خواطر ليست ممنوعة عن البوح (1)
هل تُحقّقُ الثورةُ "المُعجِزة" الدولةَ "المُنتظَرَة"؟
د. عبد المجيد أحمد الصغير بيوك
اتخاذ أفضل قرار سياسي في ظروف عادية أمر معقّد جدا، إذا أخذنا بعين الاعتبار العنصر الزمني وتداخل الذاتي بالموضوعي والخاص بالعام والمحلي بالدولي، أما في الظروف الحرجة كالتي يمر بها المشهد السياسي الليبي والتي هي الأخطر على "الثورة المعجزة" فالأمر أكثر تعقيدا، باعتبار أن قرارات المرحلة لا تمس طبيعة النظام السياسي "المنتظر" فحسب بل تمس مسألة وجود "الدولة" الليبية برمتها.
عند التمعن في بعض التجارب التي نجحت في تغيير الأنظمة الدكتاتورية بقوة السلاح، نجد أنها توافقت على أن عملية الإنتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية لم تكن بالأمر الهين بل كانت أصعب من عملية التغيير المسلح ذاتها، ولعل من أهم عوامل نجاح تلك التجارب توفر مناخ سياسي هادئ، بعد إسكات أصوات الرشاشات والقاذفات والراجمات، مناخ مكّن نخب "مدنية وعسكرية" منفتحة سياسيا من توظيف كل امكاناتها لإقامة دولة مؤسسات قوية (قضائيا وسياسيا وعسكريا وأمنيا)، تسندها طبقة وسطى متميزة، ومجتمع مدني تفاعلي، ونمو اقتصادي متسارع، وبلا صراعات إثنية أو قبلية أوجهوية.
هنا ينبغي الإقرار بأننا مهما كانت نجاحات "الثورة المعجزة" في ساحات القتال فإن الغايات الكبري قد لا تتحقق في غياب المناخ السياسي الناضج الذي ينعكس على سلوكيات النخبة السياسية والعسكرية في المؤسسات المتنفذة وفي المجتمع المدني وبالتالي سيكون من الصعوبة بمكان على الحالة الليبية تأهيل الحياة السياسية نحو ديمقراطية ناجزة.
من أول الحقائق التي ينبغي الالتفات إليها أن طبيعة النظام السياسي "الديمقراطي" تعني بالضرورة تقاسم النفوذ بين الأطراف السياسية (المدنية والعسكرية) وهي مسألة حساسة ومثيرة وليس من المصلحة العامة التسرع في الولوج فيها بدون تدبر وتبصر وهي في الواقع "أم القضايا" التي تمس بشكل مباشر الاستقرار السياسي والإداري والأمني للدولة المنشوذة.
إن الإشكال السياسي الذي يعكسه تخبط خطاب القيادات المتنفذة خلال المرحلة الراهنة يكمن في ضعف الأطر السياسية المدنية، وأيضا في استقواء الكتائب العسكرية، التي أفرزتها الثورة، ما أدى إلى خلل كبير في موازين القوى بين قيادات مدنية تحاول أن تمسك بكل خيوط اللعبة السياسية (قبل أن تتفق على قوانينها) وقيادات شبه عسكرية قادرة على القمع (في تصوري) وربما تهدد به (تلميحا لا تصريحا)، وكلاهما تعيشان ـ رغم الإجماع الشعبي على شخصية المستشار ـ حالة من العجز وعدم القدرة على الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع، رغم إدعاءات الجميع بالحرص الشديد على مصلحة الثورة وبالمعرفة الدقيقة لنبض الشارع والتحدث باسم الشعب و"الثوار".
لا شك إن هناك عجز واضح في إقامة شراكة حقيقية بين شخصيات "لا مهنية" تتعاطى السياسة بعقلية "إما الإحتواء أو الإقصاء"، وقادة مدنيين يقودون كتائب شبه عسكرية "لانظامية". هؤلاء وأولئك وجدوا أنفسهم ـ بدون تأهيل ـ يحكمون وطنا وشعبا منهكين (نفسيا وماديا ومعنويا)، ورغم العديد من الوسائل "التوافقية" التي توفرت لهم من خلال إجماع غير مسبوق لخطاب الوحدة والمصالحة والصفح والعدل والمساواة، لكنهم اختاروا وسيلة التسارع لنزع الصواعق عبر صراع معلن وحصريا على وسائل إعلامية محددة (بدون مناظرة مباشرة واحدة) ، كل ذلك في غياب قواعد واضحة تتطلبها تجربة الديمقراطية "التوافقية"،
إن من الأخطاء الشائعة التي ينبغي تصحيحها أن الديمقراطية تعني الإحتكام إلى صندوق الإقتراع فقط، فالكل ينتظر الانتخابات ـ وحلولها السحرية (!) ـ ولكن الحقيقة أنها قد لا تحقق فرصة للتداول على السلطة و لتعزيز تعدّدية حقيقية بل قد توظف لصناعة نظام لاديمقراطي غير مستقر مما يفرغ "الثورة المعجزة" من مضامينها التحررية. عند الإلتفات نحو تجربة الانتخابات في دول الجوار "الدستورية" على مدى عقود مضت يتبين أنها فشلت في توفير البيئة الصحيحة للمنافسة السياسية النزيهة بل كانت الانتخابات في كلا الجارتين أداة لمواصلة هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السياسية برمّتها في وجود تعددية شكلية لا طعم لها.
الكل يدرك أنه على عاتق المجلس الوطني الإنتقالي اليوم مسؤولية ثقيلة تتمثّل في العبور بالبلاد بسلام نحو مرحلة سياسية جديدة في ظروف دقيقة. ولكننا نتجاهل عن قصد أن المسؤولية تقع علينا جميعا (قادة وثوار ومواطنين) لاستيعاب هذه المرحلة ومتطلباتها والتحلي بقدر كبير من المسؤولية وبعد النظر، حتى نعبر هذه المرحلة بسلام ودون أن نضع البلاد في خطر.
إننا أمام فرصة حقيقية للتقدم بسلام نحو تطور سلس للمشاركة السياسية تأخذ بعين الاعتبار مصلحة البلاد وخصوصيّتها و لكننا أيضا يمكننا أن نضيّع الفرصة إذا لم نتعامل بحزم مع العوائق التي وضعناها نحن أمام المسار الديمقراطي.
لم يعد من الممكن الإستمرار في الإدعاء بأنّ عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية المنتظرة هي مجرد مهمة تكنوقراطية تنفذها وزارة مهنيين سواء كانوا اسلاميين أو علمانيين أو غيرهم. ولن نستطيع مواصلة تسويق هذا الكلام وتجاهل الخلافات في الرأي وفي السياسات وحتى في المرجعيات الفكرية. فمن الضروري أن نعترف جميعا صراحة بالتعدد الموجود أصلا في المجتمع الليبي على المستوى الفكري والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي ينبغي علينا جميعا أن نكيف النظام السياسي بما يكفل الحق لكل الأطراف الدفاع عن مصالحها وآرائها وقناعاتها في أجواء من الاحترام والتعايش والتصارع المقنن في ظلّ الدستور.
إنّه لمن ضيق الإفق محاولة حرمان "ليبيا" من تنوع إمكاناتها الفكرية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، بل من الحمق أن يسعي أي طرف للتأليب على الآخر أو محاربته أو إقصائه.
من الضروري فسح المجال للاختلاف والاحتجاج والتنافس بين الخيارات، لا حبا للخلاف ولا كرها للوفاق، بل لأنّ طبيعة التحول الديمقراطي هو بالضرورة إعتراف بالإختلافات في القدرات وفي المصالح وفي الأدوار وتأطيرها. وما على النظام السياسي المرتقب إلا ضبط آليات الصراع السياسي الذي ينبغي أن يحصر في الفضاءات المخصصة له، في إطار قواعد عادلة ومنصفة وغير مجحفة ومؤطرة بقوانين يمتثل لها الجميع بالتساوي.
إن لم تعي القيادات السياسية والعسكرية ـ فعلا لا قولا ـ أنّه من غير الممكن المجازفة بالثورة فإنّ هذا سيكون مؤشّرا بأن الإنتقال من الثورة إلى الدولة سيكون بطريقة ملتوية، وبالتالي سينتج عن ذلك دولة مدنية باهتة بتعددية شكلية وبعناوين ديمقراطية مفرّغة من محتواها، وأسوأ الإحتمالات أن نسمح بعودة دكتاتورية العسكر ولو بعد حين.
طرابلس، 3 أكتوبر 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق