من الشرعية الدستورية إلى الشرعية الثورية, ص 222 ؛ عبد المنعم الهوني, الوسط , سبتمبر 1995, عدد 189.
[12] P. Seale et M. McConville, The Hilton Assignment, New York, Praeger, 1973.
[13] Arturo Varvelli, L’Italia et l’ascesa di Gheddafi, Baldini Castoldie Dalai, 2009.
[14]  مولد مشتق من جمهورية , وجماهير.
[15]  أضيفت هذه الصفة في عام 1986, بعد الغارة الأمريكية على مدينتي طرابلس, وبنغازي.
[16] H. Bleuchot, et T. Monastiri, « le régime politique libyen et l’islam », Pouvoirs, 12 décembre 1980, p. 131-134 ;H. Mattes, «  La da’wa Libyenne entre le Coran et Le Livre vert », in Otayek (dir), Le Radicalisme islamique au sud du Sahara, Karthala, 1993, p. 38.
[17]  اعتنق, على سبيل المثال, الإسلام ثلاثة آلاف قروي في التوجوو في عام 2008,  بفضل جهود العاملين في الجمعية, وكذلك عشرات المواطنين الموزمبيقيين, والسويزلانديين, والبنينيين, والغينيين, والبوركيين, والمدغشقريين.
[18] Discours du 16 septembre 1988 au parlement tunisien.
[19] Op. cit., p. 67.
[20] Patrick Haimzadeh, Au cœur de la Libye de Kadhafi, J.-C. Lattès, 2011, p. 92.
[21] Moncef Marzouki, Dictateurs en sursis, Entretien avec Vincent Geisser, Editions de l’Atelier, 2009, p. 49-50.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق