الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

ترجمة : خالد محمد جهيمة : الفصل السادس من كتاب تشريح طاغية: معمر القذافي


الكتاب الأخضر
الفصل السادس من كتاب تشريح طاغية: معمر القذافي
الكسندر نجارAlexandre Njjar
ترجمة : خالد محمد جهيمةKaled Jhima 

سَيُعد القائد قريبا "نظرية عالمية ثالثة", تقف إلى جانب الرأسمالية, والشيوعية, لإحساسه بضرورة بناء نظامه على أسس أيديولوجية جديدة. نشر معمر القذافي, اقتداء بماركس, وعبد الناصر[1], وماو ـ مؤلف الكتاب الشهير : الكتاب الأحمر الصغير ـ , والخميني ـ مؤلف كتاب أخضر يحتوي على  "مبادئ آية الله الفلسفية, والاجتماعية, والدينية" ـ أو هتلر, الذي يعرِض كتابُه كفاحي أسسَ برنامج القائد القادم السياسي الأيديولوجيةَ, بين عامي 1976, 1979, وثيقة بعنوان الكتاب الأخضر[2].


وُزِّعت من هذا الكتاب, الذي نشر في طرابلس, ملايين من النسخ, وتُرجم إلى لغات عدة. لكن ما هو هذا الكتاب ؟ ينقسم الكتاب الأخضر إلى ثلاثة فصول, يبدأ أولها, المعنون بـ "حل المشكل الديمقراطي", بالسخرية من الأنظمة الديمقراطية الموجودة في العالم؛ فالمؤلف يعتبر النظامَ السياسيَّ الذي يقود إلى فوز مرشح بنسبة 51%, من مجموع أصوات الناخبين, مثلا, نظاما ديكتاتوريا, لكنه متنكر في لباس ديمقراطي. كما أن مجموع الأصوات التي تحصل عليها من خسروا الانتخابات يمكن أن تكون أكثر من تلك التي حصل عليها المرشَّح الفائز, الذي يُعتبر نجاحه "شرعيا, وديمقراطيا". وينتقد, في اندفاعِ, المجالسَ البرلمانية, التي لا تعد, في نظره, ديمقراطية, لأن "الديمقراطية تعني حكم الشعب, لا سلطة نائبه عنه". أما النائب, فإنه يغتصب, بحسبه, سلطة الجماهير, ويتكلم باسمهم. لذا يجب "النضال, من خلال الثورة الشعبية؛ من أجل تحطيم أدوات احتكار الديمقراطية, والسيادة السالبة لإرادة الجماهير, المسماة المجالس النيابية...وأن تعلن صرختها المتميزة المتمثلة في المبدإ الجديد : لا نيابة عن الشعب". لا تزيد فضيلة الأحزاب, بحسبه, عن تلك التي يراها للبرلمانات : "الحزب هو أداة الحكم الديكتاتورية الحديثة؛ إذ إن الحزب هو حكم الجزء للكل...". كما "أن مصالح المجتمع...لا بد أن تذهب ضحية لتطاحن أدوات الحكم على السلطة"؛ لأن المعارضة الراغبة في أن تحل محل الحزب الحاكم, ستقلل من أهمية إنجازاته, حتى لو كانت مفيدة للشعب. يضاف إلى ذلك, ما يعرفه القذافي جيدا عن الأحزاب؛ لرشوته كثيرا منها, ومن المجموعات, في العالم: "الأحزاب يمكن شراؤها, أو رشوتها من الداخل, أو من الخارج". يبقى الاستفتاء. أيمكن أن يكون الصيغة السحرية, التي يمكن, من خلالها, إرساءُ دعائم ديمقراطية مباشرة حقيق؟ يعتقد العقيد بعدم إمكانية ذلك؛ لأن "الاستفتاء تدجيل على الديمقراطية؛ إذ إن الذين يقولون (نعم), والذين يقولون (لا), لم يعبروا في الحقيقة عن إرادتهم". وقد ضرب مثلا, للصحفيين اللبنانيين. غسان تويني, ومروان حمادة, اللذين جاءا لإجراء مقابلة صحفية معه, الاستفتاءَ الذي قرر إجراءَه الجنرال د يجول, بتاريخ 27 أبريل من عام 1969, فقال : "لم يكن من أجاب بلا, عدوا كارها الجنرال دي يجول, لكنه أجاب عن أسئلة محددة"[3]. لكن كيف يمكن الحكم, بدون برلمان, وبدون حزب, وبدون استفتاء ؟ الإجابة سهلة جدا : "تتأسس النظرية الجديدة على سلطة الشعب, دون تمثيل. إنها تحقق ديمقراطية مباشِرة, لم تجد لها, إلى حد الآن تطبيقا على أرض الواقع, ونقصتها الجدية, بسبب غياب التنظيم الشعبي الأساسي". لكن ما ذا عن المحسوس واقعا؟ يدعو الكتاب الأخضر إلى تبني "آلية جديدة", تتمثل في تقسيم الشعب إلى مؤتمرات شعبية أساسية, على أساس إقليمي (أحياء, وبلديات[4]). أما أعضاء هذه المؤتمرات, فإنهم ينتمون إلى كل الطبقات الاجتماعية, والمهنية, وعليهم أن يتجمَّعوا, إلى جانب انتمائهم إلى هذه المؤتمرات الشعبية الأساسية, في مؤتمرات شعبية مهنية. وهم لا ينتخبون, وليست لهم أي مهمة تمثيلية. بل هم أعضاء فقط.
يَختار كل مؤتمر شعبي أساسي أمانة عامة له, وتجتمع هذه الأمانات لتشكل بدورها مؤتمرات شعبية [غير أساسية], ثم يختار كل مؤتمر شعبي أساسي لجنة إدارية شعبية؛ تحل محل الإدارة الحكومية. وتدير كلَّ مرفق من مرافق المجتمع, لجنةٌ شعبية, تكون مسؤولة أمام المؤتمرات الشعبية الأساسية, التي تحدد سياساتها, وتراقب أعمالها.ويتم في النهاية إنشاء مؤتمر شعبي عام (أو مؤتمر وطني)  يضم كل أمانات المؤتمرات الشعبية, واللجان الشعبية, والاتحادات, والروابط المهنية ويجتمع مرة في العام. كل المواطنين أعضاء في المؤتمرات, وكل ممثليهم لا يزيدون عن كونهم ناطقين باسم الوحدات التي يمثلونها, ولا يتمتعون بأي نوع من الاستقلال, على عكس النواب الكلاسيكيين . أما القرارات التي تصوغها هذه المؤسسة التشريعية العليا, فيتم طرحها أمام اللجان الشعبية, التي يجب عليها تنفيذها, تحت رقابة المؤتمرات الشعبية الأساسية, ويجتمع أمناء مؤتمر الشعب العام في لجنة شعبية عامة, ويقومون مقام الوزراء.
نحن, في الواقع, أمام تعدد المجالس (مؤتمرات شعبية أساسية, ومؤتمرات شعبية, ولجان شعبية, ومؤتمر شعبي عام, ولجنة شعبية عامة) ـ دون أن ننسى اللجان الثورية المخيفة, تلك المليشية السياسية التي تأسست بتاريخ 2 نوفمبر 1977, خارج إطار الكتاب الأخضر, والمسؤولة على جرائم كثيرة ـ وبعثرة للسلطة, يناسب, في الأساس, العقيد الذي تبنى دائما سياسة فرق تسد. كما أن الكتاب الأخضر, لم يقل كلمة واحدة عن مهمات قائد الثورة ـ كما لو كانت أمرا مفروغا منه, أو أنها فرت من كل دستور ـ لماذا لم ينتخب ؟ كم مدة حكمه ؟ أخالد هو ؟ معمر لا يجيب عن هذه الأسئلة.
لكن هذا النظام, الذي يعتز به القذافي كثيرا, والذي جعله يقول, متفاخرا, : "لا يوجد أي تصور لمجتمع ديمقراطي حقيق خارج إطار النظرية العالمية الثالثة", وإن "أي سويدي سيكون أكثر سعادة, إن عاش في الجماهيرية, فَسَد؛ فقد مارست اللجان الثورية, منذ عام 1977, "رعبا" فعليا على الشعب, وعلى السلطات الأخرى,  و"مراقبة أيديولوجية"[5] على المواطنين, وأشرف أعضاؤها, بأنفسهم, على جلسات اللجان الشعبية, وبدأوا, منذ عام 1979, في اختيار أعضائها جهارا نهارا. كما تسللوا إلى الجيش, وإلى مؤتمر الشعب العام, وسيطروا على الصحافة, وملكوا صحيفة أسبوعية أسموها ببلاغة, الزحف الأخضر, وأصبحت لهم آليتهم القضائية الخاصة بهم, هي المحكمة الثورية, التي تعمل وفق شروط اعتباطية. تمثل حركة اللجان الثورية, باختصار, دولة داخل الدولة, ويزيد عدد أعضائها على 300000 عضو, و30000 ميليشية, وهي, في الوقت نفسه, الشرطة, والمخابرات, والحزب الحاكم الذي ينظم مسيرات تأييد لقائد الثورة الليبية[6]. الأدهى من ذلك أن النظام أنشأ "مثابات ثورية", يديرها موسى كوسة؛ بغية تصدير الثورة الجماهيرية, للدول المجاورة, وللقضاء على المعارضين في الخارج, ولم يتم حلها إلا في شهر أكتوبر من عام 1993.
بدأنا نشهد, مع أخذ كل الأمور في الاعتبار, سيطرة حزب وحيد, على الرغم من رفض القائد لهذه الفكرة في كتابه الأخضر. تقارن مناهج اللجان الثورية, مع تفاوت النسب, بمناهج الكي جي بي, والحرس الأحمر الصيني, والحرس الثوري الإيراني, أو جهاز المخابرات النازي (ستازي), المعروفين بتفوقهم في ما يتعلق بتصفية المعارضين ـ "تصفية" كان يتمناها العقيد نفسه[7], الذي رمي, في مرات عديدة, مسؤولية الجرائم المرتكَبة, على هذه اللجان, التي يدعى عدم سيطرته عليها, مذكرا, بين قوسين, أنه "ليس رئيسا, ولا رئيس حكومة"[8].
تفشى, من جهة أخرى, الفسادُ في كل أجهزة النظام, إلى الدرجة التي اعترف لنا فيها أستاذ لغة فرنسية في جامعة بنغازي, أنه يمضي وقته في "الكولسة", أي في محاولة التدخل وراء الكواليس من أجل إنجاز إجراء عادي, أو حل مشكلة؛ لأن الإدارة كلها متصلبة. كما أن قرارات عديدة اتخذها قائد الثورة, لم يجزها, ولم يوافق عليها, مؤتمر الشعب العام, الذي يحدد, القذافي نفسه, جدول أعماله اليومي,  ويوجه مناقشاته. باختصار, يتصرف الطاغية بمفرده. فقد أجاب منزعجا, عندما سأله المفكر المصري سعد الدين إبراهيم, خلال مناقشة تلفزيونية نُقلت على قناة الجزيرة, عما إذا كان قد حصل على موافقة المؤتمر قبل أن يقرر التخلي عن الخيار العربي لصالح الخيار الإفريقي, قائلا : " الشعب الليبي يعرفني, ويحبني, ويتبعني أيمنا ذهبت. أنا الشعب الليبي, والشعب الليبي هو أنا ! ". لويس السادس عشر ليس بعيدا ! وأضاف, أمام مؤتمر الشعب العام, بتاريخ 27 يناير من عام 1990, قائلا : لست مسؤولا أمام أحد منكم؛ لأن من يقوم بثورة دون مساعدة من أحد يملك شرعية تمنحه كل الحقوق, ولا يمكن لأحد نزعها منه (...). نحن, قادة الثورات, لسنا مسؤولين سوى أمام ضمائرنا..."
لقد أظهرت, علاوة على ذلك, ثورة فبراير 2011, محدودية النظام؛ فلم تتم, على عكس ما كان يفكر القائد في كتابه الأخضر, معالجُة "الانحراف عن قانون المجتمع" "بطريقة جماعية, من خلال المراجعة الديمقراطية, لا عن طريق القوة"؛ لأن اللجان, والمؤتمرات الأخرى, المخترَقة من قبل النظام, والتابعة للعقيد, والمحرومة من الاستقلال, لم تعد تعكس آمال, وشكاوى جزء كبير من الشعب. لذا كانت القوة, في ظل جمود, وتواطؤ المؤتمرات الشعبية, الجوابَ الوحيد لإسماع صوت الشعب, وكسر قبضة الطاغية.
كتب القذافي, فيما يتعلق بالصحافة, الآتي: " ليس من المقبول ديمقراطيا, ملكيةُ شخص طبيعي, وسيلة نشر, أو إخبار" بدعوى أن مالك الصحيفة يعبر عن وجهة نظره الشخصية, التي ليست بالضرورة وجهة نظر الجماهير. فالصحافة الديمقراطية, بحسبه, "هي تلك التي تنشرها لجنة شعبية مكونة من كل الطبقات الاجتماعية (...), وتعكس تصور المجتمع كله العام". يتضح, في ضوء هذه النظرية, سببُ عدم ثقة القائد في الصحفيين؛ وعدمُ وجود صحافة حرة في ليبيا, وكذلك سبب مراقبة المراسلين الأجانب الدائمة, وعدم الرغبة في وجودهم؛ فقد تم, في بداية الصراع في عام 2011, خطفُ, أو قتلُ عدد منهم[9], وتعرضت قناتا الجزيرة, والعربية, اللتين غطيتا, بشجاعة الأحداث, للسب على الملإ, بشتائم تلفظ بها العقيد نفسه, ـ مما تسبب في تعريض حياة صحفيي المحطتين, اللتين اتهمهما المقربون من القذافي بالتضليل,[10] للخطر. تَعود القذافي, المزدري, على لعب لعبة الاختفاء مع الصحفيين, وعلى تركهم ينتظرون, وعلى دعوتهم لإجراء مقابلات معه, لكنه كان يختفي في آخر لحظة. يحكي سيريل دروويه, أنه ذهب إلى ليبيا, في شهر سبتمبر 1994, لإجراء لقاء "حصري" مع القائد[11], واضطُر للانتظار, خمسة أيام, في الفندق, تحت مراقبة جلاوزة النظام, قبل أن يكتشف, في قنوط, دعوة حوالي عشرة صحفيين آخرين ؛ لمقابلته "حصريا". ثم وجد الجميع أنفسهم, بعد ذلك, في ثكنة عسكرية قريبة من طرابلس, وصل إليها القائد في سيارة من نوع بيجو 504 بلون بني فاتح, وأجاب, في هذيان, على بعض الأسئلة, وقام باصطحاب الحاضرين في زيارة للمكان, ثم اختفى, دون سابق إنذار, بعد خمس وعشرين دقيقة من وصوله ! دفع طلحة جبريل, الذي ظل زمنا طويلا مدير مكتب صحيفة الشرق الأوسط في الرباط, هو أيضا ثمن نزوات القذافي؛ فقد تركه ينتظر, بعد أن دعاه لإجراء مقابلة صحفية معه, في الفندق عدة أسابيع. يتذكر أن "اللقاء قد مر على أحسن ما يرام, وأن القذافي قد كان ودودا للغاية. لكنهم أحاطوني علما بأنني لا يمكنني مغادرة التراب الليبي, ما دامت الصحيفة لم تنشر المقابلة حرفيا. لقد قدَّم إلي عثمان العمير, رئيس التحرير آنذاك, خدمة كبيرة, بأن نشر المقابلة كلها. لولا ذلك, لربما بقيت معتقلا في ليبيا. من يدري ؟"
يطرح القائد في الفصل الثاني من الكتاب الأخضر, المعنون بـ " حل المشكل الاقتصادي: الاشتراكية" "أسس النظرية العالمية الثالثة الاقتصادية, فالأجرة, بحسبه, هي  نوع من العبودية؛ لذا يجب "الرجوع إلى القانون الطبيعي الذي نظم العلاقات الإنسانية قبل ظهور الطبقات, والحكومات, والتشريعات الوضعية....فالعدالة التي تُمليها القوانين الطبيعية ترى أن ينال كل عنصر من عناصر الإنتاج حصته منه". يدعو العقيد, انطلاقا من هذا القانون الطبيعي, إلى اشتراكية مبنية على المساواة بين عناصر الإنتاج, وضامنة توزيع إنتاج الطبيعة بين الأفراد «بالتساوي تقريبا". ويعتبر, استحواذ الإنسان على  أكثر من حاجته, من وجهة نظره, خروجا عن القانون الطبيعي, وبداية فساد, وانحراف الجماعة البشرية, وإنذارا بظهور مجتمع الاستغلال. يمثل اعتماد الإنسان على الآخرين للحصول على حاجاته نوعا من العبودية, ومصدرا دائما  للصراعات. لذا ينبغي أن تكون الأشياء الأساسية, التي يحتاجها الإنسان ملكا له, وان يتم القضاء على ظاهرة الإيجار. كما يمكن لكل عامل يملك آلة عمله أن ينتج لحسابه الخاص, ويمنع بالتالي أي نوع من أنواع الاستغلال. ويتواجد هذا الشكل الجديد من أشكال الملكية الخاصة مع "الملكية الاشتراكية", التي يعتبر فيها كلُّ المنتجين شركاء. إن الاعتراف بالربح هو اعتراف بالاستغلال, وإن المرحلة النهائية لتحقيق الاشتراكية, تكمن, بحسبه, في إلغاء الربح, والنقود.
لكن وضعَ هذه الأفكار, اللقيطة, والمقترضة من الشيوعية, أو من الاشتراكية, بطريقة خرقاء, والتي أعاد قراءتها عقل القذافي, موضعَ التطبيق لم يكن مقنعا؛ لأن في ذلك تلبيس مجتمع بدوية نظرياتِ أجنبيةً بطريقة اصطناعية. فقد زرع اختفاء المحلات التجارية الصغيرة, والاستيلاءُ على قطع الأراضي التي تزيد مساحتها عن عشرة هكتارات, ووضعُ لجان منتخبة اليدَ على الشركات الخاصة, وإصلاحُ المهن الحرة التي اعتبرت "غير مناسبة لسلطة الشعب", في عام 1981... الفوضى في البلاد, وأثار هجرة حوالي مائة ألف تاجر, ومفكر إلى مصر, وإيطاليا, وبريطانيا, والولايات المتحدة. كما لم يُفلح هذا الارتجال, وتلك التغيرات المفاجئة, والغير مناسبة, في بناء منظومة اقتصادية ثابتة, ومتماسكة, تتماشى مع المبادئ التي فرضها العقيد...أما الإدارة العامة, التي تضم 862000 "طفيليا", والتي يقوضها الفساد, والبيروقراطية, والوظائف الوهمية ـ كشف لنا أستاذ جامعي أن هناك أناسا ميتين, أو أطفالا مسجلين "موظفين"؛ لتستفيد من مرتباتهم أسرهم ـ فهي ديناصور يصعب القضاء عليه.
يعالج القائد في الفصل الثالث, المعنون بـ "أسس النظرية العالمية الثالثة الاجتماعية", عددا من المواضيع المهمة؛ فيتحدث عن الأقليات, ويُنَصب نفسه رافع لواء القومية, كما يؤكد على دور الأسرة, والقبيلة "التي تشكل عائلة كبيرة", والتي تتميز "بالاهتمام بكل أعضائها. يعتبر, في مقاربته مسألة القومية, أن البناء السياسي الذي يضم عددا من القوميات, محكوم على ترابه بالتفتتح لأن كل قومية ستسعى للاستقلال تحت شعار القومية. "الدولة الأمة, بحسبه, هي الصيغة السياسية الوحيدة التي تتمشى مع البناء الاجتماعي الطبيعي. أكد القذافي, بعد إقراره بمساواة المرأة الرجل, أن المرأة لا يمكنها ممارسة أعمال شاقة؛ لأنها لا تملك بناء جسمانيا كذلك الذي يملكه الرجل "الذي لا يلد, ولا يرضع", وبالتالي"  فيجب ألا يُفرض على من ستصبح أما أعمالا لا تتناسب مع طبيعتها". ثم يعلن بأنه ضد الإجهاض الاختياري, وينتقد رياض الأطفال (أو الحضانات)؛ لأن, "فصل الأطفال عن أمهاتهم, وجمعَهم في دور حضانة, يحولهم, كما يقول,  إلى ما يشبه أفراخ الدجاج؛ فدور الحضانة تشبه محطات التسمين التي تجمَّع فيها الأفراخ بعد فقسها". والدليل على ذلك أن "لحم طيور المحطات غير مستساغ, ولا قيمة غذائية له؛ لأن الطيور لم تنشأ نشأة طبيعية, أي لم تنشأ في ظل الأمومة الطبيعية. إن الطيور البرية أشهى, وأنفع؛ لأنها نمت نموا طبيعيا, وتغذت غذاء طبيعيا". لم يكن بإمكان كونار لورنز أن ينكر هذه النظرية العلمية الهائلة !
يعلن القذافي, في آخر فصول كتابه, أن "السود سيسودون العالم" ـ تحققت هذه النبوءة, تقريبا, بانتخاب باراك أوباما على رأس القوة العالمية الأولى  ! ـ ثم يدنو, دون أي استمرار في الأفكار, من قضية التعليم الإلزامي؛ ليؤكد أن "إجبار الناس على التعلُّم, باتباع  برنامج معين, وفرضِ مواد معينة عليهم عمل ديكتاتوري"؛ لأن المجتمع, بحسبه, ملزم بتوفير كل أنواع الأنشطة التربوية, التي تسمح للشباب باختيار المواد التي يرغبون في دراستها, بكل حرية, وعفوية". يخلص القائد, بعد أن لاحظ  أن "الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها, وتراثها, إلى الحديث عن الرياضة؛ التي هي, بحسبه, ضرورية, كالصلاة, والغذاء, لكن ـ وهذه نقطة خلاف كبيرة بينه, وبين هتلر الذي وضع, مع مدحه القوة الرجولية, والرياضة في كتابه كفاحي, كل إمكانيات الرايخ الثالث لإنجاح ألعاب برلين الأولمبية في عام 1936 ـ ليس من المقبول أن يكتفي الشعب بالتفرج على المنافسات الرياضية, بدل ممارسة الرياضة : "إن الآلاف التي تملأ مدرجات الملاعب لتتفرج, وتصفق, وتضحك, هي الآلاف المغفلة, التي عجزت عن ممارسة الرياضة بنفسها". من حقنا أن نسأل, عندما نعلم أن ليبيا قد ترشحت لتنظيم كأس العالم في عام 2010, كيف يمكن أن يتناسب ذلك الترشيح مع تعاليم القائد؟...لكنه, في الحقيقة, ليس التناقض الوحيد الذي يقع فيه القذافي. !
مهما يكن الأمر, فقد أثار الكتاب الأخضر إعجاب كثير من المتملقين الليبيين, والعرب؛ فهناك ثلاثة مجلدات ضمت أعمال ثمانية مؤتمرات, نشرت في طرابلس[12], تؤكد على أهمية هذا الكتاب, وعلى "عبقرية" مؤلفه. كما قام القذافي, الراغب في نشر الخبر الجيد, بإنشاء مؤسسة دولية لمؤيدي الكتاب الأخضر, أنشئت بقرار من أمانة مؤتمر الشعب العام تحت رقم 27/2009, من أجل مدح قيم "النظرية العالمية الثالثة" الفكرية, ومبادئها الإنسانية, في أنحاء العالم. وقد انعقد  أول مؤتمر دولي نظمته هذه المؤسسة, في سرت, في عام 2009, بمناسبة مرور أربعين عاما على ثورة الأول من سبتمبر, وجمع عشرات من المشاركين المتحمسين. قدم فيه رئيس المؤسسة أحمد إبراهيم القذافي, بألقاب خرقاء, أكثر منها ألقاب مدح : "باسم الله, وباسم الفاتح العظيم, نحيي المفكر, والمعلم, والقائد, معمر القذافي, صاحبَ هذا المشروع العظيم, ومؤسسَ حركة الوحدويين الأحرار, وحركةَ اللجان الثورية, التي ننتمي إليها كلنا... عندما يظهر القائد, يظهر بطل الملاحم الشهيرة , وتظهر الإنجازات الكبيرة, والنهر العظيم...نحييك أيها القائد, الذي أعاد كتابة التاريخ على هذه الأرض المجيدة. نحن مؤيدون لفكرك الأخضر الطليعي, الذي يشع نوره على  العالم كله". ألقى "بطل الملاحم الشهيرة" نفسه, في نهاية المؤتمر, كلمة وبخ فيها الأحزاب, والمجالس البرلمانية, والاستفتاء, وتأسف لعدم الاستماع لصوت النظرية العالمية الثالثة بشكل كاف, "بسبب هذا النشاز الذي يسود هذا العالم المتقلب" !
لقد علا, في وسط حفلة المديح هذه, صوتٌ, وتجرأ على القول, في شهر مايو من عام 2010, بأن "الكتاب الأخضر, ليس كتابا مقدسا, وبأن هناك أخطاء عدة ارتكبت في الماضي, بسبب قراءة ثابتة لنظرية الكتاب الأخضر, وبأن لكل شخص الحق في نقده, ونقض كل أطروحاته".[13] إنه صوت...سيف الإسلام القذافي, ابن القائد.



[1] Gamal Abdel Nasser, Egypt’s Liberation : The Philosophy of the Revolution, Washington, Public Affairs Press, 1955.
[2] Mouammar Kadhafi, Le Livre vert, Cujas, 1976 ; Albouraq, 2007 ; Centre mondial d’études et de recherche sur Le Livre vert (Tripoli), 4e éd. 2007.
[3]  النهار, 18 يناير 1975, عدد 12350.
[4]  قسمت ليبيا, إداريا, إلى ثلاث, محافظات, ثم إلى عشر. كما قسمت بعد ذلك إلى بلديات (1983 ـ 1995), ثم غلى شعبيات, ضمت كل منها مابين عشرة, إلى خمسة عشر مؤتمرا أساسيا. (لم تقسم ليبيا يوما إلى ثلاث محافظات, لكنها قسمت إلى ثلاثة أقاليم. المترجم).
[5] Dirk Vandwelle (dir), Quadhafi’s Libya 1969-1994, St Martin’s, Press, New York, 1995, p. 101.
[6] Jeune Afrique, 23 février 2011.
[7]  انظر, على سبيل المثال, خطابه بتاريخ الأول من شهر مارس من عام 1981.
[8] Interview  de Kadhafi à BBC Two, 24 juin 1980 ; interview à la revue italienne Panorama, 7 juin 1980.
[9]  قتل, بتاريخ 20 أبريل من عام 2011, مصوران مراسلان, هما : البريطاني تيم هيثرينجتون (المرشح لنيل جائزة الأوسكار عن فيلمه الوثائقي ريستريبتو), والأمريكي كريس هوندروس (المرشح لجائزة بولتيزير), في مصراتة, بقذيفة هاون أطلقتها عليهم قوات القذافي. كما اختفى, بتاريخ 4 أبريل من عام 2011, أربعة صحفيين آخرين, أمريكييين, وإسباني, وأفريقي جنوبي, ولم يطلق سراحهم إلا بتاريخ 18 مايو. وهناك, بحسب المجلس الوطني الانتقالي, ستة صحفيون بين يدي القذافي.
[10]  قتل مصور الجزيرة, على حسن الجابر, بتاريخ 12 مارس 2011, في كمين قرب بنغازي. كما أن مصير زميله العتول, الذي اعتقل بتاريخ 7 مارس, ما يزال مجهولا.
[11] Le Figaro Magazine, 26 février 2011.
[12]  عبده وازن, الحياة, 28 فبراير 2011.
[13]  محاضرة ألقيت في لندن, بتاريخ 25 مايو 2010, موضوعها  : "ليبيا, الماضي, والحاضر, والمستقبل".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق