السبت، 21 مايو 2011

أنيس السنفاز : بنغازيجراد



بنغازيجراد 

ويقول..بنغازي حبيبته 

ومن يحب.. 

من تكون له حبيبه، تسكنه.. وتملأ حياته بالحياة ..ويحبها حقا .. 

فإنه حين يفكر في أن يرسل لها هدية..يحتار ألف مرة ومرة..ويفكر ألف مرة ومرة.. 

فأية هدية ياترى يهديها .. وأي شئ في هذا العالم ياترى يرضيها ويبهجها أكثر.. 

هل يهديها قارورة عطر 

لوحة .. صورة 

غابة ورد.. أو قصيدة شعر 

ويظل يتساءل المرة تلو الأخرى ..أي شئ يرضيها .. ويسعدها ويبهجها أكثر 

من يحب حقا.. 

من تكون له حبيبة ، تؤرقه .. وتملأ حياته بالحياة فإنه لا يفكر الا في كل "مايصون"لها هذه الحياة.. 



........................................................... 

وحين وصلت هديته .. 

حين وصل رسول المحبة عند مشارف المدينة وتوقف أمام جامعة قاريونس يطلق زخات الرصاص والكلاكسات 

عقدت المفاجأة المرعبة حقا لسان بنغازي وهي تحاول أن تطلق صرخة جريحة ..تقول للدنيا .. كل الدنيا.. 

أيعقل هذا ..أيعقل هذا .. 

أثمة من يكره إلى هذا الحد .. 

أثمة من يحقد ويغتال الحياة إلى هذا الحد.. 

أثمة من يقيم عرسا للموت!! 



.................................... 

حين وصلت هديته.. 

أطلق الشيطان نفسه ساقيه للريح وتوارى خجلا وهلعا ..وتوقف شعر رأسه رعبا .. وانزوى طويلا يبكي وينحب.. 

كانت هديته ليست ككل الهدايا .. 

ما خطرت أبدا على كل المحبين .. وكل العاشقين .. وكل المجانين ..ما خطرت أبدا على قلب بشر.. 

وكان رسول محبته "عزرائيل" يتقدم موكب الموت والدمار.. 

دبابات .. ومدافع.. وراجمات صواريخ.. وعربات ،ومجنزرات.. و.... 

وقائمة طويلة أكثر شئ فيها رقة ووداعة رشاشات الكلاشنكوف.. 

رتل موت امتد لعشرات الكيلومترات جاء ليغتال الحياة في بنغازي ويهدم كل شئ.. 



.......................................... 


بنغازي لم تكن ذات يوم حبيبته .. لقد ظلت دوما عصية عليه.. رغم كل الهدايا و رسل المحبة .. 

ورغم كل وسائل الترغيب والوعيد.. 

ظلت بنغازي دوما عصية عليه .. 

لم تكن أبدا حبيبته.. 

فبنغازي حبيبة "دبوب" و"بن سعود" و "المخزومي" الذي غني لها أحلى الأغنيات .. 

و"الهلالي" الذي رسم لها أروع اللوحات .. 

بنغازي حبيبة "الشويهدي" و "زيو" و "نبوس" و "إيمان" 

بنغازي حبيبة "شهداء بو سليم" وأبناء الزاوية ومصراته وغريان والزنتان واجدابيا وطرابلس ونالوت والرجبان.. 

بنغازي حبيبة كل الذين هبوا وخرجوا في 17 فبراير فمنهم من قضى نحبه.. ومنهم من ينتظر.. 

ولأن بنغازي أحبائها كثر ..ولأنهم يحبونها حقا.. ويريدون لها الحياة .. 

ولأنها كانت لهم روح الروح.. ونبض القلب ..فلقد تنادوا في لحظات يطوقونها بمحبتهم .. يحرسونها.. 

يحمونها من رتل الموت القابع عند مشارفها.. 



................................................... 



توضأت بنغازي..صلت ركعتين شكرا لله.. 

الذي أرسل طيرا أبابيل تركت أفيال أبرهة كالعصف المأكول على امتداد عشرات الكيلومترات.. 

وتوضأت من جديد..وصلت ركعتين 

وسألت الله أن يحميها دوما ويحمي أحبائها من أفيال ابرهه عند كل وقت وفي كل مكان .. 

واستلقت بنغازي عند الشاطئ .. تداعب بقدميها مياهه الوادعة وتتوسد درجات مبنى المحكمة وهي ترنو 

إلى أحبائها الذين ملئوا ساحة الحرية يهتفون .. ويرقصون ويغنون لها أرق وأحلى الكلمات .. 



.............................................................. 

وتغمض بنغازي عينيها... 

ترجع سنوات طويلة إلى الوراء...تقلب دفتر ذكرياتها... 

تحاول أن تجد شيئا واحدا ... كلمة...تصرفا بسيطا...شئ...أي شئ قد يكون لصالحه...قد يحسب له. 

وتحاول عبثا أن تتذكر..أن تجد ثمة ما قد يحسب لصالحه..أن تعثر على ما قد يشفع ولو قليلا له.. 

وتقلب الأوراق .. 

وتتذكر أنه ومنذ ذلك اليوم سيء السمعة الذي دخل فيه عالمها ..دخلت إلى قاموس حياتها كلمات كانت غريبة عليها ... كلمات مثل الحزن، والألم .. والمعاناة ... 

وتتذكر كيف انه كان يتربص بها أمام بيتها.. وينشر "بلطجيته" بامتداد شوارعها ويستمر في الإصرار على مناكفتها ومضايقتها في كل الأوقات وبكل الوسائل ... 

وترتعش وهي تتذكر كيف أنه وبعد زمن ليس بالكثير من قدومه علق عددا من أحبائها فوق أعواد المشانق عند مبنى الكنيسة القديم .. وداخل الجامعة .. وفي الميناء.. وفي عدد من الساحات.. وكيف تركهم يتأرجحون لساعات .ليرعبها ويرعب بقية أحبائها .. 



وبكت يومها بحرقة لم تعرف لها مثيلا... 

وبكت بعد ذلك بفترة بسيطة كما لم تبك من قبل حين كان يصر على أن يستمر في تلك الليالي من شهر رمضان على عرض مسلسل الموت والتعليق على أعواد المشانق عندما يتهيأ الجميع أمام موائد الإفطار. 

وتتذكر كم حرمها من ألف شئ وشئ ... 

كيف حرمها من حبة فاكهه تعيد النُضرة إلى وجهها .. وكيف حرمها من لقمة في ليالي الشتاء التي طالت... وطالت... 

وكيف أراد لها ان تكون جائعة .. وخائفة ..وبشعة تزحف التجاعيد والبثور إلى وجهها... 

وتتذكر كيف أراد أن يسلبها مرابع طفولتها ..فهدم سوق الظلام .. وعبث بمرقد جدها عمر المختار .. ودك بنيان النادي الأهلي.. 

أزال بيوت .. وأغلق دكاكين .. ومحى منازل وشوارع كانت تعبق برائحة البخور وحكايا الأجداد والجدات.. 

وأنه ظل يسوق بلدوزراْ جهنميا لا عمل له الا هدم ومسح كل شئ .. 

و تتذكر كيف أن ختامها لم يكن مسكا على الإطلاق .. فقد جمع كل أبالسة الأرض ووضعهم في هذه الأرتال المدمرة التي جاءت لتسوي كل شئ بالأرض وتزيلها من خارطة البلاد.. 
... .... ...... ...... ....... ..... ........ ... ...... 

قبل 19 مارس كانو ينادونها بأم اليتامى ورباية الدايح و أم الثوار.. 

وبعد 19 مارس صار الكثير من أحبائها يحلو لهم أن ينادونها "بنغازيجراد" 

بنغازي المقاومة.. 

والتي ظلت عصية عليه .. 

أرادها أن تتحول إلى سربرنيتشا أخرى 

والحق أرادها أن تبقى صامده .. بنغازيجراد.. وتيموشوارا أخرى.. 

أنيس السنفاز 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق