الأربعاء، 17 أغسطس 2011

ترجمة خالد محمد جهيمة : دولة مارقة


دولة مارقة

الفصل التاسع من كتاب "تشريح طاغية"

أليكسندر النجارAlexandre Najjar

ترجمة : خالد محمد جهيمة Kaled Jhima



حَوَّل القذافي الجماهيرية, فيما بين عامي 1987, و2001, إلى دولة مارقة, ومخيفة, ومكروهة[1] . بدأ العقيد, التَّواق إلى الحصول على أسلحة نووية, وأسلحة دمار شامل, يَستقبل, اعتبارا من عام 1997, صناديق طرد مركزي أرسلتها له شبكة عبد القادر خان الباكستانية[2] . كما اشترى من ماليزيا, ومن تركيا, ومن كوريا الجنوبية, ومن سويسرا, ما يُمَكنه من تجهيز بنية تحتية نووية, يزعم أنها "مدنية", وبنى, من أجل إنتاج العوامل الكيميائية, مُجَمع الرابطة المعروف باسم "فارما 2000", بمساعدة شركات أجنبية, وبخاصة الألمانية إمهوسنشيمي إيه جي[3], وكذلك مُجمَّع ترهونة. لقد كان الأول هدفا لحريق متعمَّد, اتَّهمت به السلطات الليبية الولاياتِ المتحدةَ, وإسرائيلَ, اللتين قامتا بهذا التخريب, عن طريق "شخص قادم من تونس". وجه برتراند دولانوي, الذي سيصبح عمدة باريس, والذي كان يشعر بالقلق إزاء هذا الوضع, سؤالا مكتوبا إلى مجلس الشيوخ الفرنسي بهذا الشأن[4]  : "يوجه السيد برتراند دولانوي عناية السيد وزير الدفاع إلى الأخبار التي تناقلتها الصحف , والمتعلقة ببناء مصنع كبير تحت الأرض في ليبيا, يرجَّح أن يكون لصناعة مكونات أسلحة كيميائية.  يعتبر هذا المصنع, الواقع في مدينة ترهونة, بحسب السيد جون دوتش مدير وكالة المخابرات الأمريكية, "أكبر مصنع للأسلحة الكيميائية تحت الأرض". سيكون موقع ترهونة هذا, جاهزا في نهاية العقد. ويبدو أن هناك أجهزة مخابرات غربية, كمخابرات ألمانيا الاتحادية, تعرف بهذا المشروع؛ فقد أخبرتنا صحيفة نيويورك تايمز, في عام 1993, بأن شركات تايلاندية كانت تشغل بعض المباني هناك. وهي معلومات كررتها صحيفة اللوموند بتاريخ 28 أكتوبر 1993.


يبدو أن بناء هذا المصنع قد تم بعد حريقِ مصنع الرابطة, وقفلِه في عام 1990. ثم سأل السيد المذكور آنفا الأسئلة التالية : أمن الممكن الآن تقدير قدرة إنتاج الأسلحة الكيميائية في ليبيا؟, وهل أدخلت تعديلات على مخزون هذا البلد من صواريخ أرض ـ أرض, التي يبلغ عددها, بحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية, 120 صاروخا, أي 40 فروج 7, و80 سكود ب. ألا يمثل هذا السلاح الكيميائي, إن تم التأكد من المعلومات المتعلقة بمصنع ترهونة, خطرا على الدول المحيطة بليبيا, وبخاصة تلك القريبة منها جدا, والتي ترتبط بعلاقات تاريخية مع فرنسا؟ لذا فهو يتمنى معرفة آراء الحكومة الفرنسية حول هذا الموضوع"[5] أجاب الوزير الفرنسي المختص, عن هذا السؤال الموثَّق توثيقا جيدا, بقوله : "تحاول ليبيا, بحسب مصادر متطابِقة, منذ عدة سنوات تطوير برنامج كيميائي. أما المجمعان الصناعيان المتورطان في ذلك, فهما مجمع الرابطة, وذلك المقام في ترهونة.  وقد كان مجمع الرابطة الأول الذي اتُّهم, في عام 1990, بإيوائه أنشطةَ تسليح كيميائي. ثم خرب المصنع الكيميائي حريق, لكنه جُدِّد بعد ذلك, وافتتحته الحكومة الليبية رسميا, وبحضور عدد من المراقبين الأجانب, بتاريخ 29 سبتمبر 1995, بعد أن تم توجيهه لغايات مدنية؛ من أجل إنتاج مواد دوائية. قررت الحكومة الليبية, بعد أن تأكد لها استحالة استمرارها في إنتاج مواد كيميائية في الرابطة, في عام 1992, بناء منشأة صناعية جديدة يقع جزء منها تحت الأرض, في مدينة ترهونة, الواقعة على بعد ستين كيلو مترا جنوب طرابلس. يعتقد, حاليا, أن برنامج الحرب الكيميائية الليبي قد تمكن من إنتاج مواد منفِّطة, كما تمت دراسة إنتاج مواد كيميائية أخرى ذات طبيعة عصبية سمية, لكنها لم تتجاوز مرحلة التجارب. لكن القدرة الكيميائية الليبية, لا تمثل, في الوقت الحالي, سوى خطر بسيط مقارنة بذلك الذي تمثله القدرة العراقية. من جهة أخرى, يمكنها أن تصبح مقلقة بالنسبة للدول المحيطة, إن استطاعت ليبيا الحصول على التكنولوجيا التي تفتقدها الآن, من خلال التعاون مع جهات خارجية؛ لذا يجب الحفاظ على إجراءات الحصار, وعدم الانتشار التي يفرضها المجتمع الدولي على ليبيا"

لا يتورع القذافي عن فعل أي شيء, وهو ما تثبته أربعُ قضايا أليمة, كُتبَ عنها الكثير, أعني قضية اختفاء موسى الصدر, وتفجير الملهى الليلي في برلين في عام 1986, وتفجير الطائرة الأمريكية المدنية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية في عام 1988, وتفجير طائر اليو تي إيه 772 الفرنسية التي كانت تقوم برحلة بين برازافيل, وباريس في عام 1989.

اختفى الإمام الشيعي ذو الشخصية الكاريزمية, موسى الصدر (المولود في عام 1928), والذي غرس في الطائفة الشيعية اللبنانية فخرا, وحماسة؛ تحولت بهما من أقلية فقيرة ومهمَّشة إلى قوة لا يمكن تجاوزُها في لبنان, وفي المنطقة, في عام 1978, في ظروف غامضة , في ليبيا, التي كان في زيارة رسمية لها, بعد أن زار عددا من الدول العربية (سوريا, والأردن, والسعودية, والجزائر), على إثر الاجتياح الإسرائيلي الأول لجنوب لبنان في شهر مارس من عام 1978, من أجل إيقاف هذا الاجتياح, والدعوةِ لانعقاد قمة عربية. لقد وصل إلى ليبيا بتاريخ 25 أغسطس 1978, إجابة لدعوة رسمية وجهت إليه منها, وكان في صحبته مساعداه القريبان منه, الشيخ محمد يعقوب, والصحفي عباس بدر الدين, ثم احتفي, هو ورفيقاه, يوم 31 من الشهر نفسه, وهو اليوم الذي قابل فيه القذافي, الذي استقبله بالفعل, على الرغم من تصريحه اليوم بأنه لم يعد يتذكر ذلك . زعمت السلطات الليبية, بتاريخ 17 سبتمبر, أن الإمام قد غادر ليبيا إلى إيطاليا, منذ 31 أغسطس, لكن الحكومة الإيطالية ردت, في عام 1979, على ذلك, بأنه لم يدخل قط أراضيها. أما جواز السفر الذي وجد في  فندق هوليداي إن في روما, فإن الشخص الذي يفترض أنه نسيه هناك, ليس له سحنة الإمام....كل ذلك يحمل على الاعتقاد أن الأمر يتعلق بمكيدة ليبية جديدة؛ لتضليل التحقيق. وهناك مجموعة من الفرضيات التي تفسر هذا الاختفاء, والتي من بينها: طلب بعض القادة الفلسطينيين, أو السوريين من القذافي تخليصَهم من الإمام, بسبب كره الطائفة الشيعية تصرفات الفدائيين في لبنان. كما يذهب بعضها إلى أن الصدر قد أعدم  خطأ (أمرٌ فُسر بطريقة خاطئة). , أو بسبب خلاف مع القادة الليبيين. لكن لم يقدم حتى الآن أي دليل يدعم هذه الأطروحة. عادت القضية للأضواء من جديد, غداة بداية الثورة الليبية؛ فقد صرح عبد المنعم الهوني, ممثل ليبيا في جامعة الدول العربية المستقيل, في مقابلة مع صحيفة الحياة جرت في عام 2011, بأن الإمام موسى الصدر قد قتله القائد بالفعل, وأكد هذا العضو السابق في مجلس قيادة الثورة الليبية أنه : "قد طلب من الكابتن نجم الدين اليازجي, الذي كان مكلفا آنذاك بقيادة طائرة القذافي, نقلُ جثة الإمام الصدر لدفنه إلى منطقة سبها؛ لدفنه فيها, ثم قامت المخابرات الليبية, بعد ذلك بوقت قصير, بتصفية اليازجي؛ لكي لا يتم إفشاء سر مقتل الصدر"[6]

ابتعد لبنان, منذ اختفاء الإمام, عن طاغية طرابلس, وبخاصة بعد الهجوم على السفارة الليبية في بيروت, في فبراير 1984, بسبب ضغط الطائفة الشيعية. أما القذافي, فلم يعترف قط بخطف الصدر, كما أنكر أنه التقاه يوم اختفائه, وأكد أنه قد استقل الطائرة فجأة إلى روما, غاضبا من عدم استقباله إياه فور وصوله. بل إنه اتهم أبا نضال بقتل رجل الدين الشيعي. واتهام الديكتاتور الرجل الذي كان يعمل لحسابه سابقا لم يأت محض صدفة؛ فهذا الأخير, الذي قتل في بغداد, قد أخذ سره معه إلى قبره. لقد أصدر القضاء اللبناني, الذي رفعت إليه القضية, مذكرة قبض دولية على القذافي وشركائه, بتاريخ 24 أبريل 2008.

تعرض مرقص لا بيل الواقع في الجانب الغربي من مدينة برلين, بتاريخ 5 أبريل 1986, لتفجير بقنبلة قتل فيه 3 أشخاص, أحدهم جندي أمريكي, وجرح فيه أكثر من 200 آخرين. فأمر الرئيس رونالد ريجن, بتاريخ 15 ابريل 1986, بعد أن تم التصنت على مكالمة من السفارة الليبية, في برلين الشرقية, تشير إلى تورط الحكومة الليبية في تفجير المرقص المذكور, بشن هجوم جوي على طرابلس, وبنغازي, اشتركت فيه ثماني عشرة طائرة مقاتلة من نوع إف 111 إف من الجناح الثامن والأربعين للمقاتلات التكتيكية, المستقرة في إنجلترا, بالتوازي مع انطلاق 15 مقاتلة من نوع إيه ـ 6, وإيه ـ 7, وإف /إيه ـ 18, وطائرة حرب إلكترونية  من نوع إي إيه ـ 6 بي برولير, من على ظهر حاملات الطائرات يو إس إس سراتوجا, يو إٍس إس أمريكا, ويو إس إس كورال سيا الموجودة في خليج سرت, وقامت بضرب أربعة أهداف في ساعتين. استمر الهجوم حوالي دقيقتين, حيث قامت الطائرات بإسقاط 60 طنا من القنابل على طرابلس, طالت مطارا, ومعسكر تدريب في الأكاديمية البحرية, وثكنةَ باب العجيزية, التي يقيم فيها القذافي. أما طائرات إيه ـ 6 , و إف / إيه ـ 18, فقد قصفت مواقع رادارات, ودفاعات جوية تابعة للجيش الليبي في بنغازي, كما قامت بضرب معسكرات بنينة. وأسقط صاروخ أرض جو ليبي طائرة إف ـ 111, شاركت في قصف باب العجيزية, فوقخليج سرت.

تسببت هذه العملية, التي أطلق عليها اسم "إلدورادو كانيون" في مقتل 45 عسكريا, وموظفا, و15 مدنيا, كانت من بينهم حنان ابنة القذافي بالتبني. لكن القائد, الذي يحتمل أن رئيس الحكومة الإيطالية, بيتينو جراكسي قد أخبره بالهجوم, لم يصب بأي أذى. لعل من أبرز أسباب فشل هذه العملية رفضَ فرنسا السماحَ للولايات المتحدة بعبور أجوائها؛ فقد استدعى فرانسوا ميتران, في شهر أبريل من تلك السنة, وزيرَ خارجيته السابق, رولان دوما, وأخبره بطلب الولايات المتحدة تمكينَها من عبور الأجواء الفرنسية؛ لقصف ليبيا. لكن هذا الأخير أقنعه برفض الطلب, مما اضطر القوات الجوية الأمريكية, بعد أن أبدت إسبانيا ترددها أيضا, إلى التزود بالوقود في سماء جبل طارق, وإلى التأخر, بالتالي, في الهجوم  على كل من مدينتي طرابلس, وبنغازي؛ إذ قد أضيفت إلى العملية, كما يؤكد رولان دوما ساخرا, مابين اثنتي  عشرة, وأربع عشر ساعة, مما سمح للقذافي بالاختباء"[7] يضيف دوما أن "القذافي قد أخبره, في أثناء زيارة خاصة له إلى طرابلس, بعد ذلك بستة أشهر, أنه كان يعلم بأنني قد أقنعت ميتران برفض الطلب الأمريكي بعبور الأجواء الفرنسية, وأنه شكرني على ذلك قائلا : "لقد أنقذت حياتي" "[8]

استنتجت محكمة النقض ببرلين, في عام 2001, في نهاية محاكمة استمرت أربع سنوات, أن ليبيا تتحمل "على الأقل مسؤولية مشتركة كبيرة" في الهجوم على الملهى . أما الألمانية فيرينا شانا, المتهمة بإدخال القنبلة إلى الملهى, الذي كان يرتاده, في الأساس, جنود أمريكيون, والفلسطيني ياسر شرايدي, الذي اعتُبر "المخطِّط" للمؤامرة, فقد حكم عليهما بأربعة عشر عاما سجنا. كما حكم على الليبي مصباح التير, والفلسطيني على شانا بالسجن مدة اثنتي عشرة سنة. وبرئت ساحة أندريا هوسلير, أخت فيرينا, التي كانت موجودة في المكان؛ لعدم وجود دليل. لقد رفض المستشار الدبلوماسي للمستشار الألماني, الذي يقال إن العقيد القذافي قد صرح له بمسؤوليته عن التفجير, بحسب وثيقة سرية سُربت إلى الصحافة, لكن برلين كذبتها, الحضورَ للشهادة.

فُجِّرت, بعد سنتين من ذلك, طائرة من نوع بوينج 747ـ 100  تابعةٌ لشركة الخطوط بان الأمريكية, كانت تقوم برحلة بين لندن, ونيويورك, فوق قرية لوكربي الاسكتلندية, مما تسبب في موت 270 شخصا. أقلعت هذه الطائرة من مطار هيثرو اللندني, عند الساعة 18:20 , بتاريخ 21 ديسمبر 1988, ووصلت, عند الساعة 19:02, إلى أجواء قرية لوكربي, التي سقط علي بعض منازلها, جزء منها , يضم جناحا, ومحركين, فقتل 11 من سكانها, وكذلك ركاب الطائرة, وطاقمها. الذين ضاقت على جثامينهم المائتين والتسعة والخمسين حجرةُ الموتى؛ فاضطرت الشرطة إلى الاستعانة بصالة القرية الرياضية. اتهمت بذلك التفجير, في البداية, منظمةٌ فلسطينية صغيرة, هي حركة فتح القيادة العامة, المستقرةُ في دمشق, والتي تعمل لحساب سوريا, وإيران, التي توعدت, على لسان آية الله الخميني, الولايات المتحدة "بمطر من الدماء" ردا على تدمير السفينة الحربية الأمريكية يو إس إس فينسين, طائرةَ إيرباص تابعة للخطوط الجوية الإيرانية, كانت تحمل على ظهرها 290 راكبا, قبل خمسة أشهر من تفجير لوكربي[9].  لكن ليبيا وجدت نفسها, شيئا فشيئا, متهمة بارتكاب هذا التفجير, ومطلوبا منها تسليم اثنين من مواطنيها, صدرت بحقهما مذكرة توقيف دولية في عام 1991؛ لاتهامهما بإرسالهما حقيبة تضم قنبلة من مالطا إلى فرانكفورت, ثم إلى لندن (هيثرو), حيث وضعت بعد ذلك على ظهر طائرة البان الأمريكية. وطلب مجلس الأمن, في عام 1992, من ليبيا تسليمَ المتهمين الاثنين إلى الولايات المتحدة, أو إلى بريطانيا العظمى, والتعاونَ مع فرنسا في التحقيق حول حادثة تفجير الـ يو تي إيه. ثُم تبنىَّ, بعد رفض ليبيا تلبية تلك الطلبات, قرار رقم 748 القاضي بفرض حضر جوي على ليبيا, وبمنع بيع السلاح إليها. كما أضيفت إلى تلك العقوبات, عقوبات أخرى نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 883 الصادر في عام 1993. من تلك العقوبات, عدمُ السماح للطائرات الليبية الموجودة في المطارات الأجنبية, قبل فرض الحضر, من مغادرتها, ومنعُ تصدير المواد المتعلقة بصناعة البترول, والغاز إليها, وكذلك إقفالُ مكاتب الخطوط الجوية الليبية, وإيقافُ تقديم أي مساعدات لقطاع الطيران الليبي. هذا يعني أن المجلس قد فرض على النظام عقوبات تبنتها الولايات المتحدة ضد أي جهة تتعاون مع إيران, وليبيا.

ألغى مهرجان أفلام لندن, في عام 1994, عرض فيلم  الصليب المالطي المزدوج لـ ألان فرانكوفيتش, الذي يدعم الرأي القائل ببراءة ليبيا, ويتهم إيران. لقد تسبب هذا الفيلم الوثائقي في موجة من الغضب, وجعل البعض يلومونه على الحصول على تمويل لفيلمه من مجموعة مرتبطة بهيئة الاستثمارات الأجنبية الليبية[10]

توصلت ليبيا, بدعم من نيلسون مانديلا, الذي كان رئيسا لجنوب أفريقيا آنذاك, إلى اتفاق مع المجتمع الدولي, يتعلق بالليبيين الاثنين؛ فقد رضخ القذافي, بعد أحد عشر عاما من الحادثة, وأرسل المتهمين (عبد الباسط علي محمد المقرحي, رجل المخابرات السابق, ومدير الأمن في شركة الخطوط العربية الليبية, ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية, في طرابلس ـ والأمين خليفة فحيمة) إلى هولندا, في كامب زييست, وهي قاعدة أمريكية هولندية سابقة, ليحاكما أمام ثلاثة قضاة اسكتلنديين مكلفين بالقضية, حيث حُكم على الأول بالسجن مدى الحياة, مع عدم إمكانية خروجه من السجن قبل أن يُتم 27 عاما سجنا, وبرئت ساحة الثاني. اعترفت ليبيا , في شهر أغسطس من عام 2003, رسميا بمسؤوليتها عن تفجير لوكربي, ودفعت 10 ملايين دولار تعويضا لكل عائلة من عائلات الضحايا, أي ما مجموعه 2,7 مليار دولار. لكن ظهر فجأة, مسؤولٌ كبير سابق في الشرطة الاسكتلندية, وأكد أن السي أي إيه هي من "كتب سيناريو" اتهام ليبيا, وزعم أن الدليل الحاسم , أعني شظية من الدائرة المتكاملة للصاعق, قد "صنعه"  و"وضعه" أشخاص تابعون لسي آي إيه, كانوا يحققون في المأساة. ثم خرج, بعد سنتين, عنصر آخر, يدعم نظرية المؤامرة؛ فقد اعترف مهندس إلكترونات سويسري, اسمه إلريش لومبير, في سنة 2007, بأنه هو من زود الشرطة الاسكتلندية بشظية "المؤقِّت", الذي قيل إن القضاء الاسكتلندي, وجدها في موقع تحطم الطائرة. كما قام لومبير, الذي كان يعمل في الشركة المصنعة لهذا المُركَّب, بمعاينة هذا الدليل بناء على طلب المحكمة, وهو نفسه الشاهد رقم 550 في القضية. لقد انتظر مرور فترة التقادم؛ ليقلل من المخاطر المترتبة على شهادة الزور. عُلم , في شهر أكتوبر 2007, أن التاجر توني جوشي, الشاهد الأساسي في القضية, قد يكون استلم مبلغ مليوني دولار, بناء على طلب محقِّقين مكلفين بالتحري عن القضية, مقابل إدلائه بشهادة الزور التي مكنت من الحكم بالسجن المؤبد على المقرحي[11]. ومنحت, بتاريخ 28 يونيو 2007, لجنة الطعون الاسكتلندية, التي تحصلت على معطيات تمكنها من إثبات وقوع "خطإ قضائي", الليبي إمكانية الاستئناف ثانية. لكن هذا الأخير تنازل , بتاريخ 14 أغسطس 2009, عن ذلك الحق, ثم أطلق سراحه, بسبب إصابته بسرطان البروستاتة, بعد ذلك بأسبوع, ورجع ,صحبة سيف الإسلام القذافي, الذي فاوض من اجل إطلاق سراحه, إلى ليبيا, واستُقبل استقبال الأبطال.

أكد, وزير العدل الليبي السابق, مصطفى عبد الجليل, الذي استقال من منصبه, بتاريخ 21 فبراير 2011, ليومية السويدية إكسبرسن , بتاريخ 23 فبراير 2011, أن القذافي هو الراعي للهجوم, وأنه هو الذي "أعطى تعليماته بذلك شخصيا لعبد الباسط علي المقرحي".

انفجرت طائرة من نوع دي سي ـ 10 التابعة لشركة يو تي إيه الفرنسية, والتي كانت تقوم برحلة بين باريسو وبرازافيل, عبر نجامينا, فوق صحراء تينيري, في النيجر, بتاريخ 19 سبتمبر 1989, وقتل على متنها 170 مسافرا, وكذلك طاقم الطائرة. وفتَحت نيابة باريس, مباشرة, تحقيقا, بإشراف القاضي جان لويس بروجيير, مكن من تحديد هوية ستة مواطنين ليبيين, موظفين كبارا في المخابرات, وفي الدبلوماسية الليبية, أحدهم عبد الله السنوسي صهر القذافي, ونائب رئيس المخابرات الليبية, وشريكُ أبي نضال. يقال إن هذا الأخير هو من قدم القنبلة المسؤولة عن التفجير, و أعطى التعليمات, وأشرف على العملية[12]. لقد حكمت محكمة الجنايات الخاصة, في باريس, في عام 1999, غيابيا, على المتهمين الستة بالسجن المؤبد, كما تم إصدار مذكرة توقيف دولية بحقهم. ثم بدأت, في عام 2002, مفاوضات بين جييوم دونوا دي سان مارك, الذي فقد أباه, وزوجَه في التفجير, وبين سيف القذافي, الذي التقاه في باريس, والمؤسسة التي يديرها, ثم قام بإنشاء جمعية عائلات دي سي ـ 10 الغاضبة, التي ضمت أكثر من 1500 شخص. وقد خاضت هذه الجمعية, خلال عامين, مفاوضات صعبة مع الطرف الليبي, في باريس, وفي طرابلس. كما تم رفع قضية في الولايات المتحدة, بتاريخ 16 أكتوبر 2002, بناء على ملف التحقيق الفرنسي, الذي قدمته جمعية نجدة المعتدى عليهم إلى المحامين الأمريكيين. قبلت ليبيا, بتاريخ 14 مايو 2003, "دون أي اعتراف بمسؤوليتها عن الاعتداء, دفعَ المبلغ الذي كان يطالب به أقارب الضحايا, إلى أولئك المولودين منهم قبل 19 سبتمبر 1989 (تاريخ الاعتداء)". خفف القذافي من غلوه, في خطاب ألقاه, في الأول من شهر سبتمبر من عام 2003, بمناسبة العيد الرابع والثلاثين للثورة البيضاء, وصرح بأن : " المشاكل المتعلقة باليو تي إيه, وبلوكربي, قد صارت وراءنا, وسنفتح صفحة جديدة في علاقاتنا مع الغرب". ثم توصلت, جمعية عائلات ضحايا دي سي ـ 10 الغاضبة ! مع ليبيا, بتاريخ 10 سبتمبر,  إلى اتفاق مؤقت, سمح برفع عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على ليبيا, بعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ, ووقعت, بتاريخ 9 يناير 2004, اتفاقا مع ممثلي مؤسسة القذافي, يقضي بتعويض كل عائلة من عائلات الضحايا المائة والسبعين, بمبلغ مليون دولار. لكن قاضيا اتحاديا أمريكيا, حكم, بتاريخ 15 يناير 2008, على الحكومة الليبية, وستة من كبار مسؤوليها, بدفع مبلغ 6 مليارات دولار تعويضا للضحايا. بدا القاضي بروجيير متفائلا, عندما سئل على موجات إذاعة أوروبا 1 عن إمكانية اعتقال المسؤولين عن الاعتداء, في هذا الوقت الذي  تهز فيه الثورة أركان النظام الليبي. يقول "أعتقد أن ذلك ممكن؛ لأنه لم تعد توجد هناك حماية لهم اليوم. من ذا الذي يمكنه حمايتهم ؟ لقد كان القذافي هو من يحميهم, وكذلك القبيلة, وربما عدد من الدول الأخرى التي كانت ترى أنه ليس من الملائم سياسيا تنفيذ مذكرات التوقيف هذه. لكن نظام القذافي منبوذ اليوم دوليا, وقد يحاكم بتهمة ارتكابه جرائم  حرب ضد الإنسانية أمام قضاء دولي...", ويضيف : " سوف تحل عُقد الألسنة. لقد اعترف لي عدد من الأشخاص, عندما كنت في ليبيا, بطريقة غير رسمية, بأن ليبيا كانت وراء الاعتداء على طائرة الدي سي ـ 10, التابعة لشركة يو تي إيه...".

لقد أثبتت التحقيقات المتعلقة باعتداءات ملهى برلين, ولوكربي, واليو تي إيه, وذلك المتعلق باختطاف موسى الصدر, أن القذافي هو من كان وراء هذه الأعمال جميعها؛ فقد أراد معاقبة الولايات المتحدة, وفرنسا بسبب موقفهما في تشاد, والإمام الشيعي بسبب مواقفه من الفلسطينيين. من الواضح أن جرائم كهذه لا يمكن أن تغتفر. يقول شكسبير, في ريتشارد الثالث, : "لا يمكن استعادة ما ضاع". ولكن...



[1] Noam Chomsky, « L’Amérique, Etat voyou », Le Monde diplomatique, août 2000; St. John Roland Pruce, « Terrorism and Libya Foreign Policy, 1981-1986 »; World Today, n° 42, 1986; Helmy Ibrahim, « La Libye ou l’institution politique du terrorisme », Revue Esprit, n° 94-95, mai-juin 1993.
[2] Jean Cuisnel, Armes de corruption massive, La découverte, 2011, p. 314.
[3] Luis Martinez, The Libyan Paradox, Londres, C. Hurs & CO, 2007, p. 167, note 29.
[4] Question écrite n° 15621, JO Sénat, 16 mai 1996, p. 1165.
[5] Jo Sénat, 11 juillet 1996, p. 1745.
[6]  الحياة, 23 فبراير 2011.
[7]  زاد هذا الالتفاف مسافة الطيران, بحسب مجلة القوات الجوية الأسترالية (يونيو 1986), 1500 ميل بحري.
[8] Le Figaro Magazine, 26 février 2011, p. 34.
[9] LeFigaro.fr, 14 septembre 2007 ; Hugh miles, « Lockerbie : was it Iran ? All I Know is, it wasn’t the man in prison” the Independent, 21 décembre 2008.
[10] Edward Fickolus et Sausan Simmons, Terrorism, 1992-1995, Greenwood Publishing Group, Westport, 1997, p. 70. Sausan et Daniel Cohen, pan Am 103 : The Bombing, the betrayals, and a Bereaved Family’s, Search for Justice, New American Library, 2000, p. 229; Guardien, &’ mars 1995.
[11] Severin Carrell, “ Fresh doubts on Lockerbie conviction”, Guardian, 3 octobre 2007; Lucy Adams, “Revealed : CIA offered ¨$2m to Lockerbie witness and brother”, herald Scotland, 3 octobre 2007.
[12]  يدعم بيير بيان, من جهته, الرأي القائل بأن إيران, وسوريا, هما الراعيتان الفعليتان للتفجير, كما يتهم حركة فتح المجلس الثوري بقيادة أحمد جبريل "Manipulations africaines. Qui sont les vrais coupables de l’attentat du vol UTA 772 ?, Plon,2001.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق