ماضى فقدناه وحاضر أفسدناه
ومستقبل بين هذا وذاك
مقالة نُشرت فى 2009م تشير إلى ما وصلت إليه مدينة درنه
من تدهور فى العلاقات الإجتماعيه ونسيان الماضى الجميل
الكاتب / فتح الله سرقيوه
درنه مدينة الدراويش كما كان يصفها أستاذنا المرحوم عبد اللطيف شاهين ، سألته مرة وقلت له أستاذى الفاضل أريد أن أعرف ماذا تقصد بهذه العبارة ؟ رد على مبتسماً إننى لا أعنى أن أهل درنه دراويش ولكننى أقصد أن درنه لم تخلو يوماً من بعض البسطاء الطيبين الذين يتوافدون على مقر الصحابة طلباً للمساعدة والحماية وهم يعتقدون أن كل من دخل مبنى الصحابة وأقام بجوار الأولياء ..آمن من الجوع والخوف ومن مصائب الدنيا .. ويجد العون والعطف والمحبة من جيران الصحابة . رحم ألله أستاذنا الفاضل الطيب الحنون الودود الذى يسأل دائماً فى حياته عن الصغير قبل الكبير ويعود المريض حيث كان يخصص يوم الجمعة بعد صلاة العصر لزيارة المستشفى للتخفيف عن المرضى ورفع معنوياتهم بقراءة القرآن والأذكار النبوية المحمدية .
حي بومنصور من الأحياء المباركة التى حباها ألله باحتضان رفاة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. سكان هذا الحى بينهم ألفة متميزة دون غيرهم بالرغم من أنهم من قبائل وعائلات متعددة ولكن الألفة التى كانت بينهم تفوق رابطة الدم حيث يسمونهم (جيران الصحابة) أو (بومنصور وجيرانه) وبالرغم من أن التخطيط العمراني بدرنه أجبر معظم سكان هذا الحى لتركه والبناء فى أماكن أخرى إلا أن الألفة التى ربطت بينهم ما زالت كما هى وخصوصاً فى المناسبات ، وللأسف لا زال التخطيط العمرانى فى هذا الحى لم ينفذ حتى يومنا هذا منذ ثلاثة عقود من الزمن نتيجة للتخبط التخطيطى وضعف الإدارة العامة.
لقد تعلمنا فى هذا الحى منذ الولادة إحترام الكبير ومساعدة الصغير والعاجز والمحافظة على الجار وصون العرض والفزعة .. كلها صفات كريمة تعلمناها من الواقع المحيط بتلك البقعة الطاهرة التى تتوسط الحى (الصحابة) ،، تعلمنا من أهلنا أن للطريق حق للمرأة قبل الرجل والصغير قبل الكبير وغض البصر وكف الأذى وإفشاء السلام لأننا نقيم بين أحضان أهل السلام (قيم وأخلاق زرعت بداخلنا وحافظنا عليها) .
لقد كان أهل المدينة يحترمون مقام الصحابة إلى أبعد الحدود وهى عقيدة الفطرة وحب الأولياء والصالحين .. وإننى أتذكر(وقد شاهدت بأم عينى ذلك) أنه خلال الخمسينيات والستينيات عندما تكون هناك خصومة بين عائلتين أو قبيلتين وغالباً ما تكون على أرض أو زرع أو تجارة ،، كان من ضمن الحلول العرفية أن يطلب من أحدهما حلف اليمين فى مقام الصحابة فعندما يقرر المجلس العرفى ذلك ، تجد جيران الصحابة (أهل بومنصور) فى انتظارهم ويطلبون منهم العدول عن القسم أمام أضرحة الصحابة وعندما يصر أحدهما على ضرورة أن يقوم خصمه بالحلف يعرضون عليه شراء القسم !! وبالسعر الذى يرضاه خوفاً عليه وعلى أسرته وهذا تأكيد على مدى إرتباط أهل هذا الحى بهذا المكان المقدس خوفاً على أن يحلف أى أحد اليمين داخل الصحابة صادقاً أو باطلاً ..فكم من مشاكل إجتماعية تم حلها داخل مبنى الصحابة وإنتهت بالتصالح والمحبة .. عقيدة ما بعدها عقيدة وروحانية تفوق الخيال وإرتباط روحى ليس له مثيل .
إن كل من حطت به الرحال بمدينة درنه إختار أن يكون بجوار الصحابة فجميع الأولياء الصالحين مثل (سيدى بودرباله) وهو من أصل مغربى نسبهم يعود إلى آل السباعى من أهل البيت كما أكدوا لى ذلك ، ومقام سيدى بودرباله يوجد فى مرتفع حى بومنصور وكذلك الولى الصالح (سيدى العجالى) وسيدى محمد الشريف وسيدى إمحمد بى وهو تركى الأصل جاء إلى درنه منذ ما يقرب 350 سنة والملفت للنظر أن جميعهم إستقر بهم المقام بجوار الصحابة .
لقد ضاع كل شئ فلم يعد يحترم الصغير الكبير ولا التلميذ المدرس ولا الطالب الأستاذ ولا الشاب يحترم الفتاة ولا الرجل يحترم المرأة ، إختلطت علينا الأمور فأصبح قليل الأصل هو الشريف والمرتشى والسارق هو المسؤول والمحترم والفاجر ومتعاطى المخدرات هو أهل للثقة حتى أن المجاهرة بالفساد أصبحت بطولة ورجولة .. ضاعت القيم والأخلاق فى مدة لا تتجاوز بضع عقود من الزمن فما أسهل الخراب والدمار وما أصعب الإصلاح والعودة إلى قيم الماضى التى فقدناها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق