قبو القذافي المحصن
الحياة مُستمِرَّة في الظاهر، وترقب وانتظار في الخفاء!
2011.07.02
مجلة الإيكونمست
ترجمة / فضيل المنفي
بعد ساعات مِن إصدار محكمة الجنائيات الدولية في لاهاي مُذكرة اعتقال بحق القذافي، قام مجموعة من الشباب الثُّوَّار في طرابلس تُسَمِّي نفسها: "حركة الجيل الحر" بِنَزْع وتخريب لافتة تحْمِل صورة القذافي مُرتديًا زيًّا رسميًّا! واحْتَفَل سُكَّان منطقة سوق الجمعة - أحَد أفقر الأحياء في ضواحي طرابلس، والتي يكثُر فيها انتِشارالقمامة - بِخَبَر إصدار مذكرة الاعتقال بطريقةٍ هادئة؛ فقد هَمَس لي أحد سُكَّان المنطقة - وهو بائع أسطوانات ألعاب إلكترونية - قائلاً: "لقد شاهدتُ الخبر على التلفاز، لقد انتهى، انتهت اللعبة يا قذافي"!
رُبَّمَا يكون كلامُه صحيحًا، ولكن كتائب القذافي الأمْنِيَّة لا تزال تتَّخذُ إجراءاتٍ صارمةً ضد الضواحي التي يوجَد بها تمرُّدٌ.
فنقاط التفتيش المسلَّحة تعمل كلَّ ليلةٍ على التأكُّد مِن أن كلِّ المناطق تحت السيطرة، ويقوم رجال من الكتائب الأمنية بزي مدني بالانْتِقال مِنْ بيتٍ إلى آخر للقبض على الثُّوَّار المشتبه بهم، أو حتى المتعاطفين معهم! فقد أخْبَرَني أحدُ الشباب الذي كان مُعتَقلاً لمدة ثلاثة أيام "أن بعض الثُّوَّار الذين تَمَّ القبض عليهم لن يرجعوا أبدًا"!
لقد أصبح الخوفُ يجتاح العاصمة، وحينما تسأل الناسَ عن السياسة - يَتَعَمَّدون الهُروب إلى متاجر المدينة المهترئة، وإلى الأزقة البائدة؛ خوفًا مِن أن تراهم أعينُ المخبرين! فقد أخبرني أحدُ المواطنين - الذي كان يحدِّثني وفي نفس الوقت كان مشغلاً موسيقا صاخبة؛ ليتجنب أن يسمعه أحد ما - أن الخوف أوصلنا للظن بأنَّ "الجُدران لديها آذان"! واستَكْمَل حديثَه قائلاً: "إنني أتعمد رفْع صوت الموسيقا في الليل؛ لأتجنَّب سماع أصوات الأعيرة النارية الصادرة من الكتائب؛ فهم يُطلقون النار لساعات مُتواصلةٍ، لدرجة أننا لا نستطيع النَّوم"!
لَم تعد صوَرُ القذافي والعلَم الأخضر اللذان يُمَثِّلان حُكْمَه منتشرةً في العاصمة كما كانتْ سابقًا، فبعضُ المُواطِنين الشجعان التواقين للحديث عن الأزمة الراهنة يستوقفون الأجانب، ويسألونهم إذا كانوا صحافيين ليتحدثوا معهم، وأما أصحابُ المتاجر فيصرون على تقديم الهدايا للأجانب، ويرفضون دفْعَ ثمن البضاعة قائلين: "شكرًا أمريكا"، و"أوباما شخص رائع"!
حينما ألهمتهم ثورات الوطن العربي وثوار المنطقة الشرقية ـ بنغازي ـ على وجه الخصوص منذ أربعة أشهر مضتْ - انْتَفَضَ آلاف من سكان طرابلس؛ فكان دافعُهم الأساسي هو القضاء على الفقر المدقع الذي عانى منه الليبيون وما يزالون، على عكس الطبَقة التي تعيش في الأحياء الراقية في وسط طرابلس؛ حيث ناطحات السحاب التي يسكنها النخبة المُسَيْطِرة على النفط والمقَرَّبة من القذافي.
ولقد حدَّثَني أحدُ أصحاب المتاجر قائلاً: "الثورةُ ليستْ مِن أجل المال، بل ما نطمح إليه هو الحرية والديمقراطية، ونحن على ثقةٍ بأنَّ الثوارَ قادمون لإنقاذِنا، ولكنهم سيأخذون بعض الوقت"! فصاحبُ المتجر وجيرانُه متأكِّدون مِن أنَّ القَذَّافي قد انتهى!
يقوم ثوارُ مدينة طرابلس بتحرُّكات خفيَّة؛ فالبعضُ يُهاجم نقاط التفتيش، والبعض الآخر يقوم بإعمال استفزازية؛ كطلاء القطط والكلاب بألوان علم الاستقلال؛ (أحمر - أسود - أخضر) لإرباك الكتائب الأمنية، والتي تقوم بِدَوْرها بإطلاق أعيرةٍ نارية على تلك الحيوانات.
ولكن في المقابل إغلاق شبكة الإنترنت، وخدمات الرسائل النصية - عرْقَلت الثوار عن القيام بأعمالهم، وبالرغم من ذلك فهناك حركات مثل: "حركة الجيل الحر" والتي تُعَدُّ أرضيَّة للتحوُّل ما بعد القذافي وأحد قادة هذه الحركة، قال: "أنا على عِلْم بعشرات المجموعات المعارضة لنِظام القذافي، ولدينا العديد منَ الحُلَفاء حتى من الحكومة نفسها"!
أمَّا المناوِئُون للقذافي فقد تَرَكوا طرابلس، ورحلوا إلى جبل نفوسة، الذي يبعُد 100 كيلو مترًا جنوب غرب العاصمة؛ حيث يُحكِم الثوارُ السيطرة على مدن مثل يفرن القريبة جدًّا من طرابلس، وبما أن ثوَّار مصراتة يُسيطرون هم أيضًا على ميناء مَدينتهم فإنَّ كتائب القذافي ما تزال تضرب المدينةَ بالمدفعيَّة، وهذا يجعل تقدُّم الثوار بطيئًا نوعًا ما، ومدينة زليتن هي الأخرى ما زالت تتعرَّض للهجمات، ومدينة البريقة النفطية ما تزال في أيدي كتائب القذافي، لذا فهي أيضًا تتعرَّض للضغط.
ومن جهة أخرى قال بعضٌ من شباب طرابلس: إنهم سيحصلون على السلاح والتدريب العسكري في الجبال، ومن ثَمَّ سوف يعودون للعاصمة، وقد قال أحدهم: "سوف يحين وقت القتال في العاصمة".
فثُوَّار جبل نفوسة قطعوا أنابيب النفط التي تمد آخر مصفاة تعمل تحت إمرة القذافي في الزاوية، وهدفُهم التالي هو مدينة غريان، التي تقع شرقًا، والتي سوف تجعلهم يقطعون طريق إمدادٍ مهم يصل إلى القذافي من الجزائر، ومن الجهة الأخرى يقوم الثوارُ بالضغط على الحكومة التونسية لكي تقفل الحدود، وبهذا يقطَع الثوار إمدادًا آخر للقذافي!
وفي الوقت نفسه تصل إلى طرابلس مئات الشاحنات مِن تونس كل يوم، فضلاً عن السيارات الخاصة المحمَّلة بالضائع الناقصة من السوق، وقد تعدَّى سعرُ البنزين في السوق السوداء المعدلَ الرسمي في محطات البترول بثلاثين مرة، حيث يقف السائقون في طوابير الانتظار التي تمتد لكيلو مترات كبيرة، مما يضطرهم للانتظار لمدة أسبوع.
وأمَّا الدرجات الهوائية التي كانتْ نادرًا ما ترى، فقد عادتْ لتكون المواصلة الشائعة في المدينة، على الرغم من ارتفاع أسعارها عن السابق، فالتجار يحاولون استجلاب المزيد منها من تونس!
أما بالنسبة للوضع في طرابلس فما زالت محاصرة حتى الآن، وحكومة القذافي ما زالتْ مُصرَّةً على فرض سيطرتها، وعلى الرغم من مُواصلة حلف الشمال الأطلسي لهجماته على باب العزيزية (حصن القذافي) محطمًا مَبانيه وسراديبه، فإنَّ مؤسسات الدولة ما زالت مستمرة في عملها، وزوار باب العزيزية يتم تفتيشهم بدقة؛ حيث إنه يتم تفتيش حقائبهم بالأشعة السينية، بالإضافة إلى أن عملية زج وسقي الأعشاب والنباتات تتم يوميًّا داخل باب العزيزية.
أما بالنسبة لما يخصُّ القذافي شخصيًّا فالبعض يعتقد أنه يستخدم عدة أماكن للاختباء؛ حيث يقال: إنه ينام في المدارس والمستشفيات؛ لعِلْمه بأنَّ حلف الشمال الأطلسي لن يستهدفَ هذه الأماكن، أو ربما يقضي لياليه في سراديب محصَّنة وعميقة تحت باب العزيزية!!
ففي يوم 27 من يونيو/حزيران استهدف حلف الشمال الأطلسي حافلةً يُقال: إن القذافي قد استَخْدمَها مؤخرًا، وتم عرض هيكلها المفحم بالإضافة إلى شجرة نخيل محروقة بجانب فيلا القذافي البيضاء على الصحافة الأجنبية.
والإعلام الرسمي التابع للقذافي يُحاول إجبار الناس على رفْضِ هجمات حلف الشمال الأطلسي والدِّفاع عن القذافي، والسلطات الرسمية تقول: إنها سلَّمَتْ أسلحة (1.2 ملي) للناس؛ لكي يتَمَكَّنوا من الدفاع عن أنفسهم، وتَمَّ دعوة المراسِلين الأجانب ليُشاهدوا تجمُّع 500 امرأة وطفل من الطبقة المتوسطة يلَوِّحون بالأسلحة التي حصلوا عليها مؤخرًا، وبعد أن عرَض التلفزيون الرسميُّ الخطابات العاطفية، ذهب تلك النسوة - وكان بعضهن يرْتَدي قُبَّعات تحْمِل العلامة المسَجَّلة التابعة لجورجي أرماني ومنتعلات كعوب عالية حاملات أسلحة (AK-47s ) إلى موقف السيارات، وبدأنَ بإطلاق الأعيرة النارية في الهواء، ومن ثَمَّ الْتَحَق بهن رجال الأمن، ووسَط هذا التجمُّع قالتْ فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا تُدعى فاطمة حسن: "أريد أن أحمي قائدي".
فمثل هذه السيناريوهات قد يكون لها تأثيرٌ فعالٌ على أقليات مُعَيَّنة من المجتمع، والطبقة الفقيرة عامة لا يظهر أنَّها تُحِبُّ القذافي، ولكن الوضع مُتَذَبذب بالنسبة للطبقة المتوسِّطة.
وفي منطقة أبو سليم التجارية، والتي يوجد بها سجن أبو سليم، الذي قُتل فيه نحو 1260 سجينًا سياسيًّا في ليلة واحدة عام 1996، يوجد العديدُ من الناس المستفيدين من حكم القذَّافي، حيثُ قال أحَد تجار المنطقة - والبالغ من العمر 26 عامًا -: "أنا أملك منْزلاً مُريحًا، وسيارتين، يُمكنني تركهما في الشارع وأنا شاعر بالأمان، فماذا أريد أكثر من ذلك؟!
أمَّا المتاجِر الخاصَّة في منطقة أبو سليم فإنها تقوم بِبَيْع الأَوْسِمة والشارات التي تُظهر القذافي في عدَّة مَواقف بُطُوليَّة، وإحدى هذه الصوَر تُظْهِر القذَّافي واقفًا بجانب صدام حسين!
كذلك يَقُومون بِتَزْيين الشوارع والمحلات بالأعلام الخضراء، والأناشيد الصاخبة الثورية التي تُشَوِّه صورةَ الثُّوَّار في الشرق تُسمع في أرجاء المنطقة، وأحد هذه الأناشيد يقول: أنْقِذوا مصراتة العزيزة من الإرهابيين"! وأحد المُقيمين في المنطقة قال: "إنَّ الثُّوَّار عبارةٌ عن مجموعة من السارقين والإرهابيين كعصابات علي بابا"، وأشار آخر للازمة على أنها حرْبٌ أهلية؛ كالتي حدثتْ في الجزائر في حقبة التِّسعينيات، حيث قُتل حوالي 200 ألف مُواطِن، قائلاً: "الحربُ ليست الحرية"!
ويشكو الناسُ في منطقة أبو سليم مِن تضخُّم الأسعار، حتى إنَّ بعضَ أسعار الموادِّ الغِذائية قفَزَتْ خمسة أضعاف السِّعر الأساسي، وأمَّا الطبقةُ المتوَسِّطة فإنهم يقولون: إن أطفالهم على وجه الخصوص يُعانون فأشار أحد الآباء قائلاً: "إنَّ الأطفال مرعوبون من أصوات قنابل حلف الشمال الأطلسي".
وعلى الرغم من الدِّعاية التي يقوم بها نظامُ القذافي، فإنَّ الرُّوح المعنويَّة آخِذة في الانْهِيار، وآخرُ تقارير الانشقاقات تُظهر أن نظامَ القذافي يتآكَل؛ حتى إنَّ أحدثَ هذه الانشقاقات كان لمجموعة تتكوَّن مِن 17 لاعبَ كرة قدم من المنتخب الوطني!
وللحفاظ على مستوى الأسعار حددتْ حكومةُ القذافي قيمة المسحوبات النقدية من المصارف، بحيث لا تتعدَّى 800 دولار، وخوفُ الناس من عدَم الاستِقرار يُجبر المصارِف على العَمَل طوال اليوم، وفي محلات السوق السَّوْداء تجِد ربطات الأموال مكدَّسة بجانب الحائط.
وأما فئة الأغنياء من الليبيين المُحَمَّلين بالحقائب المليئة بالدِّينار الليبي - والتي تُساوي 40 بالمائة أقل من سعرها ما قبل الأزمة - يذهبون إلى سوق المشير القريب من الساحة الخضراء؛ حيث يحشد القذافي مُريديه هناك لتغيير هذه المبالغ إلى الدولار.
وفي النهاية هناك شعور خفي يقول بأن الناس ينتظرون لحظة نهاية النظام، وهناك أيضًا عِدَّة إشاراتٍ واضحةٍ تُنبئ عن أن انتفاضة عارمة على وشك الحدوث!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق