الأربعاء، 11 مايو 2011

إبراهيم محمد طاهر : تأملات على هامش ثورة 17 فبراير: 3.


يأس



    جاءت الثورة تحمل رسالة الحرية، تُبشر الناس بالحياة، وتتنبأ لهم بالخلاص، وتعدهم بالنصر في مقابل الكفاح...

    انتشر الإيمان بالثورة وبرسالتها، وامتد في شرق الأرض وغربها وجنوبها... ومعه انتشر الكفاح والنضال...


    لكن النصر تأخر... وتسرب اليأس والشك إلى قلوب الناس... وبدأوا يتهمون الثورة بالكذب...



    فقامت الثورة لتجيب أسئلتهم، وتتشجع صبرهم، ولتُذكي إيمانهم بالنصر... ولتُطمئن قلوبهم وقلبها أيضاً، فقالت لهم:  تذكروا، ولا تنسوا قول المولى عز وجل:

 ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ))



*  *  *



وجهات نظر



    قال الثائرُ الأول بقلق، وبندقيته على كتفه:  لقد غرقت الأرضُ بالدماء، وتدمرت البلادُ الحبيبة، وحصد الموت الأحبة... لقد اقتربت الهزيمة... القمع والفشل يخطوانِ إلينا عبر حزن الجثث وألم الوفاة، يحملان إلينا اليأس...


    أحكَّمَ الثائر الثاني قبضته على بندقيته وقال:  لقد ارتوت الأرض بالدماء، وتدمر الماضي الذميم، وحصد الموت ثمن الحرية... لقد اقترب النصر... الاستقلال والحرية يخطوان إلينا عبر مسك الشهادة ونور الفداء، يحملان إلينا الفرج...


    سألت نفسي، ووجدتني أوافق الثائر الثاني، وأرى كما يرى، وتذكرت قول الشاعر:

عسى فرجٌ يكون عسى    نُعلِّـلُ  أنـفُساً بـعسى

فـلا تقـنط إذا لاقَيْـ     ـتَ همَّاً يَقبِضُ النَّـفَسا

فأقربُ مـا يكونُ المر    ءُ مِن فَـرَجٍ إذا أيـسا



*  *  *



مُلك



    خرج الطاغية سراً، وسط مئات الحراس، خلف أسوارٍ متنقلة، في جوف حصونٍ مُتحركة، خرج ليتفقد أحوال الرعية، ليتجول في أنحاء مملكته...

    رأى الموتى والمُشردين، شاهد الدمار والحرائق، فرك من على أعينه رذاذ الدماء، ونفض من أنفه اختناق الرماد...

    ثم انتفش وابتسم... وقال لنفسه راضياً:  هذا هو المُلك الذي أريده، هذه هي المملكة التي ابتغي... مُلك الموت، ومملكة الجثث والرماد.



*  *  *



مبادرات النظام



    كثرت في هذه الأوقات المبادرات التي تدعو للحوار مع النظام: يقترح فيها النظام الهدنة، ويعد بالإصلاح والديمقراطية، ويبكي على الوحدة الوطنية، ويتوعد برأب صدع الفتنة، ويوزع صكوك العفو والغفران...

    تنهمر هذه المبادرات على الشعب كالرصاص، تأتي بكثرة: مرة تأتي بها دول، ومرة يبثها إعلام، وأخرى تُصرح بها منظمات دولية، وغيرها يُعلن في مؤتمراتٍ قبلية...



    كلها تأتي مِن النظام... مَن يقتل الشعب ويُهدده، هو من يدعو لمبادرات حوارٍ وسلام!


    منذ زمنٍ بعيد، سُئل مالكوم إكس عن إمكانية التحاور مع النظام الظالم، فقال: (المرء لا يذهب بقضيته إلى المجرم، بل يذهب بالمجرم إلى المحكمة.)

    فنعم ما قال...



*  *  *



ثأر



    للشعب حقٌ في الثأر، وسيُدركه بإذن الله بعد أن يكتمل له نصره، وتصبح حريته في كف يده... وسيكون هذا الثأر كاسحاً، لا يُغفل أي شيء، سيكون ثأراً عظيماً سيذكره التاريخ إلى نهاية التاريخ...


    سيثأر الشعب للشهداء بحفظ أسمائهم في كل دعوةٍ وصلاة، سيثأر الشعب للشهداء بأن تُصبح دماءهم لغةً رسمية، وقبورهم كنوزاً وطنية.

    سيثأر الشعب من الدكتاتور بالديمقراطية، سيثأر الشعب من الظلم بإقامة العدل، ومن الفوضي بإقرار الدستور وإحلال النظام.

    سيثأر الشعب من الهمجية بالإنسانية، سيثأر من العنف بالسلم، سيثأر من الجراح بالشفاء.


    سيثأر الشعب من الدمار بالبناء، سيثأر من الموت بالحياة، سيثأر من العبودية بالحرية...


    سيثأر الشعب من الماضي بالمستقبل...



*  *  *



اقتران



    وجاءت الثورة ترتدي ثوباً أبيضاً وفي يديها سلاحٌ إجباري.. فتحت زنزانةً انفرادية وأطلقت سراح الحرية والعدالة.


    فخرجت الحرية تركض بحماسٍ واغتباط، وصاحت للعالم:  ها قد جاء أوان الحرية، كل شيءٍ الآن مُباحٌ بالحرية: الحياة والموت، الأخلاق والانحطاط، كل شيء... جاء زمن الحرية المطلقة...

    وخرجت العدالة تمشي باعتدالٍ وهيبة، وصرحت للعالم:  ها قد جاء أوان العدالة، كل شيءٍ الآن مُقيدٌ بالعدالة: الظلم والانصاف، الباطل والحق، كل شيء ... جاء زمن العدالة المطلقة...


    نفض العقل عن نفسه الغبار، ووقف واحتج قائلاً:  لا حرية مطلقة، ولا عدالة مطلقة، فالعالم نسبةٌ وتنساب، والحرية والعدالة مرتبطتان؛ فالحرية بلا عدالة فوضى وضياع، والعدالة بلا حرية اضطهادٌ وسجن... لا حرية بلا عدالة، ولا عدالة بلا حرية، فكلاهما لا يقومان إلا بالتلاحم والاقتران...


    حكمت العدالة بنفسها على العقل بالإعدام، ونفذت الحرية وحدها الحكم... وأمسى العقل قتيل الحرية والعدالة...


    وبكت الثورة...
                                

*  *  *



تفاهم



    قال:  هذا فعلٌ خاطئ...

    فقيل له:  أنت خائنٌ مُعارض...

    قال:  هذا فعلٌ يجب تحسينه...

    فقيل له:  أنت تزرع الفتنة...


    قال:  بارك الله في أعمالكم، وسدد خطاكم، وسرَّع لكم النصر...

    فقيل له:  أنت عميلٌ مدسوس...


    سكت...

    فقيل عنه:  أسكتنا الدخيل!

    فقال في سريرة نفسه: رحم الله خليفة الفاخري الذي قال: (من لم يمت بالسيف، مات بسوء الفهم والتفاهم.)


*  *  *


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق