الجمعة، 15 يناير 2016

عبدالرزاق العرادي : الصادق الغرياني.. رجل يختلف معه لا عليه


يوم العشرين من فبراير تناهي إلي، أن الشيخ سيلقي بيانا في قناة الجزيرة بشأن الأحداث في بنغازي، وأن الاتصال رتب ليكون من بيت الشيخ. سارعت إليه وأقنعته بصعوبة لمغادرة بيته، وتحدث للجزيرة من مزرعة في ضاحية طرابلس.
هذا الموقف يوم العشرين من فبراير 2011 ليس نزهة على شاطئ بثياب البحر الكلتي في يوم صائف. كان والموت سواء، والرجل السبعيني على بعد كيلومترات محصورة من عرين وحش كاسر، قرر أن يحرق الأرض بمن عليها ليبقى هو وكرسيه.


كثيرون ممن تَوَزَّرُوا بعدها، وراحوا ينشرون "فكرهم التنويري" عبر تقاليع موضات الشعر والملابس، أصبحوا يزايدون على الشيخ الذي فزع نصرة لبنغازي.
لم يكن لأمثال الشيخ الصادق أن يصمت، وليس له ذلك بخلق، وقد شاهد الرصاص يخترق أجساد الشباب العزل في مدينة بنغازي. الذين تَوَزَّرُوا من بعد، كانوا يستمتعون بحرية الغرب، ويتلذذون بأكله وشربه ومتاعه، يمارسون هواياتهم المفضلة في انتظار انقشاع الغبار.
الشيخ الصادق ليس كلمة فوارة على مواقع التواصل الاجتماعي، أورشفة من كأس الصبا، أو نشوة تصاب، ممن وَخَطَ الشيبُ رأسه. كلا، كلا. إنه رجل والرجل موقف. وقد كان الشيخ الصادق موقفَ صدق لم تزلَّ به القدم، فيما نحسب والله حسيبه.
كان الشيخ يوم ألقى كلمته الشهيرة على قناة الجزيرة، يقطع الشك بيقينين؛ يقين شعب آثر الحرية على ما عداها، وقرر أن يعطي الثمن من دمائه، لينهي حكاية الاستبداد، إلى الأبد.
ويقين رجل عرف أن لن يزيد الصمت في عمره، لحظة، وسيكون النطق بالحق عمرا مضاعفا يعيشه، وقد كان. حفظه الله. تأتيه المذمة من ناقصين وناقصات.. رحم الله المتنبي.
الشيخ الصادق الغرياني واحد من قلة من علماء ليبيا رفعوا لها صيتا أينما حلوا. وكان اسم ليبيا يتردد معه أصالة في الطرح، ومعرفة باذخة بأصول الدين الإسلامي، وفروع مذاهب الفقهاء. قال عنه الدكتور علي الصلابي أنه " أعلم أهل الأرض في الفقه المالكي والتأصيل بالدليل، ويُعد مرجعاً عند كثير من علماء الأمة، خاصة علماء الدول المغاربية". ويضيف الشيخ عن كتابه مدونة الفقه المالكي؛ "أفضل ما قدم للمكتبة الإسلامية في الفقه المالكي والتأصيل".
اقتبس من مناهج البحث عند الغرب، واطلع على تجارب الحضارة المعاصرة عن كثب. لم يخلب لبه بريق الحضارة، وظل ليبياً متمسكا بأصالته، مدافعا عن حقه في أن تكون له شخصيته الليبية الأصيلة، ذات المعدن النقي. لم يستبدل جلبابا سربله إياه أجداده، ولا كانت له مع سُمَّار الملاهي قهقهة تذهب بباقي رذاذ المروءة. حفظه الله.
الثابت الوحيد في شخصية الشيخ الصادق أنه يقول ما يعتقد أنه الحق الذي أوجب الله عليه أن يقول، يمكن أن يخسر في ذلك، أهله، وماله، وروحه، شيئا من شعبيته، لكنه يرى الأصل ألا يبقى الناس كثيرا مع صاحب الحق الذي يصدح به في كل الأمور.
لشخصية الشيخ الصادق أبعاد ثلاثة لا بد، برأيي، من أخذها في الاعتبار عند الحديث عنه.
الشيخ الصادق محدث، فقيه، متبحر في الفقه المالكي، أصوله، وقواعده، وفروعه. وهو ما يمنحه بصيرة العالم الرباني، ويعزز موقفه بأصالة في الطرح لا تملك إلا أن تحترمها، مهما اختلفت معها. وقد كان يجدر بدعاة الحرية والانعتاق أن يقبلوا رأي الشيخ ولو خالفهم، ولو ضاقوا به ذرعا، فالأحسن أن يكون لهم من كثرة لغطهم عن الحق في الاختلاف، والاعتراف المتبادل، والقبول بالآخر، زاجر عن إسفاف التهجم الذي ولغوا فيه، في حق الشيخ.
وقد أبان الهجوم على الشيخ ونسبته إلى التشدد والسلفية والغلو، عن جهل مركب لدى هؤلاء بعموم الحالة الإسلامية، وحالة التعددية التي تصل حد التباين الواضح بين مكوناتها. ورأي الشيخ في التصدي للتطرف والإرهاب واضح، وضوح الشمس في رابعة النهار، فقد أوجب قتال مسلحي تنظيم الدولة في ليبيا. وقال إن من بايع المدعو "أبوبكر البغدادي" ويقاتل دونه ليس من دين الله في شيء وأن بيعتهم باطلة.
يمثل الشيخ مدرسة وسطية في الطرح، والتفكير، المؤصل من كليات الشرع، المنضبط لاجتهادات أئمة السلف. ويعد وصفه بالسلفية الحركية من كبريات كذبات العصر.
البعد الثاني هو الشخصية الثورية التي لم تفت في عضدها أزمات ما بعد الثورة، ولا حالة الفوضى التي ورثها الليبيون عن النظام السابق، أو أسهم في خلقها الفراغ الذي خلفه القذافي.
البعد الثوري في شخصية الشيخ الصادق، قيمة تنضاف إلى قيمة الصدق والشجاعة، وتتكامل معها، وتغالب حذر الفقيه الذي يميل إلى حسبان العواقب، وينتصر لمسالمة الواقع الظالم، خوفا من مآل غير متحكم فيه. لقد مالت شخصية الشيخ إلى بعدها الثوري، وغلبته منذ انتفض الليبيون قبل خمس سنوات، وربما ترك ذلك آثارا في مسيرة الشيخ إلى اليوم.
البعد الثالث هو شخصية ليبية ميالة إلى الصراحة التي قد تجرح الأصدقاء، قبل الخصوم أحيانا، لكنها تؤثر الصدع بالحق، والوقوف إلى الطرف الذي يراه صوابا، على إمساك العصا من الوسط، والخروج من كل المواقف بسلامة، لا تنصر حقا، أو تدمغ باطلا.
يترتب على هذه الأبعد مواقف من الشيخ أرى أنها قد تناسب في ختام هذه الكلمات التي تعبر عن موقف مركب من كثير من الإعجاب، وعظيم من التقدير، وشيء من الاختلاف.
الشيخ المجاهد الصابر المضحي، وهذا مثار الإعجاب والتقدير، وإكبار التاريخ، والتضحية. لا يمكن لي شخصيا، ولا أرى أنه يمكن لأي منصف، إلا أن يسجلها للشيخ، مهما كانت علاقته به. إن احترام القيم التي تمثلها هذه المعاني، هو احترام للذات، وللمنطق والتاريخ، هو احترام لمعيار القيم الذي عليه يتفاضل الناس.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مقام الفتيا الذي هو منزلة اجتماعية مترتبة على معرفة، مكتسبة، ومواهب متأصلة.
شخصية الليبي الثائر، وهذا مَرَدُّ تقدير واحترام من نوع آخر، ينظر إلى الشخصية في بعدها الوطني الأصيل، ويجد فيها تعبيرا عن شيء من ذاته، وأحلام شبابه. إنه تمثل للقيم الكبرى التي هي جزء من تكوين الآباء، والأجداد.
وشخصية المواطن المسلم الذي يعبر عن رأيه في قضايا الناس، وشؤون الحكم والسياسية، كأن يكون قد أيد قراراً أو رأياً عارضه أو إتخذ موقفاً، كما يعبر غيره من أبناء البلد، وهنا يسوغ الاختلاف، الذي يستبطن التوقير الجم، ودراسة أصل الاختلاف.
يرد الشيخ على أسئلة وفتاوى، ويطلق أحاديث نصح، ربما غلا البعض في نسبتها إلى الفتوى، وطالب بالإلزام بها لحاجة في نفسه، غير مفرق بين ما يقوله العالم، على وجه إبلاغ الحجة الشرعية، وما يقوله باعتباره واحدا من الناس، ممن تقع القضية في دائرة اهتمامهم. وللشيخ هنا رأي يعززه العلم، وتنيره البصيرة، لكن الحديث فيه لا يرقى إلى مرتبة الحكم الشرعي، لاتساع دائرة النظر، وعمومية النصوص، وندرة القطعي منها.

نجل الشيخ الصادق، ولا نلزم أنفسنا طاعته، ونقر بحق الاختلاف معه، لكل الناس. لكننا نرفض أن يهاجم، أو يؤذى، وقد منَّ الله عليه بنعمة العلم، ونعمة السن، ونعمة الصدع بكلمة الحق. حفظه الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق