الاثنين، 9 مايو 2011

إبراهيم. محمد طاهر : ثورة 17 فبراير: صوت الوجود وهدية الكلمة.



 في بعض الفلسفات الصوفية يُعتبر (الصوت) هو الحد الفاصل بين الوجود والعدم، حيث يرى أصحاب هذا المذهب أن كل شيء حين يدخل إلى عالم الوجود له صوتٌ خاصٌ به، وحتى أكثر الأشياء سكوناً تُصدر صوتاً مميزاً حين تصطدم ببعضها البعض. ومن هنا جاء تقديس الكلمة فهي أعظم الأصوات تطوراً، وهي تلك الجوهر السحري الذي يتكون منه الحديث والحوار.




    وبالفعل، فإن كل شيء يولد من العدم إلى الوجود بصوتٍ مُميز، وكل شيء يبدأ بالكلمة؛ فالكلمة هي مفتاح كل شيء، هي الدعوة إلى الحرية، وهي إقرار الحق، وإثبات الإنسانية... والكلمة – بكل ما لها من بحرٍ واسعٍ من المعاني – كانت إحدى هدايا ثورة 17 فبراير للشعب الليبي. فقد خرج الشعب الليبي من (العدم) بعد 42 عاماً، واستعاد صوته بهذه الثورة ودخل إلى كون (الوجود)، وانهمرت الكلمات من شفاه الشعب: الحرية، العدالة، الديمقراطية، الدستورية، المدنية، الإنسانية، الوحدة الوطنية... وكلهن كلمات نشيد ليبيا...

    منذ أربعة عقود وكل الألسنة الليبية معقودةٌ بالرعب والإرهاب، منذ أربعة عقود والليبيين لا يُسمح لهم إلا بصوت الشخير، منذ أربعة عقود والكلمات الوحيدة المسموح بها هي (نعم) ومرادفاتها... هكذا حكم القذافي ليبيا، كمزرعةٍ كبيرة يحرثها عبيدٌ بُكم.

    وكان من تداعيات انعدام الوجود هذا – هذا البُكم المُفزع وانطباق الشفاه المؤلم – من تداعياته أن أصبح كل من يستعيد صوته خائناً؛ كل من ينطق بحرفٍ واحد في الاتجاه المعاكس هو عدوٌ مدسوس، كل شخص يُعارض الظلم والعذاب هو عميلٌ مُخرب وكلبٌ ضال يعض اليد التي تذبحه! دُفنت الأصوات كلياً، أصبح الشعب الليبي شعباً أخرس، كل من يحاول أن يتحدث أو ينطق كان يُشنق بحباله الصوتية... وهكذا عشنا لمدة أربعة عقود: بلا أصوات، بكلماتٍ تخضع للتحقيق قبل أن تصبح فكرة، ثم تمر على عشر بوابات تفتيش في طريقها من العقل إلى اللسان، وتخرج من بين الأسنان كرأسٍ من بين مقصلة، في ذلٍ وخضوع. وكيف لا وكل كلمة تخرج تحت تهديد السلاح؟ كيف لا وكل (لا) كانت تخرج غارقةً في الدماء، وكل (نعم) كانت تخرج وخلفها مسدس... الأمر يختصره قول أبي العلاء:


جلوا صارماً، وتلوا باطلاً،   وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم!


    ولكن الكارثة الكبري هي أن هذا العدم، هذا الموت الأخرس والدفن في جحيم الصمت، كانت من نتائجه الفادحة أن أمست هذه المبادئ المتخلفة معتقداتٍ اجتماعية. فبعدما أصبح كل الحوار أحكام إعدام، وكل الأصوات همسٌ في صلاة جنازة، تغلغلت هذه القيم السوداء في نخاع المجتمع، وضاعت الكلمة، وضاعت قداستها ورسالتها، ومعها ضاع الحوار وتباين الآراء... أمسينا نؤمن بأن (لا) هي أعظم إهانة على وجه الأرض، وبأن النقد يعني الهجوم والهجاء، وأن الناقد هو بطبيعة الحال خائن، فنسينا أن النقد هدفه التطوير والتحسين، وأن الغاية منه هي الإشارة إلى موضع الخطأ واقتراح الصواب. لم يعد للناقد مهنة بناء، بل أصبح يتسكع في مقالع الحجارة ويقود الجرافات. النقد في أعيننا أصبح سلاحاً فتاكاً (يضرب يعور) بدلاً من أن يفتح أعيننا لنرى الخطأ ونصلحه، أو على الأقل لنرى وجهة نظرٍ أخرى. كل من يقول (هذا خطأ) خائن، كل من يقول (يجب أن نصلح هذا...) يزرع الفتنة، كل من يقول (ماذا لو...) عميلٌ مدسوس... لم يتبقى لنا في ذلك العصر المظلم سوى أن نقول (زيد تحدى زيد...) لكي ننجو بأنفسنا ونعود إلى أمان الصمت. ومع ذلك، حتى مع التأييد والتصفيق، يبقى أي شخص يُصدر صوتاً وينطق بكلمة، يبقى دائماً، مصدر شبهة.

    هذا ما فرضه علينا الطاغية، أرغمنا على رؤية كل شيء بأعينه المجنونة: نرى الحاكم رباً أعلى، ونرى الحكم طغياناًُ وعبودية، والسياسة إجراماً مشروعاَ، نرى النقد اعتداءً، والإصلاح جحوداً، ونبحث عن النعمة في الموت... لم نعد نرى ونسمع كالبشر، أصبح كل شيء مشوَّشاً في عقولنا، وصلنا إلى مرحلة لم نعد ندرك فيها معنى الحرية، وأصبحنا، كما قال تولستوي، نُنكر الحرية كما ينكر الأعمى الألوان؛ لأننا لا نعرف طبيعة الحرية.


    وبعد أن عاشرنا هذا النظام أكثر من أربعين عاماً مُظلماً، بعد أن سكرنا بمعتقداته المسمومة، وأصبح الجهل والتخلف عرفاً وعادة، ها قد جاءت ثورة 17 فبراير كالغيث المبارك لتنقذنا من صحراء الانحطاط، أعادت لنا أصواتنا، ومعهن عاد لنا كنز الكلمة، وبدأت الثورة من أجل الحرية والديمقراطية...

    لقد أعادت لنا ثورة 17 فبراير أصواتنا، أعادت بعثنا بمنحنا صوتنا وأخرجتنا من العدم، ودخلنا إلى عالم الوجود بأصوات الثورة والكفاح. ومنحتنا الثورة هدية الكلمة، منحتها للشعب كاملاً بدون إقصاءٍ أو تهميش. وعلينا أن لا نسمح لذلك الماضي الكريه بأن يُشوه حاضرنا ويحكم على مستقبلنا بالهلاك، يجب أن نترك أصواتنا تحمل لواء الحرية ليل نهار، أن نترنم كل ساعة وكل لحظة بنشيد الديمقراطية، أن نقول الحق ولو كان ذلك مؤلماً، أن لا نكتم العيوب التي نراها لكي لا نضيع ونجد أنفسنا في مقبرة الندم، ويجب أن نسمح لغيرنا بنفس هذه الحقوق، يجب أن نسمح للغير بهذه الحرية بدون أن نتهمهم بالخيانة.

    يجب أن نُثبت للقذافي بأنه فشل في قتل إنسانيتنا، يجب أن نثبت لأنفسنا بأننا لسنا سلالة حكم القذافي، لسنا عبيد القذافي، يجب أن ننسلخ من لعنته، وأن نُثبت للجميع بأننا ندرك ما هي العدالة، نعلم ما هي الديمقراطية، وبأننا نعرف ما هي الحرية وأننا أصبحنا الآن نتملكها، ولن نمنعها على أحد، عهد الموت قد انتهى؛ ولن ننمع أحداً من نعمة الوجود، لن نسلب صوت أحد أو نغتال أفكارهم، ولن نحرم أي شخص من كنز الكلمة وحرية الرأي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق