الجمعة، 16 سبتمبر 2011

ثقافة الديمقراطية وبناء المجتمع الديمقراطي



قد يقال من السابق لأوانه الحديث في هاكذا موضوع ونحن لازلنا نرتب أوضاعنا بعد حكم استبدادي رسخ ثقافة ( 40 ) سنة من الذل والمهانة , وبعد ثورة فجائية لم تكن في الحسبان - تعد في حقيقتها هبة   إلهيه لا يرجع الفضل فيها إلا لله عز وجل, والشهداء , والثوار المحاربون على جبهات القتال - و بعد انتصار مبين من فئة قليلة مسالمة على فئة كئيرة باغية . لكن عصرنا هذا الذي يعد فيه عامل الزمن أثمن الأسباب في تجاوز المحن ,لا يجعل الحديث في هذا الموضوع من سوابق الأوان .


  االغاية التي يتمناها كل من آمن بثورة 17 فبراير إيمانا لا يُضمر مصالح شخصية  , أو خوفا من ماضي مُشين , هو بناء ليبيا الحديثة على قاعدة االديمقراطية القائمة على العدل والمساواة , والتي يتمتع فيها المواطن بدون استثناء بأكبر قدر من الحرية في حدود حرية الآخرين , وأن تكون له حقوق, وعليه واجبات محددة , وقانون يتساوى أمامه الجميع .
  كل ما ذكرته سابقا قد يعد ترفا فكريا , أو بعبارة أخرى " كلام جرايد " ما لم تُحدد خطواته العملية التطبيقية في الواقع , أى بعبارة أخرى, ترجمته لأفعال ,وما لم يكن الحاكم ورعا وفي مستوى المسؤلية .
  هنا وأسمح لنفسي أن أُثير قضية ستفرض نفسها عاجلا أم آجلا, باعتبارها ستستحوذ بالضرورة على مادة من مواد الدستور الذي يشكل القاعدة الرئيسية للمجتمع الديمقراطي المراد بناؤه . هذه القضية بكل وضوح , وبغير لف ودوران تكمن في الإجابة عن السؤال الآتي : ما هو مضمون الدولة التي يرغبها الشعب في إطار ليبيا الحديثة .
  يدور جدل الآن في الصحافة العربية والعالمية حول صياغة - على ما يبدو-  لخارطة طريق لثورات الربيع العربي , وتزدحم في خضم هذا الجدل نماذج من  تيارات سياسية مختلفة , وأجندات ,  ومصطلحات ومفاهيم أبرزها : الدولة المدنية العلمانية , والدولة المدنية الإسلامية , و الإسلام السياسي والدولة   الدينية ... ألخ . ومن باب ثقافة الد يمقراطية وبناء المجتمع الجديد نود أن ندلي بدلونا في هذا الخضم عسى أن يكون في ذالك توضيح للرؤية و إزاحة لغموض ما  .
  أولا :الدولة المدنية العلمانية : العلمانية مصطلح سياسي فلسفي قديم في معانيه حديث في تداوله .تُقدم دائرة المعارف البريطانية تعريفا للعلمانية " بكونها حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضية بدلا من الاهتمام بالشؤون الآخروية , وهيَ تعتبر جزءا من النزعة االإنسانية  التي سادت منذ عصر النهضة الداعية للإعلاء بشأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلا من إشراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الآخرة " . ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ( 1632 -  1704 ) م أحد الداعين إلى فصل الدين عن الدولة , كما أن الكاتب و المفكر الإنجليزي جورج هوليك ( 1817 -  1906 ) م  أول من نحت مصطلح " العلمانية " Secularism عام  1851 م .
  ومن المعروف أن الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة في نهاية القرن الخامس عشر الأوروبي  قد جاءت بسبب هيمنة الكنيسة ورجال الدين المسيحي على الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية  , واضطهاد العلماء والفلاسفة , والوقوف أمام أي أفكار جديدة تخالف في اعتقادهم الكتاب المقدس , علما بأن الأناجيل الأربعة التي تُشكل الكتاب المقدس المسيحي The bible  تخلو من أي تشريعات دُنيوية محددة كما هو الحال بالنسبة للقرآن, وأن ما كانت الكنيسة تطبقه من تشريعات لم تكن سوى اجتهادات رجال الدين المسيحي التي اُستخدمت في حملة شعواء ضد كل حداثة من خلال لجان التفتيش المعروفة ببطشها بعلماء الطبيعة على وجه الخصوص من أصحاب النظريات الفلكية في تفسير الكون من أمثال : كوبر نيكوس البولندي (  1473  - 1543 ) جاليليو الإطالي (  1564  -  1642  )  .   
  على أي حال ,انتقلت فكرة الدولة المدنية العلمانية  إلى المجتمع العربي مع مطلع القرن الماضي , وظهر لها مبشرون من المسلمين والمسيحيين العائدين من دراستهم في أوروبا . واعتمد هؤلائي المصلحون – كما كان يطلق عليهم -  في دعوتهم للدولة المدنية العلمانية القائمة على فصل الدين عن الدولة على المبررات الأوروبية السالفة  الذكر  - ولم يفطنوا - على ما يبدو-  إلى الاختلاف الصارخ في مجال التشريعات بين الكتاب المقدس المسيحي ( أى التوراة في صورتها المحرفة )  والقرآن الكريم , كما اعتمدوا على اعتقادهم في أ ن الإسلام لا تتوفر فيه مقومات الدولة السياسية , هذا بجانب المخاوف من لجان تفتيش إسلامية على غرارتلك المسيحية , ووصلوا إلى نتيجة تزعم أن ارتباط نظام الحكم في الأمة العربية بالدين الإسلامي سبب في تخلفها , ومن ثُم فإن طريق الحضارة يبدء بفصل الدين عن الدولة .
  اصطدم  دُعاة الدولة المدنية العلمانية بمشكلتين : أولاهما تفسير شائع للعلمانية بأنها تساوي الإلحاد , وثانيهما المقارنة غير الموفقة - على ما يبدو- بين دولة الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى الأوروبية , وبين الدولة الإسلامية . كانت صفة الإلحاد التي  نُعتت بها العلمانية مثار جدل في أواخر النصف الثاني من القرن الماضي وخاصة في  الد ولة الشقيقة مصر التي بطبيعة تكوينها الديموغرافي ( السكاني ) تحتوي على مزيج من المسلمين والمسيحيين , وقد تدخلت الفلسفة من خلال زكي نجيب محمود للتخفيف من غلواء هذه التهمة وذلك بالتفريق بين مصطلحى العلمانية ( بفتح العين ) , والعلمانية ( بكسر العين ) , فالأولى جاءت من العالم أى الكون, بمعنى الإيمان بالعالم المادي كحقيقة أولى وأخيرة, مما يفيد الإلحاد , وهو أمر يتنصل منه العلمانيون . أما الثانية فقد جاءت من العلم والعلماء , وهو أمر لا يتناقض مع أي دين , وخاصة الدين الإسلامي الذي تحثُ  معظم آياته على العلم , وتصف العلماء بأنهم أكثر من يخشى الله " إنما يخشى الله من عباده العلماء " . وهكذا ظل العلمانيون انطلاقا من تفسير العلمانية بالعلم , يؤكدون على أن مُرادهم  ينحصر في تحرير الدين من قيود الدولة , وتحرير الدولة من قيود رجال الدين . ومع ذلك ,  ظل شبح الإلحاد يطاردهم , مماجعلهم دائما في حالة استنفار , وقسم دائم بأغلض الأيمان أنهم من المؤمنين  بالله   كغيرهم من المؤمنين . ويبدو أن مشكلة العلمانيين الأساسية تكمن في تعريف الدولة المدنية العلمانية بأنها الدولة التي تنتقل فيها سلطات الحكم والإدارة والتعليم من الموأسسات والمحافل الدينية إلى الهيآت المدنية , وأن الدولة المدنية العلمانية لا ينص دستورها على دين أو مذهب تتبعه حكومتها .
  ثانيا الإسلام السياسي :   
  لا ندري على وجه الدقة متى ظهر مصطلح الإسلام السياسي , لكنه أصبح متداولا في الفترات الأخيرة بشكل واضح  خلال ثورات الربيع العربي ,. وقد نُشرت  عنه مقالات وعُقدت  ندوات ثقافية , ونُشر سيل من الكتب من بينها : " إعادة التفكير في سياسة الإسلاميين " لسلوى إسماعيل , و " الإسلام بوصفه دينا سياسيا , مستقبل ديانة عالمية أو دعوية " لشابير أختر , و " الإسلام السياسي , نصوص و وثائق " ترجمة ونشر فريدريك فولبي . وجميع هذه النشاطات الثقافية تتناول هذه الظاهرة التي فرضت نفسها بقوة على المجتمع العربي والإسلامي والعالمي . وقبل أن نحدد أصولها وأهدافها , علينا أن نقدم تعريفا لمصطلح " الإسلام السياسي " . " "الإسلام السياسي في نظر الدارسين للأوضاع والسياسات في العالم الإسلامي منذ التسعينات من القرن الماضي , هو تلك الحركات والتنظيمات التي تمارس العمل السياسي بشعارات إسلامية , أو أنه تلك الحركات التي تسعى بشتى الوسائل لإقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية  " . ومن ناحية أخرى يمكن القول  إن الإسلام السياسي يسعى لإعادة بناء المجتمع الإسلامى , وجعل صفة الإسلامية مرهونة بالحاكمية أى تطبيق الشريعة والاحتكام إليها .
  الحقيقة أن ظهور مصطلح الإسلام السياسي حديثا قد يوحي بأن الإسلام يخلو من مظاهر الفكر السياسي, مع أنه في اعتقادنا مبني أصلا على الحراك السياسي الذي يسعى لتنظيم المجتمعات في شكل مجتمعات إنسانية متآخية تحت مظلة العدل والمساواة . وقد  ظل الإسلام منذ تشكل المجموعة الأولى المصاحبة لرسول الله ( ص ) تسعى لبناء دولة إسلامية , وذلك ابتداء من الهجرة الأولى و الهجرة الثانية , إلى إبرام العقود والاتفاقيات , مرورا بسقيفة بني ساعدة التي أرست نظام الخلافة , ونشأت عنها بذور فرقة الشيعة , إلى عهد الخلفاء الراشدين الأربعة الذين اُغتبل منهم ثلاث لأهداف – على ما يبدو -  سياسية بحتة , إلى الفتنة الكبرى التي قُتل  فيها الخليفة الثالث عثمان ابن عفان رضي الله عنه , إلى المواجهات الدامية بين الخليفة الرابع علي ابن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان الذي انقلب على نظام الخلافة وأحالها إلى حكم وراثي توالت بعده عصور إسلامية شهدت نهضة علمية وأدبية وحضارة إسلامية أرست أسس الحضارة العا لمية المعاصرة من خلال مؤلفات : الرازي , وابن سينا , والحسن ابن الهيثم , والفرابي , والغزالي , وابن خلدون ...ألخ .
  مما سلف ذكره يتضح لنا أن دعاة الإسلام السياسي ( الدولة الد ينية )   يرون أن قيام دولة مرجعيتها الشريعة الإسلامية ليست جديدة جدة مصطلح الإسلام السياسي , بل هي عودة إلى الأصل , ويرون أن فكرة فصل الدين عن الدولة هي فكرة غربية وُلدت في ظروف مخالفة تماما لما هو موجود في الساحة الإسلامية . ويرون أن هذه الفكرة مقنعة للغربيين من حيث أن الكتاب المقدس المسيحي يخلو من التشريعات الكفيلة بتنظيم مجتمع يزخر بالحرية والنضج الفكري, كما كان الأمر في حالة  الحضارة العربية الإسلامية التي لم يصطدم فيها العلماء في مجال العلوم المادية بشيخ مُكفر , أو فقيه مُنذر , أو لجان تفتيش , كما كان الحال في القرون الوسطى الأوروبية .
  ثالثا الدولة المدنية الإسلامية :
  توجهات هذه الدولة تقوم على أساس أن يُنص في الدستور على أن الإسلام دين الدولة وبدون النص على  اعتبار الشريعة الإسلامية مرجعية للقوانين . والدولة المدنية الإسلامية تكتفي بتطبيق الشريعة الإسلامية في مجال الأحوال الشخصية , تاركة مساحة من الحرية للفرد ( حرية سياحية ) إذا جاز القول في كيفية ممارسة حياته الدينية مع مراعاة مشاعر الآخرين .وقد ينص بعضها على مرجعية الشريعة , لكنه لا يعبأ بالتطبيق الكامل لها ,  وهذا النوع من الأنظمة مُطبق كما سنلاحظ من خلال نماذج من دساتير الدول العربية -  في المملكة الليبية المتحدة سابقا , ومطبق حاليا في كل من الجمهورية العربية المصرية , والمملكة المغربية , والمملكة الاردنية.
  وفي النهاية , علينا تبديد المخاوف من هيمنة جماعة أو حزب على الدولة من خلال الأغلبية الانتخابية , طالما توضع في الدستور مادة فوق دستورية تمنع الأغلبية الانتخابية من إلغاء أو تعديل مواد معينة بدون ا ستفتاء ثلثي الشعب .  وفيما يلي نصوص من  وضع الدين الإسلامي في نماذج من  دساتير الدول العربية :
1)     يُعرف دستور المملكة العربية السعودية باسم " النظام الأساسي للحكم " , وجاء في المادة ( 1 ) " المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة , دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله ولغتها هي اللغة العربية  وعاصمتها مدينة الرياض " . ( آخر نسخة منه 3/ 1/ 1993م   
       2 )  دستور المملكة الليبية المتحدة : الفصل الأول مادة ( 5 ) : " الإسلام دين الدولة " .
       3 )  الإعلان الدستوري لليبيا الحديثة , مادة ( 1 ) : ليبيا دولة ديمقراطية مستقلة ,
الشعب فيها مصدر السلطات ,  عاصمتها طرابلس , ودينها الإسلام , والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع                       
 4 ) الإعلان الدستوري  لمجمهورية مصر العربية , مادة ( 2 )  :  " الإسلام دين الدولة , واللغة العربية لغتها ا لرسمية , ومباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع  .
       5 ) د ستورالمملكة المغربية  , مادة ( 6 ) : " الإسلام دين الدولة وهو مصدر التشريع . والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية  " .    
      هذا وفي الوقت الذي بتمنى فيه المرء أن تكون ليبيا الحديثة نموذجا يُحتدى به في الحرية والعدالة والمساواة , فإننا
      يجب ألا ننسى أن العبرة ليست بكمال النصوص الدستورية للدولة فقط , بل في من يقوم بتطبيقها , فما أحوج ليبيا لحكومة رشيدة تخاف الله  لتستأ صل فسادا نخر جسد ألأمة حتى العظم  .
        د /  يوسف حامد الشين  9-9-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق