الثلاثاء، 17 مايو 2011

المستشار السياسي : هل ستسرق الثورة؟





في تاريخ الاجتماع السياسي الحديث هناك العشرات من النماذج التي تحكي قصة ثورات قامت وانطلقت من منطلقات واضحة، ودوافع نبيلة مشروعة في بدايتها، ثم سرقت في نهاية المطاف وحولت وجهتها لتختزل في مجد شخصي لفئة محدودة، ولمن لم يقف على أي نموذج من تلك النماذج أن يعود بذاكرته إلى ستينيات القرن الما     ضي ويفحص تاريخ الثورة الجزائرية المجيدة وكيف انتهى مصيرها !!!.

مخاطر تتهدد الثورة
ليس خطر السرقة هو الخطر الوحيد الذي يتهدد الثورات، ولكن وبالرجوع أيضا إلى سجل الثورات في تاريخ الاجتماع السياسي، وباستخدام منطق وأدوات وأساليب التحليل السياسي في تفكيك وفهم سلوك تلك الثورات كأحداث اجتماعية، ومحاولة قراءة يوميتها، بغية استخلاص القوانين التي تتحكم في مسيرتها، والوقوف على المؤثرات التي تحكمت في تشكل وتبلور مشاهدها، سنلمس وبغاية الوضوح الملاحظات المنهجية التالية :
أولا : الدوافع الأولية للثورة
قد تنبعث الثورة تحت وطأة حاجات واقعية مطالبية، وقد تكون مطالب محودة وليست ذات طابع شمولي، ولكن هذا لا يمنع مطلقا أن تتطور باسلوب دراماتيكي، متصاعد،وقد تتغيير وجهتها وهدفها بشكل انقلابي، أي أن بواعث الثورة ليس بالضرورة أن تكون جامدة ثابتة بل قد تتغيير في طبيعتها ووتيرتها، ولكن شيئا من هذا لا يقدح في طبيعتها وكونها ثورة، كما لا يعيبها هذا التغيير ما لم تنقلب إلى مجرد فوضى لا تلوى على شيء، ويكون ما تفسده أكبر مما تصلحه، أما ثورة فبراير على وجه الخصوص فما يزال فضلها غالب وما تزال كفتها المصلحة فيها راجحة قولا واحدا عند ذوي العقول والحجى.


ثانيا: حق البراءة للثورة
أي من صاحب الثورة؟ أو بمعنى أدق إلى من تنسب الثورة؟ ثورة الفلاحين أم ثورة العمال أم ثورة الشباب؟ كل هذه التسميات ممكنة، ولكن عند محاولة تحليل الثورة باسلوب عود الثقاب ( عود الكبريت) أي حدث واحد يقدحه فيشتعل وينتهى الأمر!، الثورة لا تحلل بهذا الأسلوب الاختزالي التسطيحي، الثورة مجموعة عمليات متصلة، تتكون كل عملية منها من مجموعة أحداث متلاحقة ومتصلة، وأي انقطاع في أي موضع من سلسة الأحداث يعني توقف تلك العملية، وتوقف العمليات أو انقطاعها عن بعضها البعض يعني توقف الثورة، لذلك عندما تشاهد ثورة مستمرة فهذا يعني أنها صناعة عدد غير محدود من الأحداث المتصلة، كونت من خلال اتصالها عمليات متواصلة جسدت الثورة واقعا وظاهرة اجتماعية سياسية قائمة للعيان، وهذه الأحداث بعضها يحدث في البدأ، والبعض الأخر لابد أن يتأخر وقته قليلا كي لا يشغب على غيره من العوامل المطلوبة في البدايات، وكل حدث لابد لوقوعه من ركنين، الأول اجتماع عناصر والثاني الظرف الملائم، فالعناصر قد تكون افراد، وقد يكون وجود كتلة بشرية، وقد يكون سلاح، وقد يكون مال، أما الظرف الملائم فهذا قد يكون عامل جغرافيا، وقد يكون تغيرات سياسية أو أمنية، وقد يكون انتفاء موانع مثل الفرقة والشقاق، ولكنها في مجموعها تمثل ركني الحدث كي يقع فعلا، لذلك لا ينبغي لعاقل أن يظن أن الثورة هي تلك الأحداث التي حصلت في البدأ فقط، فهذا خلل في فهم الثورة كظاهرة بارزة من ظواهر الاجتماع السياسي.
ولعلنا ندرك أن الأخطار لا تتهدد الثورات إلى من مخلل اللعب بهذه السلسلة، إما بالحذف أو التشويش، أو التضخيم أو التهوين، ومن يريد أن يسرق الثورة فليس أمامه سوى هذه البنية التحتية من الأحداث والعمليات ليتحكم فيها كي يتمكن من السيطرة والهيمنة وبعد ذلك توظيفها بالشكل الذي يريده.
أما ثورة فبراير فهي ثورة شعب بأسره وليست ثورة شباب كما يحاول من يخلط الأحداث ويهمش بعضها ويضخم بعضها الآخر، الجميع قدم التضحيات صغارا وكبارا رجالا ونشاء والشهداء خير دليل وشاهد أن الجميع قدم الثمن ولم يتأخر، وكل من يحاول أن يقول أن الثورة هي ثورة الشباب بزعم أنهم هم أول من هب فهذا يحاول أن يقنعنا أن الثورة عبارة عن عود ثقاب اشعل ثم انطفى في لحظة واحدة ومشهد واحد وهو مشهد الهبة الأولى، وهذا ليس تقليل من دور الشباب البارز، والذي مثل رأس الحربة في ثورتنا المباركة، ولكن اختزال الثورة في فئة واحدة دون سواها يشوهها ويختزلها بشكل يشكل خطرا من المخاطر التي لا تقل في خطورتها عن خطر سرقة الثورة، لذلك وبكل ثقة يمكننا أن نقرر أن فبراير صناعة ليبية، وحق البراءة محفوظ لكل الليبيين والليبيات، صغارا وكبارا.

ثالثا: هيكلية الثورة
هناك عشرات من الثورات كان لها بنية هيكلية اعتمدت عليها في حركتها وتحريكها للحجم البشري الحرج اللازم لتفجير الثورة واستمرارها وبقائها، أما ثورة فبراير فقد استمت بشيء جديد وهو ما يمكن أن نطلق عليه ( أجندة الشارع ) فالثورة مثلت استحقاقا مباشرا لأجندة الشارع الليبي، وهذه الأجندة من خصائصها العفوية، والمطالبية، ووفرة الكتلة الاجتماعية المؤيدة، وتأجيل خطوة التفكير التنظيمي الحركي، الذي يفرز مفهوم واطار القيادة، وينسق الجهود، ويرتب الأهداف والأولويات، ويحشد الكتلة الاجتماعية ويستكمل نواقصها بالتدريب والتأهيل والتأطير، ويوفر الذاكرة الاجتماعية اللازمة لتراكم الخبرة وتوريث المفاهيم الوطني الدافعة للثورة، هذا الأمر غاية في الأهمية والحيوية، ولكن من غير الممكن أن يتوافر في وقت مبكر، بل كانت أجندة الشارع الليبي تتبلور حول مطلب واحد شيئا فشيئاـ والتدرج، على الرغم أن هذا المطلب كان حاضرا في والوجدان الجمعي، ولكن حدود الواقع – ولا يعنينا الأماني الطيبة المشروعة – كانت لا تسمح باعلان أجندة شارع تحتوى على البند الأساسي أو الوحيد وهو : استرداد زمام المبادرة، بمعنى أن يسترد الشعب زمام القرار السياسي السيادي.
أما في ثورة فبراير لو طرحنا على أنفسنا السؤال التالي: من قائد الثورة؟ فلن تكون هناك اجابة، بل سيكون كل من يحاول أن يلف ويدور حولها محل نقد شديد، الثورة في انطلاقتها لم يكن لها قائد، بل انطلقت كأجندة شارع من تنظيم فكري شبكي، يتميز بتعدد الأفكار، وتعدد الأساليب، وتعدد مراكز التعتبير، بحيث لا يمكن الزعم بأن مركز واحدا من بين تلك المراكز تحكم في التوجيه أو السيطرة، ولكن ميزة هذا التنظيم الفكري الشبكي أنه التقى على نبض ووجدان الشارع، فصيغت كل الأفكار التي طرحت في اطار عام يمكن أن نقول أنه أجندة الشارع.

أما المجلس النتقالي فهو قيادة صناعية بعني تم التوافق عليها لاحقا وليس هو من صنع الثورة، لأن الثورة كان يتهددها خطر الفراغ السياسي في اعقاب انهيار سلطة سبتمبر، وخطر التدخل الأجنبي بحجة الفوضى، وقد ادرك الثوار في كل مكان أهمية المسألة فتواضعوا على الوقوف خلف المجلس دون أن يكون بينهم أي حوار أو اجتماع لأن الخطر وحدهم.

ومن هنا ينبغى على المجلس أن يدرك أنه مجرد اطار مؤقت، وأن لا يتصرف بأي شكل لا تخوله إياه طبيعة دوره المؤقتة، ومن أبرز ما يتبغى أن يحذر منه المجلس مسألة مناقشة الدستور وكيفية وضعه، وفي كم يوم يوضع فمثل هذه الأمور لا يملك من شأنها المجلس فتيل وقطمير، وأي محاولة لطرحها الآن وقبل أن تتخلص كل المناطق من سيطرة وسطوة سلطة سبتمبر هو افتيات صارخ على حق السيادة الوطني لا يحق للمجلس المؤقت أو لجنة إدارة الأزمة الخوض فيه الآن، وليحذر من إثارة نفس الحساسية التي صاحب دستور 51م فنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا.
وهنا لا بأس من تذكير المجلس بمسألة أساسية بسيطة لابد أن يعود إليها وهي: لماذا قامت الثورة؟ الم تقم إلا من أجل أن يسترد الشعب زمام القرار السياسي السيادي؟ فهل يتوقع أن الشارع سيتسامح مع المجلس إن هو تطاول على أي جانب من جوانب القرار السياسي السيادي الذي لا يحق للمجلس المساس به، وأن دوره محصور في إدارة الأزمة!!.

رابعا: زخم الثورة
بالرجوع إلى واقع وتطور الكثير من الثورات سنجدها تنطلق بقوة وعنفوان، وصفاء ووضوح، ولكننا سنلمس أن هذا لا يدوم طويلا حتى تبدأ سماء الثورة تتلبد بالسحب والغيوم، بعضها واقعي لا يمكن تجاوزه، وهي سحب الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي (Microeconomics & Macroeconomics) يعني أن هذا الجانب الواقعي سينزل بمثالية الأيام الأولى للثورة إلى واقع المعاناة فتصبح وتمسي على أنين ذوي الحاجات، والديون والتضخم والبطالة، وتركة الدولة الفاشلة التي خلفتها سلطة سبتمبر للثوار.
وهنا سيحاول البعض أن يتخذ من فشل سلطة سبتمبر معيارا على نجاحه، ولن يستطيع مهما بلغ به الذكاء والفطنة مبلغا أن يسوق لنا هذا الزعم الباطل، معايير النجاح ليست مقارنة بالفشل الممنهج الذي منيت به سلطة سبتمبر، لن نقبل أن يطلع على أي مسؤول ليقول لنا انظروا ماذا صنعت مما لم تستطع سلطة سبتمبر صنعه، هذه مغالطة غير مقبولة، من لديه القدرة على تقديم حلول فاليدق على صدره، ومن يشعر بالعجز فعليه أن يستقيل مشكورا مأجورا، ولكن لا يقل لنا لا تنتقدونا وقدموا أنتم الحلول!!، عذا اقبح من الذنب وغير مقبول ومردود على صاحبه.

خامسا: بين عقلية الثورة وعقلية الدولة
نحن اليوم ما نزال تعيش طور الثورة، ولم ننتهى بعد من الخلاص الكامل من ذيول سلطة سبتمبر، والتصرف على أساس فكرة الدولة ما يزال ليس سابقا لآوانه فقط بل من غير الممكن، لذلك ينبغى علينا أن نفكر حين نضع الميزانية اليوم أن نضع ميزانية تسيير ثورة وليس ميزانية تسيير دولة، ميزانية ثوار وليس ميزانية موظفين، ميزانية تنظيم ثوري وليس ميزانية كادر خدمة مدنية، وهذا يعني اعادة النظر في كل ما هو قائم بمعنى اعادة تقييم أولويات الانفاق، أما محاولة التصرف على أساس ميزانية الدولة فهذا غير واقعي ويجب أن ننتبه لمخطر انهاك الثورة بنفاقات الدولة، الثورة لا تحتمل نفاقات الدولة إذا أريد لها أن تنتهى من انجاز مهمتها.
وهنا يمكننا أن نتصور حجم الخطر الذي قد يتهدد الثورة بشكل مباشر وغير مباشر، وسواء اكان خطر السرقة، أو خطر الانهاك والأفول، او خطر الانحراف عن الهدف، او خطر الفلتان من حالة الثورة إلى حالة الفوضى.
إدرك تماما أن الشعب مدرك لكل هذه التفاصيل، ولكن لعل في التذكير ما ينفع الغائب.

المستشار السياسي  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق