الثلاثاء، 24 مايو 2011

محمد عمر الشيباني : يا أيها الليبيون



هنيئا لكم تاج الحرية، وقصر الدولة
فأحرقوا خيمة الراعي، وكسروا عصاه على مؤخرته، ثم ادفنوه في رماد جماهيريته اللعينة.

دأبت ثقافة الطغيان والاستبداد التي حكمتنا العقود الطوال على ملاحقتنا في كل مكان، حتى سدت علينا كل منفذ، وأوصدت في طريقنا كل باب، مستكثرة علينا نعمة العقل التي نميز بها بين النور والظلام، وبين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وذلك في مسعى منها لمسخ عقولنا حتى نفضل خيمة راع واهية، وعصا متمرد خرج من حلكة ليل على قصر دولة منيف، وتاج ملك تقلده في ألق الضحى وفق دستور ارتضاه الجميع.
برغم أن معمر القذافي قضى معظم عمره متربعا على كرسي حكم بلد لا يسمح لأحد أن ينازعه فيه، كما كان طيلة كل تلك السنين المالك والمتصرف الأوحد في بحيرة ليبيا النفطية، وهو ما يعني أن هذا الرجل عاش سنوات شبابه وكهولته وشيخوخته ملكا متوجا ليس لسلطانه حدود، وثريا ليس لثرائه وبذخه حدود. برغم كل ذلك فإن القذافي، منذ أن يوم ابتلائنا به، وحتى خطابه الناري المشهور، يصر على استدعاء عناصر البيئة البدوية، من مثل الراعي والخيمة والعصا، وحتى القبيلة، ويجعلها أسلحته في سلمه وحربه؟

قد يقول قائل إنه رجل بدوي يشده الحنين إلى بيئته البدوية، وحليب نوقها التي يصر أحيانا على اصطحابها معه في زياراته الرسمية الدولية، وهو أمر قد يصدق في شأن شخص يعاني البعد والحرمان من بيئته البدوية، أو في شأن شخص يخاطب أناسا لا يعرفون البادية أصلا، ويجهلون مفرداتها وثقافتها. ولكن الكل يعلم أن القذافي يمرح في بيئته البدوية، كما أن الناس الذين يتعمد القذافي مخاطبتهم بلغته البدوية المشحونة تعاليا، والمشبوهة غاية وقصدا، معظمهم إن لم يكن كلهم، هم أهل بادية، أو أنهم ذوي عهد قريب بالبادية وبؤسها، وبأن غاية ما يطلبه أكثرهم، ممن كابدوا  البادية وويلاتها، هو الفرار من البيئة البدوية وهجرتها، دليل ذلك موجات الهجرة التي لم تنقطع حتى حينه من المناطق البدوية إلى المناطق الحضرية. بل إن الكثير ممن أنعم الله عليهم بالإقامة في المدينة لا يذكرون البادية وبؤسها بخير، ويذهب بعضهم إلى نكران أنه بدوي أصلا.

أجل تعمد القذافي وبوضوح ظاهر رفع شعارات البداوة والتلويح بها، وكان من بين هذه الشعارات ذلك الشعار الذي شحنه الطاغية المستبد بنار حقده، وألبسه أثواب وسفهه ورعونته، وتعمد أن يصفع به، وجوهنا، ويفقأ بها عيوننا، ويطحن بها مشاعرنا، ويسد علينا كل طريق مذكرا إيانا بأن عصا الراعي قد كسرت تاج الملك، وأن خيمته المتخلفة انتصرت على القصر، وبأن هذه العصا وتلك الخيمة ستلاحقان كل من يخرج عن إرادة الزعيم الأوحد، ورسول الصحراء الأمجد، فتضعه تحت كلكلها.
 ربما يظن بعض البسطاء أن مفردات كل من الملك والتاج والقصر التي تضمنها هذا الشعار تتعلق بالعهد الملكي ومقتنياته، غير أن واقع الحال يؤكد لنا أن ما يعنيه هذا الشعار شيئا آخر غير العهد الملكي ومتعلقاته. ذلك أن العهد الملكي كما يعلم الجميع تم القضاء عليه وإسقاطه سريعا، وأصبح في خلال ساعات عهدا بائدا، فر صاحبه وتنازل عنه وكيله، ولم يكن يشكل أي خطر يستوجب الملاحقة والمحاربة على مدى العقود بالشعارات النارية المزروعة في الشوارع والميادين والجامعات والمدارس، بل وحتى المستشفيات ورياض الأطفال.
إن مفردات الملك والتاج والقصر التي يفتخر رموز النظام الجماهيري الفوضوي بتحطيمها وإزالتها ما هي إلا رموز التحضر والمدنية التي أحرزها مجتمعنا الليبي في مدة وجيزة من عمر الاستقلال، والتي حاولت خلالها الدولة الليبية الناشئة بفضل حسن إدارتها للموارد النفطية، على شحها، من الخروج من حالة البداوة وثقافة الرعاة ومفرداتهم إلى أفق المدينة وعالم التمدن والتحضر الذي دشنه العهد الملكي، وذلك بغض النظر عما كان للنظام الملكي من سلبيات ومثالب لا يخلو منها أي نظام حكم ناشئ.
لقد عمل رموز النظام الجماهيري الفوضوي الملوحين بالبداوة، والحاملين لشعار تغليب عناصر التخلف على عناصر التحضر،  ومنذ السنين الأولى للانقلاب على تحطيم كل عنصر من عناصر الدولة المتحضرة الحديثة، بدءا من النظام السياسي الحديث الذي كان قائما، والذي اتخذ من الأنظمة المدنية السياسية السائدة مثالا يحتذى، وانتهاء بالعناصر والأدوات الحضارية الأخرى، ولو كانت تلك العناصر الحضارية مجرد آلة موسيقية، أو حتى لغة أجنبية.
ولكن لماذا ينهج معمر القذافي وعصابته الثورية الفوضوية المتخلفة هذا النهج، ويعبر عن هواه البدوي الجارف بهذه الحدة والعنفوان؟
تعددت الإجابات عن هذا السؤال وتباينت، ولكن أكثرها قبولا هو ما كان منها منسجما ومعبرا عن نزعات القذافي الشخصية، ودوافعه الغريزية لحكم الناس والتسلط عليهم من خلال تحطيم كل شيء متمدن متحضر جميل في نفوسهم. ذلك أن الإنسان عندما يكون متحضرا متمدنا فإن سقف اختياراته سوف يعلو، وستتوسع آفاق مقارانته، في عالم أصبح كله مضمارا حضاريا مفتوحا، تأخذ فيه كل أمة مسارها الذي يضعها في موقف التحدي من أجل الفوز بكأس التطور وتاج التحضر، وهو ما يتعارض وبكل تأكيد مع ما يريده طاغية كمعمر القذافي يرى في نفسه نصف إله لا يحق لمن يبسط عليه نفوذه أن يرفع بصره فوق الخط الذي خطته عصاه وظللته خيمة الفاتح العظيم.

وللفاتح أيضا قصة أخرى ربما تؤكد ما نحاول إثباته. فكما هو معلوم لم يسمِّ القذافي حركته الانقلابية المشئومة في أيامها الأولى بأي اسم، ولم يكن اسم "الفاتح" الذي أصبح الشعار الوحيد لهذه الحركة موجودا، ولقد كنت كما غيري إبان الأيام الأولى للانقلاب من المتابعين للإذاعة الليبية، فسمعت كلمة الفاتح أول ما سمعت ضمن برقية من برقيات التهنئة المرسلة حينئذ من إحدى المنظمات أو الأحزاب بالمشرق العربي، حيث تطلق كلمة الفاتح ، كما هو معروف، على بداية ومقدمة كل شيء، تبجيلا وتكريما لهذا الشيء، فأطلق مرسل التهنئة، ولأول مرة، اسم ثورة الفاتح من سبتمبر على الحركة الانقلابية، وهو اسم وجد فيه معمر القذافي ضالته، فتبناه منذ الوهلة الأولى، واتخذه عنوانا واسما مميزا لحركته الانقلابية. أشهد وأؤكد على هذه الحادثة، لأنني، وبعد سماعي للتهنئة المذكورة بوقت قصير لاحظت تبني أجهزة الإعلام هذا الاسم، وأصبح اسم الفاتح منذ ذلك الحين علما على حركة التغيير السياسي الجديدة. وليس هذا جديدا على ثوار الشعارات النارية، فكما يعرف الجميع أن اسم ثورة لم يطلقه ثوار يوليو المصريينـ المدشنون لعصر الحركات العسكرية في الوطن العربي، على حركتهم العسكرية، إلا بعد أن عثر عليه أحدهم، وربما صدفة، في أحد المقالات اليومية السائرة للأديب طه حسين.
إن كلمات، من مثل الفتح وكسر التاج وتحطيم القصر وعصا الراعي وخيمته وغيرها من كلمات مشحونة غلا وحقدا وكبرا، من شأنها أن تيسر علينا فهم ما يقوم بفعله القذافي وعالته وأعمدة حكمه، سواء كان ذلك في أيام سلمهم، عندما أباحوا لأنفسهم فعل كل شيء، وتصرفوا في مقدرات بلد بكامله بسفاهة منقطعة النظير، وحجروا على عقول الناس، واستباحوا حريتهم في التفكير والتعبير، أم في أيام حربهم حيث الحرب منعدمة الأخلاق، الخارجة عن كل ميثاق.
ولا يمكن أن يفعل ذلك إلا من تفاخر بانتصار الخيمة على القصر، وتباهى بتحطيم عصا الراعي تاج الملك، وسفه كل قيمة، وحقر كل مقدس، وهو ما فعله معمر القذاقي بشهادة الناس أجمعين.
محمد عمر الشيباني
aa100zz1000@yahoo.com

 info@jeel-libya.net      
 Info@brnieq.info

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق