السبت، 14 مايو 2011

إبراهيم محمد طاهر : ما هي الشرعية الثورية؟


 الثورات الشعبية الحقيقة دائماً ما توصف بأنها (خلاقة)، وإن كان هنالك خلطٌ في ما تكشفه الثورة من إمكانيات وقدرات مدفونة، وبين ما تخلقه الثورة بالفعل، فإن مبدأ الشرعية الثورية هو بلا شك من خلق الثورة، يقترن وجوده بوجودها، ولا يقوم بسواها... ولكن، ما هو مفهوم الشرعية الثورية؟ ما هي حقيقة هذا المبدأ الخطير الذي يحمل في يمينه مفاتيح باب الخلاص من الظلم، وفي يساره أقفالها؟


 شرعية الشرعية الثورية.
  مبدأ الشرعية الثورية ليس مبدأً خاصاً، بمعنى أنه لا يخص جزئيةً مُعينة، ولا يختص به فرد أو كيان مُحدد؛ فهي (فكرةٌ عامة) تشمل كامل الثورة، ولا يجوز لأي جهة أن تحتكرها وتدعيها لنفسها حصرياً.

    الشرعية ببساطة تعني الإباحة، فإما أن تتصف بها أفعالٌ مشروعة أصلاً، أو أن تتصف بها أفعال غير مشروعة ولكن بسبب الظروف الاستثنائية تتم إباحتها؛ كأن نقول بأن العنف في الدفاع عن النفس هو أمر مُباح، فيصبح اسمه الدفاع الشرعي. وكما هو الحال في المثال السابق، فإن هذه الشرعية تكون مرتبطةً بظرفٍ طارئ؛ فالشرعية الثورية تعني حق الشعب في الدفاع عن نفسه ضد ظلم الحاكم، وبسبب هذا الظلم والطغيان يكتسب الشعب الحق في الثورة، وهذا هو مفهوم الشرعية الثورية: الحق في قيام ثورة. وعليه، فإن الشرعية الثورية ترتبط بقيام الثورة بسبب الظلم، وتنتهي بانتهاء الظلم، فهي حالة استثنائية تنتج كرد فعل على ظرف طارئ وتنتهي بانتهائه. وللمزيد من التوضيح: نجد أنه لا يجوز لشخص دافع عن نفسه في اعتداءٍ ما بدأ وانتهى، أن يستمر في استخدام العنف لسنين بدعوى الدفاع الشرعي، فالخطر زال، والاعتداء انتهى، فضد من يدافع عن نفسه؟! كذلك هو الحال مع الشرعية الثورية، تبدأ بالانتفاضة، وتنتهي بالنصر، ولكنها، كغيرها من أسباب الإباحة الاستثنائية، تبقى حقاً يمكن إعادة اكتسابه في حالة تحقق شروطه وضوابطه، بنشؤ الحاجة للثورة.



الشعب، لا الأفراد ولا القيادات، هو من يريد إسقاط النظام.
   ولأن الشرعية الثورية تعني في أساسها (حق الشعب في أن يثور على الظلم)، فهي حق خاص بالشعب، لا يمتلكه إلا الشعب كاملاً، فحتى حين نفكر في مفهوم الثورة، فإن أول ما يخطر على بال أحدنا هو: الثورة تعني الشعب، إنها حقيقة إنسانية لا تقبل النقض. وبما أنه حق خاص بالشعب فقط؛ فلا يجوز لأي فرد أو كيان أن ينسبه لنفسه. لنعد إلى مثال الدفاع الشرعي: الشخص الذي يمتلك حق الدفاع الشرعي هو الشخص الذي يتعرض مباشرةً للخطر، فهل من الممكن أن يدعي غيره بأنه يتملك حق الدفاع الشرعي؟! لا يجوز إطلاقاً أن يدعي أحد أن له حق في أي نوع من أنواع الشرعية إذا لم تتوفر له شروطها؛ فكيف يمكن لرجل أو مجموعة بأن ينسبوا حق شعب كامل لأنفسهم؟ الحقيقة هي أن الشرعية الثورية لا يمتلكها إلا الشعب كاملاً، وأما البقية الذين يَدَّعون لأنفسهم الشرعية الثورية فهم فقط يَستغلون الثورة مِن أجل مصالحهم، ويعتمدون على جهل الناس بمفهوم الشرعية الثورية. وبما أن الشعب وحده يمتلك الحق في الشرعية الثورية، فإن أي جهة تدعي لنفسها الشرعية الثورية هي فقط تقف على رؤوس الشعب، وتدوس على رقابهم وأكتافهم لتصل إلى أهداف ومصالح شخصية محضة.

 من ناحية الأفراد، فلا يمكن لأي فرد أن يَدَّعي الشرعية الثورية مُنعزلاً؛ فأي شخص يمنح نفسه هذه الشرعية إنما ينفصل عن الشعب من أجل استغلاله. اتهامٌ قاسِ، لن أُنكر ذلك، ولكن (الفرد) لا يمتلك الشرعية الثورية إلا حين يكون جزءاً من الشعب... حين يكون وسط مُظاهرة حاشدة تفيض عبر الشوارع، أو حين يكون في صفوف ثوارٍ يخوضون عبر جحيم الرصاص على الجبهات... باختصار: حين يخدم الثورة، وليس حين يخدم نفسه.

 عبارة (حين يخدم الثورة) قد تكون غير واضحة، ولكن لهذه الصفة أحكامٌ وضوابط، كوجود تكليف مباشر من الشعب ورضا كامل عن عمل الفرد، فلا يكفيه أن يكون ثائراً أو منتمياً إلى الشعب. فمثلاً، حين يُكلف شرطي بمداهمة منزل وإلقاء القبض على مُتهمِ ما، فإن تكليفه الرسمي، بالإضافة إلى صفته، هما ما يمنحانه الشرعية للقيام بأعمال غير قانونية (المداهمة – الاعتداء على أملاك الغير) (القبض – سلب حرية الأفراد) هذه الشرعية يكتسبها الشرطي بطريقة قانونية رسمية، لكنه لا يستطيع أن ينسبها لنفسه فقط لأنه شرطي ولأنه جزء من قوات الشرطة، فإذا قام بأحد هذه الأعمال وهو خارج ساعات العمل، أو حتى أثناءها ولكن بدون تكليف رسمي، فحينها لا يتملك هذا الشرطي ذرة شرعية. تماماً كما هو الحال في الثورة، فالمرء لا يستطيع أن يدعي الشرعية الثورية فقط لأنه ثائر أو لأنه شارك في الثورة؛ الفرد يمتلك الشرعية الثورية فقط حين يكون ملتحماً مع الشعب؛ لأن الشعب كاملاً يمتلك الشرعية الثورية.

 أما القيادات والحكومات وغيرها من الأنظمة السياسية أو الإدارية فلا يمكنها (إطلاقاً) أن تكتسب الشرعية الثورية أو تدَّعيها. وإن كان موضوع اكتساب الأفراد للشرعية الثورية قد يبدو غير واضحاً، نظراً لأن الفرد جزءٌ من الشعب، إلا أنني أقول بثقةٍ كاملة بأن القيادات والحكومات لا تمتلك في أي زمان أو مكان صفة الشرعية الثورية.

    وأعيدها من جديد للتأكيد: القيادات والحكومات والأنظمة السياسية لا تمتلك إطلاقاً ميزة الشرعية الثورية. الحكومات التي تتميز بالشرعية إنما تكتسب هذه الشرعية من تأييد الشعب فقط، أي شيء سوى ذلك لا يُعتبر شرعية ولكن اغتصاباً للحكم. أي قيادة، مهما كان دورها، لا تتولى القيادة، ولا تستمر فيها، إلا بتأييد الشعب ورضاه؛ وبالمنطق: الحكومة من المفترض أن تُمثل الشعب، فكيف لها أن تكتسب الشريعة من أي شيء غير الشعب؟!

 الشرعية الثورية تعني الحق في قيام ثورة، ولا تعني الحق في قيادة ثورة؛ فالحق في القيادة، في أي جانب من جوانب الحياة، يأتي من التأييد والموافقة... إلا في العصابات...



استغلال الشرعية الثورية عبر التاريخ.
 ولعلنا نعود إلى التاريخ من أجل أن نستمد بعض الأدلة على فشل استغلال الشرعية الثورية... ربما سنتجنب الوقوع في هاوية تجاهل التاريخ ونتعلم ممن سبقونا...
 بالطبع القذافي لا علاقة له بالثورة (إلا إذا قلنا أنه قام بثورة على الشعب!) ولذلك سنتجاوز مثاله، ونأخذ أمثلة بالفعل ثورية.

لنلقى نظرةً على مصير الثورة الفرنسية. تلك الثورة الشهيرة لم تستقر أبداً، لماذا؟ لأنها كانت تدعي أنها (حكومة ثورية)، تحكم بالشرعية الثورية؛ فتجذرت فيها النزاعات الداخلية، وتفرعت فيها الانقسامات؛ فكل من شارك في الثورة كان يدعي لنفسه الشرعية الثورية! وسرعان ما أمسى الثوار والرفاق أعداءً وخونة، وانتشرت تمسية (عدو الثورة) كالوباء. والنتيجة؟ فشلت الثورة الفرنسية فشلاً ذريعاً، وبالرغم من كل ما حققته من إنجازات إلا أنها علقت في حالة عدم استقرار امتدت لعشر سنوات وانتهت بأن فقد نابليون صبره واستولى على الحكم، وأنهى حلم الجمهورية بإعلانه كابوس الإمبراطورية!

     ولنأخذ أيضاً مثال الثورة البلشفية الروسية. هل تعلمون أن الثورة البلشفية كانت (ثورةً على ثورة)؟ نعم؛ فقد قام الشعب الروسي بثورة (سلمية) أزاح فيها القيصر والحكومة، وتم وضعهم تحت الإقامة الجبرية، وتم تشكيل حكومة انتقالية. ولعل المفارقة المؤلمة هي أن (الرفيق لينين) لم يعد إلى روسيا من المنفى إلا لأن هذه الثورة سمحت له بذاك، فلولاها لظل مفكراً مغموراً في المنفى. وبعد عودته التف لينين على البلشفيين – الذين كانوا طرفاً في ثورة الشعب – وبدأت دعوى (الشرعية الثورية) تنتشر كالضباب في أرجاء روسيا، وقامت (الثورة البلشفية) التي لم تكن ثورةً على القيصر أو الحكومة، بل كانت ثورةً على الشعب؛ فهي كانت ثورة لينين والبلشفيين فقط. والبقية؟ هم فقط أعداءٌ للثورة!

    ولعل المثال الأكثر إرباكاً هو ثورة فيدل كاسترو الكوبية. قبل دخول كاسترو وجنوده إلى كوبا كانت هنالك حركة مقاومة مُسلحة واسعة في كوبا، وبعد أن تولى كاسترو السلطة قام بتكريم الثوار (السابقين) الذين حملوا السلاح وضحوا بأرواحهم من قبل مجيئه، فأعلن موتاهم شهداءً وأحياءهم أبطالاً. وما لبث كاسترو حتى كشر عن أنيابه وهو يردد دعوى (الشرعية الثورية)، وبدأ الاستبداد والطغيان، فكان أول من انتفض ضده هم أفراد المقاومة الكوبية القديمة، فأصبح الأبطال والشهداء (أعداء الثورة)!



    كل هذه الأمثلة السابقة انتقلت من الظلم إلى الظلم بسبب تمسك قادتها، أفراداً كانوا أم جهات، بالشرعية الثورية. فالعجيب كل العجب أن تقوم هذه الثورات من أجل الشعوب ثم تكون الشعوب هي أولى ضحاياها، وأن يستخدم أولئك الناس حق الشعب في الشرعية الثورية كسلاحٍ ضده...



    وإن كنا لا نريد التعلم من هذه الأمثلة التاريخية البعيدة عنا، زماناً ومكاناً، فلم لا نحاول التعلم من تاريخنا المعاصر... معمر القذافي، ولو أنه لم يصل للحكم بثورة، إلا أنه حكمنا بمبدأ الشرعية الثورية لاثنتين وأربعين سنة. كل ما ارتكبه في حق الشعب الليبي من جرائم ارتكبه باسم ثورته الوهمية، كل أسلحته  لإخضاع الشعب كانت الثورية: من فكرٍ ثوري، ولجانٍ ثورية، ومثاباتٍ ثورية، ومنذ 42 عاماً وكل معارض ومُنتقد هو عدوٌ للثورة! فهل سنتعلم من التاريخ؟



فمن يمتلك الشرعية الثورية؟
 لا يجوز لأحد أن تنطق شفتاه بعبارة (الشرعية الثورية)، فرداً كان أو جهةً قيادية؛ فالشرعية الثورية هي نداءٌ شعبي يردده الشعب بصوتٍ واحد، تماماً كما يُردد (الشعب يريد إسقاط النظام).

الشرعية الثورية يمتلكها الشعب الثائر كاملاً، أصحاب هذا الحق هم كل الرجال والنساء، كباراً وصغاراً، الذين سعوا عبر الشوارع يطلبون الحرية، أصحاب هذا الحق هم الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداءً للحرية والوطن؛ فلا يجوز لأي جهة أن تمتطي الشعب كالحصان بدعوى الشرعية الثورية، ولا يجوز لأحد أن يرقص على أضرحة الشهداء بدعوى الشرعية الثورية.



نصيحة الختام.

وأنا أدعو كل شخص يُفكر في أن يدَّعي لنفسه الشرعية الثورية.. كل شخص يتحدى أبناء شعبه بأنه أحق منهم بالشرعية الثورية.. كل شخص يحاول أن يصعد إلى القمة، بعيداً عن الشعب، بدعوى الشرعية الثورية.. أنصحهم جميعاً بأن يقفوا للحظة.. أن يتريثوا لهنيهة.. وأدعوهم ليفكروا في الشهداء، ليفكروا في الرجال والنساء، في كل الأطفال، كل من قدموا أرواحهم فداءً للثورة، كل من وهبوا أنفسهم ذخيرةً للثورة، كل من كانت أجسادهم جسور الثورة التي نعبر بها إلى النصر، كل من كانت دماءهم وقود الثورة وعطرها... فليفكروا فيهم، فليتخيلوهم وهم يرقدون ساكنين في أروقة المستشفيات، فليتذكروا جنازاتهم المهيبة، قبورهم المُقدسة... هؤلاء الشهداء هم أهل الشرعية الثورية، هم الذين قامت بهم الثورة... ومع ذلك، ومع أنه لا يوجد شخص واحد يستطيع أن يُنكر حقهم في الشرعية الثورية، إلا أنهم ارتحلوا نحو فضاء الخلود في صمت... خاضوا المعركة والكفاح بشرعيةٍ ثوريةٍ مطلقة، ولكن لم ينطق أحدهم بحقه فيها، لم يباهي أحدهم بها، لم يستغلها أحدٌ منهم لمصالحه، لم يضطهد بها أحدٌ منهم إخوانه ورفاقه...

    أدعو كل من يكوي جباه مَن حوله بدعوى الشرعية الثورية بأن يفكر في الشهداء، بأن يتأمل رحيلهم بصمتٍ وقور مع أنهم أسياد الشرعية الثورية... أدعوهم فقط للتفكير في سكينة الشهداء وإخلاصهم الهادئ للثورة قبل أن يفتحوا أفواههم بعواصف ونزاعات قد تؤدي بنا إلى تيهاء مُهلكة...

هناك تعليق واحد:

  1. لقد لفت انتباهي عنوان هذه المقالة وأنا أبحث عن مفهوم الشرعية الثورية في قوقل، وأريد أن أقول تعقيبا أن عنوان المقال يحتاج إلى تعديل ليكون صحيحا بالمعنى الاصطلاحي ومتوافقا مع ما ورد في المقال فالحديث في هذا المقال هو عن مشروعية الثورة أو الثورة الشرعية أو شرعية الثورة وليس عن الشرعية الثورة فهناك فرق دقيق بين المشروعية والشرعية، والشرعية الثورية هي الحق في الحكم بناء على ثورة شعبية.

    ردحذف