الخميس، 26 مايو 2011

إبراهيم محمد طاهر: فسيفساء ليبيا: بناء المستقبل يبدأ بالحاضر.



  لعل أول نصر حققته ثورة 17 فبراير هو هدم جدران زنزانة الصمت، وإطلاق سراح أصواتنا – أبناء وبنات ليبيا. الأمر الذي ترتب عليه ظهور القدرات والإمكانيات الليبية التي كانت دفينة طيلة 42 عاماً، فأصبح الآن باستطاعة الجميع المشاركة في (ليبيا)، الجميع لديهم اقتراحات، وأفكار، وأحلام، وآمال... وهو هذا التباين والتنوع الذي يبني أي شيء، تعدد الألوان هو ما يسمح لنا برسم حلمنا وبناء فسيفساء ليبيا التي تشمل كل ألوان الشعب الليبي الحر، بعيداً عن مثال ديكتاتورية القذافي ولونه الواحد.

    ولقد قرأنا في هذه الفترة الأخيرة عشرات وعشرات الاقتراحات لمستقبل ليبيا، اقتراحات تشمل كل شيء: الطبيعة السياسية للدولة، نظام الحكم، الدستور، العلم، النشيد، الدين، اللغة، الأجهزة الأمنية، النفط، التعليم، الصحة؛ كل شيء سيكون له دور مهم في مستقبل ليبيا تم الحديث عنه، بحِرفية وخبرة واسعة في بعض الأحيان، وبحماسٍ يفتقد للخبرة في أحيانٍ أخرى. ولكن كل هذه الأفكار هي أوتار الحرية، كلها تعزف ترنيمة الشعب الليبي، ولذلك فكلها ثمينةٌ لنا؛ فهذا هو ما نريده لمستقبلنا: الحرية التي تسمح للجميع بالتعبير عن آرائهم وأفكارهم.


    لكن في هذه المرحلة من مسار ثورة 17 فبراير، أجدني أتساءل عن جدوى بعض هذه الاقتراحات فيما يخص الوقت الراهن. هي بالطبع مهمة لمستقبلنا، ولكنني أخشى أن ننشغل بالمستقبل عن الحاضر أكثر مما يجب، فالوضع الحالي لا يبدو مناسباً تماماً للحديث عن الدستور على سبيل المثال، خاصةً وأنَّ جزءاً كبيراً من البلاد مازال يخوض حرباً عنيفة ويرزح تحت الحصار، فكيف يمكننا الحديث عن دستور ديمقراطي لدولة بدون أن نُشرك في الحديث كل مواطني هذه الدولة؟ لن أنكر أنني في بداية الثورة كنت ممن يعتقدون بضرورة وضع الدستور الجديد بسرعة، ولكن حينها كنت أتصور أن ثورتنا سيكتمل نصرها بنفس سرعة ثورتي تونس ومصر، وأنه سيكون بالإمكان وضع دستور جديد بنفس السرعة التي تم بها تعديل دستوري تونس ومصر، لكن الأيام أظهرت لنا أن كفاحنا سيطول، وعليه فإن أولوياتنا يجب أن تتغير بتغير الظروف.

    في بداية الثورة كانت الاقتراحات والأحاديث تتمحور حول النصائح الإعلامية والنصائح للمتظاهرين السلميين، وتطورت هذه الاقتراحات إلى نصائح عسكرية ونصائح دبلوماسية، وكانت كلها مواكبةً للأحداث. لكننا الآن بدأنا نستبق الأحداث. ففي أوقات تعاني فيها بعض مدن جبل نفوسة من المجاعاة – بل إن المشكلة الغذائية تهدد كل المناطق المُحررة – ومع استمرار عاصفة الحرب المُدمرة في الكثير من المدن الصامدة، ومع وجود أعداد يدمى لها القلب من النازحين الذين يعانون في خيام اللاجئين الزرقاء، ومع ما نجده من بعض حالات الإهمال وسوء استغلال السلطة والصلاحيات، وعدم وجود تنسيق منطقي لأولويات مصالح الشعب، مع كل ما يحدث في الوقت الراهن من مشاكل داخلية تتطلب حلولاً، أجد أن الحديث عن المستقبل يبدو في غير محله.


    من جديد هذه الأمور مهمة ومفيدة، فهي وإن كانت – في وجهة نظري – غير مناسبة للوقت الحاضر، إلا أنها تساهم في نشر مبدأ تعددية الآراء، وتساعد في تثقيفنا جميعاً بمعلومات مفيدة قد نستفيد منها في المستقبل. ولا يمكن لأحد أن يُنكر أهمية التخطيط للمستقبل، بل وضرورته. لكن اقتران هذه الأمور بكلمة (المستقبل) هو الذي يجعل منها مواضيعاً متحمسة أكثر مما يجب، يركض أصحابها في طريق لم يكتمل بعد، ولا أقصد بهذا نقد أصحاب هذه الاقتراحات أو التقليل من مكانتهم، بل على العكس تماماً، فهم جميعاً يساهمون في بناء مستقبل ليبيا، وجميعهم – أو غالبيتهم – يطرحون آراءهم بطريقة عقلانية ولا يفرضونها على أحد، ولكن العبرة هي في أنه لن يمكننا بناء مستقبل بدون تأمين الحاضر؛ ولذلك نتطلع إلى أصحاب العقول والمفكرين لكي يرافقونا ليساعدونا في طريقنا إلى المستقبل وأن لا يسبقونا إلى هناك ويقفوا يلوحون لنا من بعيد بأنهم لديهم حلول واقتراحات للمستقبل!


    إنَّ تعدد الأفكار هو أمرٌ مُفرحٌ للغاية، خاصةً بعد عقودٍ من العيش في متاهة جنون رجل واحد – هذه التعددية الفكرية والثقافية هي بمثابة نفس عميق بعد سنين من الاختناق. والأمر الذي يُثير فرحنا وفخرنا أكثر هو أن ندرك بأن ليبيا لديها مفكرين ومحللين وذوي عقولٍ مستنيرة، وأنهم جميعاً قد اعتقهتم ثورة 17 فبراير وسمحت لهم بالعمل من أجل الوطن.

    لكن فسيفساء ليبيا، التي ستتكون من كل أفكار أبنائها وبناتها، والتي ستتلون بكل أطياف المجتمع وألوانه المختلفة، يجب أن نبنيها من الأساسات، ننطلق من الوسط، من الحاضر نبدأ، ثم ننتشر إلى أطرافها، إلى مستقبلها، فلا يمكننا أن نُفني جهدنا في تركيب أطرافها وتكوين مستقلبها بدقة، لنكتشف في النهاية أننا أهملنا الأساسات، وبنينا مستقبلنا على الفراغ... كل ما أراه هو أن نحاول التركيز على ما بين أيدينا من مشاكل، وأن نجتهد في الحاضر لكي نتمكن من بناء أساس عملي ونظام تعاوني متين يُمكننا من العمل على تحقيق حلم (ليبيا الحرة) في مستقبلنا حين يصبح حاضرنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق