الأحد، 19 يونيو 2011

محمد عوض الشارف : هل كان الدلال سببا في ضياع الاستقلال؟


نشرت جريدة الكلمة في عددها الخامس مقالا موسوما بـ (كيف فقد الاستقلال الأول؟) للمستشار جمعة حسن الجازوي، فحمَل المستشار أعباء ضياع الاستقلال الأول (1951م ـ 1969م) إلى مجموعة وصفها بالوصوليين والانتهازيين وعملاء الإيطاليين والانجليز الذين تسللوا إلى صفوف الدولة، وبقرب هذه المجموعة من مركز القرار أُبعد المجاهدون وأبناؤهم عن دائرة التأثير، بل أُبعدوا حتى عن الوظائف البسيطة. ومن وجهة نظر صاحب المقال أن العملاء استعملوا فزاعة أعوان عبدالناصر لإسكات كل صوت ينادي بالإصلاح وتطهير الصفوف، ثم أنحى صاحب المقال باللوم على بعض الضباط السذج الذين انساقوا وراء القذافي ونفذوا الانقلاب، وبرأ المستشار بجرة قلم ساحة الشعب الليبي من المسؤولية في ضياع الاستقلال.

هذا بعض ما طرحه المقال الذي جانب الموضوعية، وكان مؤملا من المستشار أن يستعمل لغة أهل القضاء الموصوفة بالدقة والإنصاف، ويكون منطوق الحكم بعد ثبوت التهمة، وكفاية الدليل، ولكن المستشار استخدم لغة الاتهام والتخوين والعمالة، وكنت أحسب أن هذا القاموس قد انتهى بانتهاء أحمد سعيد! ولا أدري كيف يصف المستشار كل رجال العهد الملكي بهذه النعوت، في الوقت الذي يقول فيه: إن دولة الاستقلال بدأت من الصفر! فإن كانت بدأت من الصفر فمن أقام تلك الدولة التي كانت حافلة بجليل الأعمال، يانعة بنهضة العلم تتمتع بالرغد السياسي والكرامة الإنسانية؟
  لم يعرف العهد الملكي  حالات لانتهاك حقوق الإنسان، لا سيما حقوق السجناء السياسيين؛ فالسجن السياسي كان  خاليا من رواده إلا من بعض الحالات المحدودة، وكان ينفق لهم  مبلغ من المال عن الفترة التي يقضونها في السجن. أما عن نهضة التعليم فسرعان ما نهض رجال العهد الملكي بهذه الرسالة في فترة وجيزة، وأضحت جامعة بنغازي يؤمُّها صفوة العقول العربية والعالمية، وقد سئل الدكتور طه حسين عام 1968م عن أفضل الجامعات العربية، فكان جوابه: (إن أفضل جامعة الآن هي جامعة بنغازي، ذلك لأن فيها خيرةً الأساتذة وأجلة العلماء). وكان طلبة القسم الداخلي في جامعة بنغازي يتقاضون مبلغا وقدره خمسة جنيهات وهي في حينها تعادل مرتب موظف في الدرجة السادسة، وقد بلغ الرفاه بالطلبة أن هددوا بالإضراب عن الدراسة إذا لم يوفر لهم طبق بسبوسة كل يوم، فما كان من المؤرخ مصطفى عبد الله بعيو إلا أن قال لهم: ( تبو بسبوسة يامتاع الزميتة)، وأطلق على أولئك الشباب لقب ( شباب البسبوسة).

دور المجاهدين في العهد الملكي
 التذكير ببعض محاسن العهد الملكي لا يعني بطبيعة الحال أن كل رجال العهد الملكي كانوا فوق الشبهات، أو أن ساحة بعضهم براء من الفساد المالي أو السياسي، ولكن السؤال: ما هو حجم ذلك الفساد؟ وكم عدد أولئك المفسدين عند مقارنتهم بالأكفياء المخلصين؟ ثم ما هو حجم  السيئات مقابل الحسنات؟ فالمفسدة ينبغي أن تقدر بقدرها، وتوضع في سياقها.
 يذكر صاحب المقال أن المجاهدين وأبناءهم أُبعدوا عن مركز القرار، وهذا اتهام  يُعوزه الدليل، وتعميم ينقضه تولي بعض المجاهدين لمسؤوليات قيادية في العهد الملكي مثل الشيخ المجاهد عبدالحميد العبار الذي كان رئيسا لمجلس الشيوخ، والشيخ المجاهد سعيد جربوع عبدالجليل العَبيدي الذي كان عضوا فيه.
 و بسبب حرب الإبادة التي عاناها الليبيون، فقد دفعوا الثمن غاليا من  مهج الشهداء، ولم يتمكن كثير من  أبناء المجاهدين من التعليم الذي يؤهلهم إلى المواقع المتقدمة في فترة بناء الدولة الليبية، كما أن منهج السياسة التعليمية الذي اتبعته إيطاليا حرمت الليبيين من التعليم الذي يؤهلهم في النهوض بوطنهم، فكان أقصى ما يدرسه الطالب هو أربع سنوات في المرحلة الابتدائية، بل إن النجباء يُحرمون حتى من هذه الدراسة، كما حصل للأستاذ حسين مازق رحمه الله الذي كان متفوقا في دراسته الابتدائية ، فدفع ثمن تفوقه بفصله من الدراسة  بدون سبب حتى يصبح الليبيون خدما للإيطاليين. ومن جراء هذا الوضع هاجر كثير من العائلات الليبية، وقد تمكن بعضهم من مواصلة تعليمهم في المهجر، وكان لهم  دور مهم في تأسيس الدولة الليبية.
من  يتحمل عبء الخطيئة التاريخية؟
  أتفق مع خاتمة المقال عندما وصفت الملك  إدريس رحمه الله بما هو أهل له  (وقد تحصل على المأوى الشريف بينما دفع الذين خانوه أثمانا باهظة ).
 فمن الذين خانوا الاستقلال الأول؟ وجحدوا الرجل الذي بتوفيق الله استطاع أن يجمع شمل هذا الشعب ويحقق له دولة كانت دوحة في صحراء الشرق، حتى بلغ الترف والرعونة ببعض القوم أن طالبوا بدون حياء بحكم إبليس، فاستُجيب طلبهم وجاء إبليس، فماذا فعل المدللون مع إبليس؟!
  إن  ضياع دولة الاستقلال، والتخلي عن مؤسس ليبيا ورمز وحدتها الملك إدريس، هو خطيئة تاريخية يتحمل وزرها معظم الشعب الليبي، لكن المسؤولية الكبرى يتحملها المثقفون باتجاهاتهم المختلفة، لاسيما الذين كان صوتهم عاليا في العهد الملكي وهرفوا بما لم يعرفوا، وأرادوا أن يحرروا فلسطين ويوحدوا الأمة العربية! فإذا بهم يساهمون في تسليم ليبيا شيكا على بياض لمجموعة من المتمردين، ويقيدوا الوطن في أصفاد  الرق والمهانة، ولم يستطيعوا أن يحرروا أنفسهم، ناهيك أن يحرروا وطنا من نازلة ألمت به، بل تحول المناضلون المدللون إلى بطانة للعسكر تسعى لإضفاء مسحة ثقافية وسياسية عليهم، وسجلت صحف التاريخ لقلة قليلة من المثقفين الذين انتبهوا لخطورة الجُرم في السير مع ركب العسكر،  فتخلوا مبكرا عن هذا المزلق الخطير، وهو أقل ما يمكن عمله، أما سواد القوم فتحول من ضجيج المعارضة في العهد الملكي، إلى مدجنين وُدَعَاء في عهد القذافي، يُحسنون فنون الزُّلفى والمواربة ، فليت شعري مَنِ الذين ضيع الاستقلال؟ هل ضيعه الذين استلموا ليبيا صِفرا فجعلوا من هذا الصِفر دولة؟ أم الذين تنكروا لدولة الاستقلال، وآزروا القذافي ولهثوا خلفه واختطفوا دولة ناهضة فأسهموا في جعلها صفرا؟
نشر في جريدة الكلمة بتاريخ 19 يونيو 2011م.

هناك تعليقان (2):

  1. اوافق الاخ محمد في كثير مما طرحه, خصوصا وان الكثيرين يعتقدون ان ما حصل لليبيا من كارثة وهي حكم الزنديق معمر كن نحن مسؤلون بشكل كببر عنها, فمن صنع القذافي هم الليبيين (استخف قومه), ولا يجب علينا دائما البحث عن شماعة لنعلق عليها اخطاءنا فمعرفة المشكله جزء كبير من الحل. وفي اعتقادي ان من ضيع الامة العربية هم من يسمون انفسهم بالقوميين الذين احلوا قومهم دار البوار والتاريخ يكرر نفسه فيجب علينا التنبه, ويجب علينا التنبه لما سيحدث لكي لا يتكرر سيناريو ما بعد الاستقلال.

    ردحذف
  2. كلام سليم وبارك الله فيك وربي يعجل بنهاية فيلم بوشفشوفة المجرم الكافر واعوانه امييييين يارب

    ردحذف