الأحد، 15 مايو 2011

رؤية مرحلية


رؤية مرحلية



الخطى المتسارعة للأحداث جعلت من المرحلة الراهنة سياسيا مثارا للتساؤلات، وليس في شيء من هذا أي عجب !، وإلا فكل مواطن ومواطنة في شرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها يعنيه بالاصالة عن نفسه ونيابة عن مجتمعه:
·        كيف سسيتشكل المشاهد الختامي للثورة المباركة؟
·        كيف سيتم تفكيك البنى المهترئة لسلطة سبتمبر؟
·        كيف ستكون ترتيبات ما بعد السقوط؟
·        ما هي العوامل التي ستكون الأكثر حسما في تشكيل المستقبل؟

·        على أي شيء يعول الليبي فيما يرده لشكل الحياة القادمة له ولأبنائه.
·        وما إذا كان هناك تصور واضح المعالم للمستقبل يمكن الحديث عنه؟!
·        ما هي أبرز ملامح المسارات العامة الممكنة للوصول إلى هناك؟
·        كيف سنصل إلى المحطة النهائية في الأفق السياسي الذي نستشرفه؟
·        ما هي هيئة المحطات التي سننطلق إليها واحدة تلو الأخرى على الطريق قبل أن يحط بنا الترحال في نهاية المطاف عند المحطة النهائية؟.

وهلم جر !!! سيل جارف للطمأنينة من تساؤلات مشروعة، و حق للمجتمع أن يطرحها على أفراد وكيانات الحركات السياسية الاجتماعية التي بدأت تبرز وتتشكل على الساحة العامة، للتصدى لهموم وتحديات الشأن العام، وتسعى لطرح الحلول والبدائل الممكنة والمناسبة للتعامل معها، ففي ضوء هذه  الرؤية أو تلك، وفي اطار محددات هذا الخيار أو ذاك، سيقف الناس من أي مبادرة أو حركة اجتماعية سياسية مقتريبين منها مشاركين مؤيدين داعيمن مناصرين، أو مبتعدين عنها مناوئين مناكفين، لذلك لابد من المصارحة!!!، لابد من البيان وعدم التعامل بأي اسلوب ملتوى، والتجانف عن اساليب المناورات السياسية لاثاره الدخان في الساحة السياسية لحجب الحقائق على ما هي عليه مع أهلنا وأبناء المجتمع، ومناقشة ما يجول في الخواطر ويعتمل في الصدور، وينقدح في الأذهان من أفكار وتصورات للحلول والبدائل، للتعامل مع تركة ضخمة من ركام الدولة الفاشلة التي سنرثها عن نظام سلطة سبتمبر على مدار عقود أربعة من الاستبداد والفساد الممنهج.
ولا يصلح على الاطلاق عرض الرؤية عرضا طوباويا مثاليا مجردا، ولا ينبغي أن يغرق الخطاب السياسي في مماحكات ديموغوجية مستنسخة من الخطاب السياسي الذي اقتاتت عليه وعاشت عليه سلطة سبتمبر على مدار العقود الأربعة الأخيرة من تاريخنا، ولا يقبل من أي طرف أن يجعل من فشل سلطة سبتمبر ميزة له كلا كلا .. إن فشل سلطة سبتمبر ليس دليل على نجاح أي طرف منا على الإطلاق، وليس هناك من يحق له بعد ثورة السابع من فبراير المباركة أن يدعي أن لديه شرعية ثورية، فالشرعية فبراير قد انجزت مهمتها على اكمل وجه والتي لا تتجاوز ارجاع زمام الأمر إلى صاحب الأمر وهو الشعب، ففبراير تعني أن السيادة الوطنية اليوم حصرا وقصرا في يد الشعب، وأنه لا يجوز لأي طرف أو فئة أن تمارس أي عمل من الأعمال التابعة للسيادة إلا أن يكون مستند ذلك إلى تكليف من الشعب.

اطار الرؤية المرحلية

الذي يعنينا من تناول الرؤية في هذا المقام، ليس الشكل الفني التخطيطي للرؤية، بل يعنينا عرضها في  نسق سياسي ينحى منحى تحليل المضامين والقيم والمحددات والشروط والموانع، أما الرؤية كما يتناولها المتخصصين في التفكير الاستراتيجي – على الرغم من أهميتها وضرورتها الملحة بدون شك- ومنهجية عرضها على مستوى المضمون والشكل الفني والظيفي التخطيطي مما تقتضيه في العادة النواحي الشكلية لصياغة -  كمية نوعية - تؤسس لبقية وظائف التخطيط الاستراتيجي المنهجي، فهو على الرغم من أهميته الحيوية إلا أن الخوض في مصطلحاته واتجاهاته سيغرق الرأي العام اليوم في تفاصيل ونظريات وأداوت ومدارس للفكر الاستراتيجي بالعشرات، سيكون الخوض فيها والاختلاف حولها تفويت للعمل التأسيسي السياسي المطلوب اليوم مما يعنيه في البداية ونحن على اعتاب عهد انتقالي يمهد الطريق لما بعده ، لذلك نحتاج لتناول المضامين والدلالات والاسقاطات السياسية للمفاهيم والأفكار والتصورات، وعلى هذا الأساس ستعرض هذه الرؤية من خلال مسارات خمسة سيكون علينا السير فيها بتوازن، بالتوازي أحيانا، وبالتتابع أحيانا أخرى، وقدر تفرض طبيعة بعضها علينا اعتبارها لها  أولوية وأسبقية على ما سواها، وقد يسعنا محودية امكانياتنا ووضع المجتمع والدولة للتأجيل أوتأخير بعضها الأخر مما وإن كان له أهمية إلا أن منطق الواقعية لا يعتبره من الأولوية، وبحسب كل مسار وطبيعته ومتطلباته وشروطه وموانعه، وفوق كل ذلك ما يدخل ضمن متطلبات المرحلة ويتميز بوزن نوعي ثقيل بعض الشيء ليضغط بشكل حاسم.
وفي هكذا تلميح  - خاصة لشباب الثورة - ما يعزز فهم طبيعة الجانب المطلوب في تناول مسألة الرؤية المرحلية، والغرض السياسي الذي من أجله تعرض، وأن شكل العرض في هذه الحالة يختلف عن شكل العرض الذي عادة يقدم في ورش التفكير الاستراتيجي التي تستهدف بلورة خطط استراتيجية، وما يستتبعه ذلك من أداوت تحليلية واساليب اتخاذ قرار فني بحت، مما لا يحتمله التنوير الفكري والسياسي لجيل شباب ثورة السابع عشر من فبراير المباركة، كي يدرك عظم المهمة التي تصدى لها، وخطورة التحديات الذي تواجهه، مما يفرض عليه ضرورة المبادرة بتجيهزات متعددة المناحي، وتعلم أساليب غير تقليدية مستحدثة لتناول قضايا الواقع، والتمرس على استخدام الأداوات العلمية المكافئة بعيدا عن الخطاب العاطفي الارتجالي الذي نستخدمه في الساحات، ولكنه لا يصلح على أي حال لمواجهة المشكلات التي خلفتها لنا سلطة سبتمبر، وهو تحدي يفرضه علينا تحدى العبور من طور الثورة إلى طور الدولة، الأمر الذي لا يصلح له الخطب المنبرية ومرسل القول ومجرد الأماني الطيبة.

أين نحن وكيف وصلنا إلى هنا؟

بعد عقود أربعة من المعاناة ونحن نرزح تحت وطأة الاستبداد والفساد والاقصاء والتهميش والاستئصال الممنهج الذي سلكته سلطة سبتمبر، واختارته وفرضته سياسات عامة في إدارة الشأن العام، وصلت الحالة الليبية إلى نهاية المطاف في الطريق المسدود الذي كانت الدولة تدفع فيه، وحينها بدأ المأزق يتضخم بمعادلة هندسية، وصرنا وسط ما عرف في الأدبيات السياسية التي انتجت خلال السنوات العشر الماضية في أدبيات الاصلاح بنفق الأزمة المظلم، وبعد أن استنفذت سلطة سبتمبر كل الممكن، وفوتت كل الفرص، التي كأن أخرها فرصة الاصلاح في نهاية القرن المنصرم و العقد الأول من مطلع القرن الجديد، ولكن غلبت غليها شقوتها ولم يفدها تحذير العقلاء من أبناء المجتمع، ولم ترفع رأسا بتوصيل القول لها عقب القول بخطورة تخطى الخط الأحمر الليبي السيادي والمتمثل في الدم الليبي!، إلا أن سلطة سبتمبر أبت إلا أن تمضى سادرة في غيها دون وازع أو رادع، موغلة في استخفافها بالشارع الليبي مستفزة لأعماق وجدانه، مما أوصل الحالة الليبية إلى نقطة الانفجار، في أجواء الثورات الاجتماعية الشعبية العارمة التي اجتاحت عروش الدكتاتوريات التقليدية العاتية عن يمين وشمال، فلم يكن هناك ما يؤشر مطلقا على أن ليبيا ستكون استثناء، ولم يكن ذلك ليحتاج لكد ذهن أو اعمال عقل، بل كان أمرا مشاهدا للعيان يراه الناس واقعا قائما يصرخ، وهو ما هيأ المناخ لانطلاقة انتفاضة فبراير من نفس المنطلق الذي فجر ثورتي تونس ومصر الشقيقتين، لا على قاعدة انتقال عدوى انفلونزا الثورات كما يتصور أصحاب التصورات القاصرة، بل للتشابه الشديد في الحالة، وتفاقم عوامل الاحتقان والفشل الذي انتهت إليه منظومات الاستبداد وفساد النخب المتنفذة والحاكمة، مما دفع المجتمع بشكل متسارع نحو نهاية النفق المسدود المظلم، ودفع أبناءها نحو الجدار ولم يعد من الممكن ترحيل الأزمة نحو المستقبل قيد انملة، فجاءت فبراير على قدر ثورة سلمية كسابقتيها في تونس ومصر، لولا أن دخل على خطها عنصرين اضافيين تميزت بهما دون شقيقيتها في تونس ومصر، فاخذت انتفاضة فبراير بحكم الضرورة الواقعية طابعا من الخشونة مبرر ومشروع.
خصوصية فبراير
على خلاف الحالة التونسية والمصرية، قامت سلطة سبتمبر بحرق مراحل العنف بجنونية، إذ قفزت مباشرة وبدون أي تقدمة العنف الصلب ضد التظاهر السلمي الناعم، حيث لجأت إلى استخدام الرصاص الخارق الحارق مباشرة، بالاضافة إلى القناصة والأسلحة الثقيلة من راجمات الصواريخ بانواعها والهاون ومضادات الطائرات والدروع والدبابات بل لم تتردد في قصفهم بالطائرات، بل ولم تتوانى عن استخدام الذخائر المحرمة دولية من قنابل انشطارية محرمة دوليا في ساحات الحروب بين الجيوش عوضا استعمالها ضد المدنيين في المناطق السكنية، مما جعل مواكب الشهداء تتقاطر الموكب تلو الموكب من الرجال والنساء والأطفال دونما استثناء أو تفريق بين من يحمل المسلح ومن هو أعزل غير مقاتل، وكان غالب الإصابات في الجزء الأعلى من الجسم مما يعني أن القتل كان سلوك ممنهج لسلطة سبتمبر، ولم يكن بحكم الاضطرار والاستثناء.
ولم تكتفى سلطة سبتمبر بمباشرة العنف ضد أبناء الشعب المنتفض حتى اضافت إليه العنصر الذي فجر الموقف، وجعل الانتفاضة تبدي درجة من الخشونة اللازمة لمواجهة الخطر الداهم الذي وجدت نفسها فيه وسطه وجها لوجه، والمتمثل في عناصر ملشيات وقوات أجنبية تحمل السلاح في جميع شوارع المدن والقرى، تقتل وتسرق وتنتهك الحرمات، ولعمر الحق لم يكن أمام الشعب الليبي من خيار سوى يختار ذات الشوكة، وقد كتب عليه القتال وهو كره له، فعزم على الرشد وصدق في عزمته وافتك السلاح من أيدي هذه القوات الأجنبية، ولم يتردد مطلقا في التصدى لها ومواجهتها بكل صرامة وجد لا هزل فيه، وما يزال الاتجاه الوطني السائد أن السلاح لن يعود إلى جرابه حتى يدحرها بإذن الله عن بكرة أبيها ساعة دحر أخر مرتزق من البلاد إما قتلا أو اسرا أو طردا.  
 وفي حين ما تزال مهام عمليات تفكيك منظومة الاستبداد والفساد تفرض نفسها وتشغل بالنا جميعا، وتأخذ الجزء الأعظم من تفكيرنا وجهدنا على حد سواء، إلا أنه لا يغب عن تفكيرنا أن المستقبل يحتاج هو الأخر إلى أن نوليه جزء من الاهتمام والتفكير، من هنا جاءت الحاجة للتفكير في أهمية وضرورة وجود كيان سياسي أو هيئة سياسية – فكرة المجلس الوطني الانتقالي - تلتف حولها جميع فعاليات انتفاضة فبراير المباركة فوق كامل التراب الوطني الليبي، من أجل هدفين أساسيين:
الهدف الأول : ملء الفراغ السياسي الذي خلفه سقوط شرعية نظام سلطة سبتمبر
سقطت سلطة سبتمبر منذ اللحظة الأولى لارتكابها سلسلة من الجرائم التي لا تصنف قانونيا وسياسيا و وطنيا إلا على أساس أنها جرائم خيانة عظمي، فهي لم تكتفي فقط بالتهديد في خطابات القذافي وابنه سيف على شاشات التلفزيون باستجلاب قوات أجنبية مرتزقة، حتى نفذات ما هددت به وقامت بتسليح تلك الميشيات المرتزقة واطلقت يدها لتعيث في كل المدن والقرى الليبية فسادا، مستهدفة بذلك الأمن العام واستقرار المجتمع،مما تسبب وبشكل مباشر في مقتل الكبار والصغار والشباب من الرجال والنساء، وهتكت الأعراض، وسلبت وسرقت الممتلكات، ودكت الأحياء السكانية المكتظة عشوائيا فوق رؤوس ساكينها العزل، ودمرت مخازن السلع التموينية، وقصفت المنشأت الصناعية، وخربت أنابيب ومنشأت وحقول النفط الذي يمثل المصدر الأساس لارزاق الناس وأقواتهم، وأحرقت المزارع وقتلت المواشي وسممت أبار الماء ولوث بالنفط، وفجرت محطات الصرف الصحي، ومحطات ومولدات الكهرباء، ولم تترك نقيصة من جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية إلا اقترفتها دون أي وازع وطني عوضا عن اخلاق الرجال أو قوانين الحرب، وهددت السلم الاجتماعي بمحاولة توريط بعض أبناء القبائل في حرب أهلية مفتعلة لولا تصدي أبناء تلك القبائل لمخططها الشيطاني ويقضتها للسلوك الشيطاني لسلطة سبتمبر.
وهو خطر داهم هدد بشكل مباشر كينونة المجتمع، ولم يكن من المنطق في شيء مواجهته والتصدى له بجهود فردية تتأتى عفو الخاطر و وحى اللحظة متفرقة مشتتة، بل كان من المعلوم من الواقع بالضرورة أن هذا لا يمكن احتوائه ودفعه إلا من خلال تنسيق جهود، وترتيب أمور، ودعم لوجستي ضخم، لم يكن من الممكن أن يتوافر بالمبادرات الفردية العفوية، فكان وجود وعاء يستوعب كل ذلك في أي شكل من الأشكال ضرورة أملها الواقع.
الهدف الثاني : قطع الطريق على الفوضى أو التدخل الخارجي
لأن ليبيا تمثل تقاطع مصالح استراتيجية على المستوى الاقليمي والعالمي، وليس من المقبول أن تنزلق نحو مستنقع الفوضى الناجمة عن خلخلة السلطة المركزية التي كانت سلطة سبتمبر تمسك بزمامها بقبضة حديدية منذ مجيئها في الأول من سبتمبر 69م، فالجميع يدرك تماما طبيعة ومدى تشابك مصالح القوى الإقليمية، ولا يسع عاقل أن يتجاهل تلك المصالح وحضورها في المشهد الليبي و لو على سبيل الافتراض، وكان واضحا جليا أيضا كيف سيهدد تلك المصالح انزلاق البلد نحو الفوضى، وكيف ستدق نواقيص الخطر في عواصم الشمال والشرق والغرب وأن قرون استشعارها ستقرأ الحدث بحساسية خاصة، كيف و الخطر يهددها أمنها الأستراتيجي مباشرة، ليس ملف استقرار واستمرار إمدادت الطاقة، بل يشكل ملف الهجرة غير الشرعية واحتمال تسارع وتيرتها، بالاضافة إلى العقود والاستثمارات التي تورطت فيها مئات الشركات الغربية والشرقية، وما يمكن أن تتسبب فيه الفوضى من خسائر هائلة يصعب تعويضها على المدى القريب قبل أن يلعن العشرات منها افلاسه بالكامل وخروجه من سوق الأعمال والاستثمار، كما يدخل على خط التهديدات امكانية أن تتحول المنطقة إلى سوق سلاح نشطه مما يعني امكانية احتمال وصوله إلى الجماعات الارهابية والعصابات المنظمة والقاعدة، الأمر الذي لا يتوقع أن تقف منه دول الجوار موقف المتفرج، فقد هددت سلطة سبتمبر بتهديد خطوط الملاحة في حوض المتوسط باعمال القرصنة وضرب المصالح الغربية فيه، وهي إذ هددت لم تكتفى بالتهديد حتى اقدمت على فعل كل ما هددت به على أرض الواقع في الغالب، في محاولة منها لتسويق نفسها على أساس أنها تمثل صمام الأمان للمحافظة على الإستقرار والأمن الذي كانت تزعم أنها تلعبه، وكيف حاولت أن تستخدمه كسلاح تبتز به دول الشمال في مراحل مختلفة.
وكما يعلم الجميع لم تترك سلطة سبتمبر أي مؤسسة مدنية أو عسكرية يمكن أن يعول عليها لوراثة نظامها في حالة سقوطه المفاجئ كما حدث في الحالتين السابقتين في تونس ومصر، وكان لابد من أن يطرح سؤال البديل نفسه، وكان لابد من إجابة واضحة قاطعة، فجاءت فكرة المجلس الوطني المؤقت ليلعب الدور الذي لعبته المؤسسات المدنية والعسكرية في تونس ومصر، فباركنا الفكرة ودعونا فيمن حولنا إلى أهمية وحيوية وضرورة الإلتفاف حوله مهما اعتراه من ضعف ونقص يمكن أن يكمل ويستدرك مع الوقت بإذن الله، وهو الذي وجد نفسه يعمل على غير مثال، وكانت عقيدتنا فيه أنه مجلس تسيير أعمال المرحلة، وليس من دوره ولا من طبيعته التأسيس لمرحلة ما بعد سقوط نظام سلطة سبتمبر، بل يقتصر دوره على إدارة الأزمة فقط، من أجل ذلك جاءت فكرة لجنة إدارة الأزمة، أما التأسيس لمرحلة ما بعد سقوط سلطة سبتمبر فهو من أعمال السيادة مما لا ينبغي لأي فئة من أبناء الشعب أن تدعى لنفسها حق ممارسته حتى لو كان المجلس المؤقت نفسه، بل هو حق محصور في صاحب الشأن الذي هو الشعب حصرا وقصرا، وهو ما افتات عليه سلطة سبتمبر فاوصلها هذا الاعتداء إلى المأزق الذي وصلت إليه ونشهده اليوم، فالدستور، ونظام الحكم، والتوجهات الاستراتيجية العامة، والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية فالشعب وحده صاحب الكلمة الأولى والأخيرة تجاهها، لذلك أي محاولة للتقرير فيها وسط معتركات وفعاليات الخلاص من منظومة الاستبداد، وقبل أن تتم عملية تفكيك منظومة الاستبداد، وحضور جميع أبناء المجتمع الليبي هو اعتداء صارخ على سيادة الشعب ينبغي الإنتباه إليه والتحذير الشديد منه.
فعلى الرغم من السابق لأوانه التقرير فيها قبل أن تكتمل عمليات الخلاص الكامل، إلا أنه لا حجر على التفكير بصوت عالي، والتفكير فيها، ولكن لا يصح أن يكون ذلك من خلال المجلس المؤقت لأنه ليس من مهمته أن يشتغل بها، لأنه مجلس أزمة، وهو مكلف بإدارة أزمة، فعلى من يريد أن يطرح رؤى سياسية لمستقبل ليبيا أن لا يستغل وجوده في موقع رسمي داخل المجلس ليمرر بحذق ومناورة سياسية افكاره لتثيبتها كأمر واقع وإلا سيككون المجلس قد استنسخ سلوك سلطة سبتمبر والمتمثل في سياسة الأمر الواقع، فمن الأفضل أن يبتعد المجلس وأعضائه عن الخوض في هذه التفاصيل، لأنه وكما يقال دائما أن الخلاف يكمن في التفاصيل، والبلد ليست في باب أن يحدث هذا الخلاف لا مع المجلس ولا داخل المجلس، فمن الحكمة أن لا يحاول المجلس أو أي عضو من أعضائه فتح هذا الملف أو ان يقترب منه في هذا الطور، لأننا نريد المجلس رمزا لاجتماع الكلمة والموقف، وهذه المباحث تختلف فيها وجهات النظر بشكل حاد، ولا يحتمل ما نحن فيه من مواجهة لخطر سلطة سبتمبر أي تباين في وجهات النظر بشكل قد تكون له تداعيات سلبية، مع التأكيد على أن النقاش والحوار خارج المجلس وبعيدا عنه أمر مفتوح ولا يشكل خطورة على الموقف الوطني العام المصطف خلف المجلس، ولعل البيان قد تجاوز حد التلميح لمن له عقل ونصيب من التجربة والقدرة الاعتبار.

المسارات الخمسة نحو المستقبل  

من أجل كل ما تقدم، وحتى لا تضيع البوصلة وسط غبار معارك الخلاص الوطني، وكي لا تنجرف بنا سفينة فبراير نحو الصخور القاتلة، وكي لا يتشابه علينا البقر كما تشابه على الذين من قبلنا فتضيع مهمتها الأساسية والمتمثلة حصرا وقصرا في استرداد الشعب لزمام المبادرة وامتلاك القرار السياسي واسترجاع السيادة الوطنية على كامل التراب الوطني، واسترداد مكانته الطبيعية كمصدر أوحد للسلطات العامة، من أجل ذلك تفرض ضرورة البيان عرض هذا البديل للرؤية المرحلة، والتي ستتعرض لتناول المسارات العامة التي يمكن من خلالها التوصل إلى تحقيق هذا الهدف والوصول إلى تلك الغاية بتوفيق الله.
·        مسار كسر الإرادة السياسية لسلطة سبتمبر
يستهدف هذا المسار التمهيدي لرؤية الخلاص وتفكيك منظومة الاستبداد لسلطة سبتمبر، الأمر الذي يستوجب سيرا متوازنا على طريق استراتيجية الاحتواء المزدوج، بمعني أننا ينبغي أن نتمسك بخيار العمل العسكري – القوة الصلبة- الذي فرض علينا فرضا، جنبا إلى جنب مع العمل الدبلوماسي الموازي - القوة الناعمة - وهو ما يمثل واقعيا المخرج أو الحل السياسي، بشرط أن لا يتم أيا من العملين إلا من خلال المجلس الوطني المؤقت كممثل شرعي ووحيد للشعب الليبي مرحليا، لذلك يجب التشديد والتحذير من مغبة اطلاق أي محاولة في هذا السبيل خارج هذا الإطار، الأمر الذي سيكون له من التداعيات السلبية بالغة الخطورة مما لن تحمد عواقبه على وحدة الصف الوطني ومركز التفوق الاستراتيجي النوعي في مواجهة سلطة سبتمبر، كما سبق الاشارة إليه.
لذلك تستهدف استراتيجية الاحتواء المزدوج كسر الإرادة السياسية لسلطة سبتمبر وعزلها عن التصرف في الأمور السياسية والأمنية والعسكرية، واضعاف قبضتها على القوة المركزية المعنوية تمهيدا لتجريدها منها تماما.
·         مسار السلم والوفاق الوطني
السير على مسار الوفاق الوطني يستوجب تقسيمه إلى طورين اثنين:
طور بلورة الأجندة: يستهدف البحث عن اطار وأساس عملي وتعريف توافقي للمصالحة الوطنية، من أجل ارساء مرتكزات السلم الاجتماعي كضرورة حياتية للمستقبل، إذ يلزمنا نزع فتيل التوتر بين أبناء المجتمع الليبي، فلم يعد من المحتمل اطلاقا استمرار سياسة ترحيل الأزمة إلى المستقبل ولا التعايش معها بحال، الأمر الذي يعني من الناحية العملية الواقعية ضرورة تقسيم الخصوم إلى دائرتين، كسياسة لتقليل حجم الخصومة في اضيث دائرة قدر الامكان، بل وحصرها في شخص القذافي وعائلته وخمسة أو ستة ممن حوله فقط، والسبب في هذا التحديد هو عدم وجود ميزان معياري منطقي عددي كمي يمكن أن يتفق عليه الجميع و ينتهى إلى حد معلوم ليستخدم كمسطرة ومعيار لتحديد من يدخل ضمن اطار المصالحة الوطنية ممن يجب استثناءه، لذلك نلجأ إلى استخدام ساسية عامة تنص على أن المصلحة الوطنية وطبيعة تركيبة المجتمع الليبي تتطلب أن ننحى منحى سياسة تقليل دائرة الاستثناء بدل التوسع فيها.
طور نزع فتيل التوتر: وهو الطور الثاني من الوفاق الوطني يستهدف ارساء أسس السلم الاجتماعي كقاعدة نفسية واجتماعية ووعاء لكل التوافقات المطلوبة، وهذا يتطلب درجة عالية من الوعي الأمني لمخطر انتشار السلاح، واستشعار المسؤولية كاملة عن ما يمكن أن يكون له من تداعيات سلبية على السلم والامن والاستقرار في غياب الرؤية الوطنية الواضحة، فسلاح ثورة فبراير سلاح له عقيدة وفلسفة وهدف واضح محدد، لا ينبغي أن نغفل عنها، أو أن نسمح بخروجه عن اطارها الذي من أجله وجد، ألا وهو الخلاص من منظومة الاستبداد، أما بعد الخلاص وعودة الحق إلى اصحابه يجب أن يعود السيف إلى جرابه،لأن وجوده خارج اطاره سوف يهدر كل التضحيات، ويعوق عمليات التنمية والنهوض، الأمر الذي سيشكل تهديدا مباشرا لكل جهود التوافق بين أبناء المجتمع، وهنا لابد أن يكون الحوار والحوار فقط السبيل المشروع لتناول أي قضية من القضايا العامة ذات العلاقة بالمصير المشترك، وهذا يسلتزم بالضرورة نزع السلاح وحصره فقط في دائرة مؤسسة الدولة، لتقليل من فرص الصراع الدامي أو الخلاف الدامي، ولأنه لا يمكن تصور أي امكانية لاطلاق أي عملية ديمقراطية ما دام السلاح خارج اطار المؤسسة العسكرية الرسمية، بل لن تكون الديمقراطية سوى سراب بقيعة يحسبه الضمأن ماء حتى إذا بلغه لم يجده شيئا، وستكون مجرد ديكور خالي من كل مضمون أوقيمة، وستتحول كل الشعارات إلى مجرد حبر على ورق، وسيؤول حال الانتفاضة والتضحيات الضخمة إلى أن تستحيل إلى مجرد صرخة في وادى أو نفخة في رماد، ما بقي السلاح خارج اطار مؤسسة الدولة الرسمية، بالاضافة إلى وجوب أن يطلق ميثاق اجتماعي وطني يؤطر دور مؤسسة الأسرة والعائلة والقبيلة في الاطار الاجتماعي وألا تتجاوزه إلى المجتمع السياسي فيفسدها وتفسده، مع كامل الاحترام لكل الوشائج الاجتماعية شريطة أن لا تخرج عن اطارها. أما الغاية القصوى من السير على مسار الوفاق الوطني فهو حتمية التوصل إلى حالة التوافق حول تعريف الهيئة الاجتماعية الجديدة، أسسها وهويتها ومنطلقاتها وهويتها ومرجعيتها الدستورية السامية، ونظامها العام، وشكل مؤسساتها، وطبيعة التوجهات والاختيارات والعمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الممكنة فيها.
·        مسار اعادة الاعمار
تولت سلطة سبتمبر في الأرض فاهلكت الحرث والنسل، واحرقت بما استجلبته من مليشيات المرتزقة الأخضر واليابس، وعاثت في الأرض فسادا، لم يسلم منها شيء، وسيكون مسار اعادة الاعمار من المسارات الشاقة، لذلك تفرض مسألة الاعمار نفسها بحيث يجعلها الأمر الواقع ذات أولوية قبل الكلام عن أي عمليات تنموية تستهدف التطوير والنهوض، من هنا لا يجب أن تستنزف جهود العمل المؤقت في قضايا التنمية والتطوير مما يعتبر مهمة مستقرة لمؤسسات الدولة والمجتمع الأهلي فيما بعد مرحلة اعادة الاعمار، وليس من الانصاف في شيء أن يسأل المجلس المؤقت عن قضايا تتجاوز إدارة الأزمة، أما الحكومة المؤقتة فليس من مهمتها التخطيط للتنمية، بل يجب أن لا يتجاوز دورها مهام ومشاريع إعادة الاعمار، كمرحلة تمهيدية للحراك التنموي الشامل الذي يتطلب تضافر التشريعات التي لا يملك أحد اصدارها سوى السلطة التشريعية الطبيعية والمنبثقة عن سيادة وطنيةطبيعية بالانتخاب، وهي غائبة عن المشهد في هذا الطور، بل حتى مهمة اعادة الاعمار ستحتاج لخطة ستتجاوز مشاريعها وبرامجها المدى الزمني المفروض للمرحلة المؤقتة، وذلك بسبب ضخامة حجم الدمار الذي احدثته مليشيات سلطة سبتمبر.  

·        المسار التشريعي
من المعلوم من الاجتماع الإنساني بالضرورة حاجة أي هيئة اجتماعية لعقد اجتماعي، يستند إلى وجدانها وينبض بهمومها، وتستند عليه كل الفعاليات والمناشط والعمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،و ليس شيئ من ذلك إلا وهو محتاج لشرعية يستند إليها ويستمد منها مبرر وجوده وقبوله، وهذه الشرعية لابد من تأطيرها وتجسديها من خلال مؤسسات دستورية، سواء في المجال والمستوى التشريعي أو التنفيذي أو القضائي، أما الأوضاع اليوم فكلها أوضاع استثنائية طارئة، وليس لأي شيء فيها وضع دستوري يمنحه السند الشرعي الدستوري الكامل واللازم لممارسة أي سلطة من السلطات التي لا تصدر إلا عن مصدر واحد وهو سيادة الشعب، لذلك تتجلى محددات دور ومهمة المجلس الانتقالي والحكومة الانتقالية المرتقبة، فهو مجلس ذو صلاحيات محدودة بحدود الظرف الطارئ، وليس سلطة عامة طبيعية، هذا من جانب، ومن جانب أخر يدرك الجميع الظرف الذي يكتنف المسار التشريعي، فهو يفتتح ولأول مرة في ظل أوضاع انتقالية عقب مرحلة من الاستبداد والفساد، وتهميش كل القوى الاجتماعية مما مارسته سلطة سبتمبر على مدار عقود أربعة، فلا مؤسسات مجتمع مدني ولا أحزاب سياسية يمكن أن يعول علي قدرتها على بلورة برامج ومشاريع سياسية، وبدائل وحلول عملية وعلمية مناسبة لمشاكل الواقع المتشابكة والمتجذرة ومتعددة المناحى، الأمر الذي يجعل السؤال المنهجي يطرح نفسه:
ما هو المسار التشريعي الأكثر مناسبة وملاءمة للحالة الليبية اليوم؟ كيف نستأنف الحياة الدستورية وكيف نؤسس أطر السلطات العامة للدولة ومؤسساتها الدستورية وإداراتها العامة؟ كيف نحدد إحداثيات نقاط التوازن بين المجتمع الأهلي المتمثل في الجمعيات والنقابات ومجموعات المصالح، والمجتمع السياسي المتمثل في الأحزاب السياسية والإدارة العامة، والمجتمع الاقتصادي المتمثل في السوق؟.

نجد انفسنا أمام تراث تشريعي زاخر بالبدائل، مما يعني أن هناك أكثر من أجابة ممكنة، ولاتوجد اجابة واحدة على سؤال البديل الدستوري المطلوب، ومن هنا نطرح تصورنا للمسار التشريعي ضمن نظرة تدور على رحى الواقعية والمثالية، فلسنا ننزع نزعة تجريدية، فبدافع المثالية نرفض النزعة الفردية، ونتطلع إلى نموذج القيادة الجماعية، وهنا تدخل على خط التفكير الناحية الواقعية العملية التي تراعي الهدر في الكلفة والوقت والجهد في بلورة واتخاذ القرار السياسي.
ومثاليتنا تجعلنا نتمسك بالدافع الأساس لانتفاضة فبراير والمتمثلة في استرداد الشعب بنفسه لزمام المبادرة من ايدي سلطة سبتمبر، واسقاط شرعيتها التي كانت تستند إليها، والشعب نفسه من نفسه الذي بادر إلى استرجاع زمام الأمور وليس تمكينا من أحد أخر سواه، فهي ليست منحة ولا عطية من أحد، بل من عرقه وجهده وجراحات أبنائه وارواحهم ودمائهم ومواكب الشهداء من الرجال والنساء والكبار والاطفال، الجميع شارك في دفع فاتورة الخلاص، وهذا يجعلنا نقول للجميع: يا أيها الناس لا تقدموا بين يدي الشعب الليبي في أي توجه سياسي أو حضاري أو اجتماعي أو اقتصادي فتحبط مساعيكم، وليكن لنا في ما آلت إليه ىسلطة سبتمبر موعظة حسنة لمن كان له قلب وعقل رشيد، لأن الشعب سوف يستأنف الحياة الدستورية وينفخ من روحه في مؤسساته فيبعث فيها الحياة الشرعية، فتعمل حين تعمل وهي تستند إلى ركن شديد من التفويض والتكليف الشعبي المستند إلى السيادة الوطنية المسترجعة، ومصدر السلطات والوليات العامة الأوحد، فتصبح مسؤولة أمامه في كل التفاصيل، هذا أساس العقد الاجتماعي الجديد.
كذلك تجعلنا مثاليتنا ننظر بارتياب إلى خطورة تكرار صيغة التفرد فنردد مع شوقي قوله: عهد الفرد يا فرعون ولىوكي لا يتكرر ما حدث في الماضي، نبحث عن الضمانات اللازمة لتأطير السلطة وتنظيمها، وحفظها من الفلتان والخروج على مشروعية الشعب، والاستبداد بالأمر دونه، والافتتات على حقه وقراره، ولكن الواقعية تحول بيننا وبين الغلو في النزعة المثالية التجريدية فلا نخرج منها إلى  درجة الطوباوية الحاملة، من هنا نجد أنفسنا نبحث عن الأنموذج المناسب لنا من الناحيتين المثالية والواقعية كلاهما دون طغيان إحداهما على الأخرى فتميل الدولة كل الميل.
وعلى الرغم من كل شيء فلن نزعم أن وضع التصورات الدستورية يمثلا خرقا على غير منوال مسبوق، كلا!!، ليس وضع وثيقة الدستور باكتشاف للعجلة من جديد، بل أنها صارت أقرب إلى العمل الثقافي السياسي الإجتماعي أكثر منها عملية صناعة تخصيصة قانونية، لقد شاعت النماذج المعروفية لإدارة السلطة العامة، ونضجت صيغ تأطيرها وتشكيلها، وتقف البشرية اليوم أمام نماذج رئيسية ثلاثة، يطلق عليها تجاوزا طرفين ووسط، الأول نموذج النظام البرلماني وهذا يتطلب بنية تحتية سياسية تتمثل في وفرة أحزاب سياسية فاعلة ونشطة وقادرة على التنافسية السياسية بشكل مناسب لطرح بدائل سياسية تمكن الناخب من المفاضلة بينها، أي مناخ من التعديدية السياسية الحقيقة وليس الشكلية، ولكن مخطر غياب مثل هذا المناخ وغياب مثل تلك الاحزاب سيبطل فلسفة هذا النوذج، وسيحيله إلى مجرد صفقات سياسية بين أطراف اللعبة السياسية، وستتحكم اقليات سياسية في اغلبيات نسبية غير قاردة على حسم التنافسية لصالحها وفشل محاولات تشكيل حكوامات اغلبية، الأمر الذي سيدفعها إلى أن تحاول تشكيل حكومات ائتلافية، وهنا تقع تحت طائلة الابتزاز السياسي لاحزاب قد لا تملك أكثر من خمسة أعضاء في البرلمان، وعلى الطرف الأخر نموذج النظام الرئاسي، وهو في الغالب النموذج الأكثر استفزازا للذاكرة الجمعية في عقب تجربة سلطة سبتمبر الاستبدادية التفردية، فبدون شك هذا النموذج ينطوى على قدر ملموس من الاستفزاز النفسي لوجدان الشارع، أما واسطة النموذجين فقد يكون نظام دستوري—برلماني في جوهره لأن الحكومة مسؤولة أمام الجمعية الوطنية- بسلطة تنفيذية مزدوجة الرؤوس، وقد تتطلب ملابسات الحالة الليبية ذات الحساسيات الخاصة بالاضافة إلى هذا التوجه الدستوري نوعا من الدعم أو التلقيح أو المزاوجة بينه وبين نموذج أخر يكمل جانبا من النقص الأساسي فيه.

نموذج النظام الدستوري بسلطة تنفيذية مزدوجة الرؤوس
لسنا نبحث عن إبرة وسط كوم من القش كلا!، الأسئلة التي تشكل نقاط دستورية فارقة بين التوجهات محدودة، ولا وقت لدينا كثير كي نضيعه في الحور والكور والابداء والإعادة، بل تلزمنا مقتضيات الصراحة وتوفير فضل القول بأن النقاط محل الاختلاف تكاد تكون محصورة في التالي:
·        هوية الدولة : هل ليبيا دولة اسلامية أم دولة علمانية؟
·        مرجعيتها الدستورية السامية : هل نقر بأن الشريعة الاسلامية المصدر الأساسي للتشريع
·        مسؤولية الدولة الاجتماعية : هل للدولة مسؤولية اجتماعية، تلزمها بتحمل أعباء ميزانيات القضايا الاجتماعية من مثل الضمان الاجتماعي والصحي، والحد الأدنى للأجور، والفقر، والسياسات والتوجهات التشريعية الداعمة للعدالة الاجتماعية ؟ أم هي دولة ليبرالية تعتمد نهج اقتصاديات السوق، تخضع للتنافسية والربحية؟
·        النظام العام : قائمة القيم والشروط والمعايير والقيود المتوافق عليها شعبيا، مما يؤطر نشاطات الحياة العامة، وما يجري فيها من الفنون والآداب والابداع والنشر والاعلان، كما تعرف قائمة الحريات المعتبرة وأسسها، من أي تستقي وما هي آلية وضعها وبلورتها والتوافق حولها؟
·        البنود والقضايا التي لا يجوز دستوريا تغييرها أو تعديلها أو الغائها أو اجراء استفتاء عام حولها، وهي عادة تمس هوية الهيئة الاجتماعية ومرجعيتها العليا، وكل ما من شأنه المساس بسلامة التراب الوطني
هذه هي النقاط الفارقة الحاسمة، ومحل الاختلاف في اسلوب إدارة الدولة، وهي قضايا كان يدور الخلاف حولها تحت مظلة مرجعية حضارية واحدة قبل أن يحدث الانقسام تجاهها في الشارع السياسي للمرة الأولى مع وصول طلائع سفن حملة نابليون بونابرت على مصر منذ مئتي عام تقريبا (1798م )، مما أحدث استقطابا حادا وشرخا عميقا في الشارع السياسي مع انطلاق تجربة محمد على باشا كتجربة رائدة لنموذج فلسفة الحكم تستمد قيمها من منظومة حضارية غريبة، غير المرجعية الحضارية للمجتمع، تم استناسخة في بقية الأقطار شرقا وغربا في الاقطار التي كانت تحت الدولة العثمانية قبل تفكيكها، عشية رحيل الاستعمار الغربي المباشر ونشأة الدول الوطنية، وكيف كانت التوجهات تفرض تحت فوهات البنادق، فلم تتح أي فرصة للشعوبها أن تنشأ فيها الدولة نشاة ديقمراطية سليمة وبدون أي إستثناء، بل كانت تصادر إرادة الشعب في كل تجربة، ويتم الإلتفاف عليها بطرق مفضوحة مكشوفة، والعامل المشترك بينها جميعا هو تغييب الشعب ومصادرة حقه وحريته، وتزييف إرادته عبر قيادات منتقاة ببالغ الدقة والحذر، ولم تكن الشعوب لترضخ إلأ مرغمة مسلوبة الإرادة قليلة الحيلة، حتى جاءت الثورات المباركة مع ملطع العقد الثاني في هذه الألفية عن يمينا وشمالنا لتصحح الأوضاع ولتفرض لأول مرة في عالم السياسة ما يعرف باسم ( أجندة الشارع )، التي استهدفت بها الشعوب استرداد زمام المبادرة، والخلاص من مظومات الاستبداد، وهي تجربة غير مسبوقة، ولا يجب أن يتكرر نفس الخطأ، وينبغي رفض أي محاولة مشبوهة لفرض أي نوع من الوصاية على إرادة الشعب، مما يستلزم يقظة ووعي وحضور وجاهزية لفرض أجندة الشارع، ورفض أي بديل عن حق الشعب في الاختيار الحر والتقرير وامتلاك الكلمة الأولى والأخيرة في كل أمر يتصل بالشأن العام، خاصة فيما يتصل بطور التأسيس الجديد.
أما بقية الأفكار الدستورية من مثل الشعب مصدر السلطات العامة، والسيادة ووحدة البلاد، وكون طرابلس العاصمة الأبدية، وفصل السلطات، والحريات العامة، والمساواة وتكافؤ الفرص، وتأسيس الحقوق والواجبات على قاعدة المواطنة بين الرجال والنساء، والتداول السلمي على السلطة، والتعددية السياسية، فهي بديهيات لا خلاف عليها كبير، وليس من العقل أن يدعى أي أحد أنه سيكتشفها من جديد!، بل قد لا تحتاج مزيد من الوقت والجهد كي يهدر في اجترارها وتكرارها، لا يتوقع أن هناك من لديه خرق فيها، وحتى ما يطرأ على بعض جوانبها من خلاف بين التوجهات المحافظة والتوجهات المتحررة يكاد يكون محصورا جدا، بل يكاد يكون التوافق حولها هو الأغلب السائد.
أما نموذج النظام الدستوري بسلطة تنفيذية برأسيين فيجسده النموذج الفرنسي، وهو نظام برلماني في جوهريه لأن الحكومة مسؤولة أمام الجمعية الوطنية، وذلك من خلال مناقشة برنامجها وسياساتها العامة، فإذا ما تم رفضها فتضطر الحكومة حينها أن تقديم استقالتها للرئيس، على الرغم أن الرئيس هو من يختار رئيسها ويعتمد اعضاءها الذين يختارهم رئيس الوزراء، إلا أنها – أي الحكومة- يمكن أن يكون بمقدورها أن تأخذ جزء مهم من قوته –أي الرئيس- وأحيانا يصل بها الأمر إلى حد المشاركة أو المعايشة (Cohabitation) على قدم المساواة وتقيد إرادته، عن طريق الأغلبية البرلمانية إن لم تكن من كتلته، أما السلطة التشريعية فهي تتكون من غرفتين الجمعية الوطنية، التي تنتخب عن طريق الانتخاب المباشر، ومجلس الشيوخ الذي ينتخب عن طريق الانتخاب غير المباشر، والذي يعنينا في الحالة الليبية منها هو وجود أكثر من طرف في السلطة التنفيذية، ووجود أكثر من طرف في السلطة التشريعية، حيث يأخذ رئيس الوزراء جزء من سلطة رئيس الدولة، فهو من يدير الحكومة في اعمالها اليومية، وهذا يخفف من تدخل رأس الدولة في تفاصيل الحياة السياسية اليومية، وهذا قدر من الحد من سلطة رأس الدولة يدور حوله الكثير من الأسئلة ونوع من التحفظ في وجدان الشارع الليبي، فعن طريق الأغلبية البرلمانية يمكن أن تصير تصرفات الرئيس مقيدة، وهنا يبرز دور رئيس الوزارة كشريك له أهميته ودوره، كل ذلك يتوقف على علاقة الرئيس بالاغلبية البرلمانية.
كل ذلك يستهدف اقصى مدى من العقلانية البرلمانية (rationalized parliamentarianism)، التي تعمل بكل اصرار على تأطير السلطة من جانب، وتوفير فضاء من المرونة الازمة للجانب العملي لممارسة السلطة وعدم تعطيها، أو القضاء عليه وتفريغها من مضمونها.
وبدون شك يكمل هذه النزعة العقلانية تفاصيل تتناول المجلس الدستوري ووظيفته، والمجلس الاجتماعي والإقتصادي والبيئ، ومجلس حقوق الإنسان والحريات العامة.
أما على مستوى استصدار القوانين والتشريعات فإن الشعب يمكنه في النوذج السويسري أن يشارك في اقتراح مشاريع تشريعات، كما يمكنه الغاء بعضها عبر آلية المشاركة المباشرة وهذا ما حدث تماما في قضية قانون منع المآذن الشهيرة.
وبالتأكيد عندما نتحدث عن النموذج الفرنسي للنظام السياسي، فنحن لسنا دولة استعمارية مثل فرنسا لننقل البنود التي لها علاقة بالمستعمرات، ولسنا دولة علمانية لنعرف دولتنا بأنها علمانية بل نحن دولة اسلامية مرجعيتها السامية ونظامها العام مبادئ شريعة الاسلام، من خلال نموذج وسط من الديمقراطي الاجتماعية، فلا نحن بالذي ننحاز للمحافظين في طرف الطيف السياسي ولا بالذي ينحاز إلى الليبراليين في الطرف المقابل منه.
ونحن إذ نقدم هذه الرؤية لسنا نقصد أن نقدم بين يدي الشعب الليبي، ولا أن نرفع صوتنا فوق صوته، بل ندرك أن هذا المسار ينبغي عدم القيام بأي خطوة عملية فيه حتى تتم عمليات تفكيك منظومة الاستبداد، وتنجز المصالحة الوطنية، وتنتخب الهئية التأسيسة بشكل مباشر من الشارع، وفيها فقط تتم عملية تداول هذه الأفكار وفرزها وبلورة الأصلح والأنسب، ثم صياغة نسخة الدستور المطلوب وعرضه للإستفتاء العام كي يتحول إلى وثيقة عقد اجتماعي دستوري سارى المفعول، أما قبل ذلك فليس هناك ما يلزم الشعب أو يفرض عليه ماذا يقول وماذا يختار، وكل من يتوهم أن بمقدوره أن يفرض أي توجهه أو لون على الشعب فهو دون أي شك واهم وهما كبيرا لا يقل في شيء عن أوهام سلطة سبتمبر.
فنحن نقف عند مفترق طرق بين توجهين في الاختيار، وما نتمسك به اليوم هو حق كل مواطن أن يقول ما شاء وأن يعبر عن رأيه، والمعيار في نهاية المطاف واحد وواحد فقط وهو وجدان الشارع وضمير المجتمع، فهو المسطرة الوحيدة، وصاحب السيادة الوحيد من له الحق في تقرير أي الاختيارين يريد وأي السبيلين سيسلك!.
ويجب أن نقبل بالتحاكم إلى رأي الشعب إن كنا فعلا نؤمن بشيء اسمه الديمقراطية.   
·        مسار النهضة الشاملة
مسار النهضة الشاملة يمثل مسار العبور من حالة الانتفاضة إلى حالة الدولة، مما يستلزم جهودا تأسيسية ضخمة، وبناء البنى التحتية اللازمة لقيام نهضة شاملة، وهذا يعني تفجير كل الطاقة الكامنة في ضمير المجتمع، واستفزاز قدرات أبنائه، والزج بهم وسط معمعة معتركات النهوض، لاستئناف جولة حضارية جديدة.
مسار صناعة شعب جديد على المستوى النفسي والذهني والاجتماعي والسلوكي، وهذا يستدعي نظرية وانماط تنموية جديدة، مطلوب من أبناء المجتمع رجالا ونساء أن يأخذوا على عاتقم مهمة ابداعها، وتنفيذها والسهر على انجاحها وحمايتها، جنبا إلى جنب.
وهذا المسار من رؤيتنا بدون شك يتلطب دولة دستورية، تكون قادرة على تنسيق جهود أبناء الشعب جميعا، ولا يتصور أن هناك طرفا لوحده دون سواه لديه كل الاجابات والحلول والبرامج والمشاريع التي ستحدث النهضة المطلوبة، و لا هو من مهمات الترتيبات الظرفية المرحلية الراهنة التي اوجدتها حالة الطواري، ولا يدخل ضمن نطاق ما هو مطلوب من المجلس الوطني المؤقت، أو المكتب التنفيذي لإدارة الأزمة، وينبغي عدم محاولة اجتزاء أيا من ترتيباته أو تجهيزاته تحت أي ذريعة كانت، لأنه سيحتاج لقرار سياسي سيادي لا يملكه أحد سوى مؤسسة يفرزها انتخاب عام، ومشورع شراكة وطني واضح المعالم يشارك الجميع في بلورته وصياغته وتنفيذه.
هكذا تلوح لنا الأمور في الأفق الليبي الجديد... وهكذا هي رؤيتنا للمرحلية لبلادنا ليبيا .... دون أن يكون في حساباتنا أي نوع من الإقصاء لأي مواطن ليبي مهما اختلفت وجهة نظره مع ما تقدمنا به بين يدى أبناء شعبنا، لنستحث فيهم الهمم لضرورات التجهيز للقادم من الأيام، كي لا نقع في مأزق الغثائية والهامشية وضعف الفاعلية، ولا تحسبوا أنها أحلام لا رصيد لها من وقع!، ولا تظنوا أن أجل ذلك بالبعيد!، مهما توهمت سلطة سبتمبر أنه ما يزال لديها المزيد من الفرص وقد استفذتها جميعا الفرصة تلو الأخرى ونفد الوقت وانتهى الدرس ووصلنا لها القول على إثر القول، واعذرنا فيها إلى الله بالنصح وتجنب الولوغ في الدماء وتعظيم حرماته، ومهما اقتطعت من الوقت معتمدت على ما لديها من مخزون ذخائر وعملة تمكنها من استأجر المرتزقة وشراء بعض الذمم الرخيصة، فهذا لن يغير في واقع الأمر شيئا على الاطلاق،لأن الحقيقة الماثلة للعيان وفق القوانين والنواميس الربانية الكونية الاجتماعية تقول :
سيبقى الشعب وترحل سلطة سبتمبر، وإن موعدها الصبح بإذن الله!! اليس الصبح بقريب؟
المستشار السياسي
5 مايو 2011م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق