الثلاثاء، 19 أبريل 2011

محمد الأصفر : الغناي البولندي ... المقاتل بحنجرته


الغناي البولندي ... المقاتل بحنجرته
" غارن أطناش ذيب على غنم في مراح رايضة "

محمد الأصفر *


لا أدري لماذا دائما تقترن الحرية بالحرب  ؟ ..
 أليس هناك حرية سلام  ..!?
 كل الدول التي تحررت وتعيش الآن في نعيم الديمقراطية وربما جحيمها اللذيذ .. وصلت إلى حريتها عبر درب من الجماجم والآلام .. ملايين الناس ماتت .. ملايين الناس جرحت وصارت ذات إعاقة جسدية أو نفسية .. ملايين الناس شردت وعاشت الفقر والجوع والرعب .. كل هذه الملايين التي ذهبت قربانا للمستقبل الحر .. هل نشعر أننا قد أنصفناها  ؟ .. أم أن الله كفيل بإنصافها بعدل يتجاوز رؤانا  .. في كل ميادين عواصم ومدن العالم نجد نصبا تذكاريا يسمى الجندي المجهول .. تزوره الناس ويزوره ضيوف البلد من شخصيات رسمية رفيعة .. يبجلونه ويضعون تحت قدميه باقات الزهور .. يزوره أيضا سيّاح يتمعنون في رمزه وينهلون من رحيق معانيه .. لكن لا اعتقد أنه هناك نصبا تذكاريا للإنسان المجهول .. الإنسان المدني الآمن التي فرقعت حياته رصاصة طائشة أو قذيفة مجنونة أو صاروخ موجه من دكتاتور حاقد في سبيل الكرسي يحرق الأخضر واليابس  .. أو حرمه الدكتاتور من جرعة ماء أو مصباح نور أو مدفئة أو تلفاز أو تلفون أو خط انترنيت ؟ لا اعتقد أنه هناك نصبا تذكاريا أو تمثالا للطفل البرئ الطاهر المجهول .. أو للوردة اليانعة المجهولة التي رمدتها نار الدكتاتورية داخل أصيصها الفخاري الأنيق .. نعود من جديد لحرية النار والدم والألم .. نعود من جديد لديمقراطية عادلة لا يمكن أن تحوزها قبل أن تدفع ثمنها .. الحرية تبيعنا نفسها .. رفعت سعرها  في بورصة الحياة   وكأنها بترول أو ذهب أو زيت حوت عنبر  ثمنه جعلته الاضطرابات العالمية يصّاعد إلى أعلى معدلات مالية ممكنة .. الحرية جميلة جدا ومتفاهمة ومرنة .. تقبل الثمن بأي عملة .. مال .. ذهب .. قمح .. أرض .. بترول .. دماء .. أحاسيس .. ونحن كأناس عاديين مواردنا سرقتها الديكتاتورية الرعناء لا نملك مالا في الوقت الحاضر .. ونملك دماء نبيلة نقية حارة  .. وعبر هذه الدماء سنستعيد ثروتنا من خزائن اللص وأقبيته وندفع مقابل حريتنا وعتقنا مالا وذهبا وبترولا وماء وشمسا ساطعة .

من الذي جعل الحرية سلعة تباع وتشترى تفقد وتكتسب .. ؟ الحرية ألا تفكر فينا .. ألا تفكر في دمنا المراق .. النار والحرية والحياة والقلق .. نريد أن نعيش سعداء .. والسعادة كما الحرية لها ثمن .. لقد حيرتنا أيها الإله .. لقد حيرتنا الحياة .. لا مفر من النضال .. لا مفر من الركض خلف السراب الأحمر .. خلف الحرية .. لقد أمسكنا بك أيتها الحرية .. وكنت جميلة .. رحبتي بنا .. وعانقتينا بدفء وصدق  .. آه كم أنت رائعة أيتها الثورة .. كم أنت رائعة يا ليبيا التي نريد .. يا ليبيا الحرة .. يا ليبيا رياح القبلي ونهر الليثي وأكاكوس والبحر والواحة والجبل والصحراء .. يا ليبيا عمر المختار .. يا ليبيا شباب 17 فبراير .

القيم العالمية النبيلة في العالم الحر تساعدنا .. تقف إلى جانبنا .. الثورات التاريخية كالثورة الفرنسية وغيرها تحترم وتقدس دمائنا .. تنصت إلى صوتنا الشجاع الذي تعالى يوم 17-2-2011 بهتاف " الشعب يريد إسقاط النظام " مع تحفظي على كلمة نظام ، حيث الوضع خلال 41 سنة ماضية يمكننا أن نطلق عليه (  الفوضى غير الخلاقة ) فالمعروف إبداعيا أن للفوضى جمالها وسحرها وتألقها  حينما تنبع من محراب العفوية والتلقائية والصدق .. والأحرى بالشباب أن يهتفوا ( الشعب يريد إسقاط الفوضام ! ) تحريف بسيط من أجل الإيقاع المألوف للثوار. . ما عاد الشعب يحتمل أكثر .. احتقن حتى انفجر .. مل من الكذب اليومي الذي يمارسه القذافي وزمرته .. مل من الدجل وكبح الحريات والاعتقالات وحالة عدم الاطمئنان التي باتت تلازم المواطن الليبي .. لا يوجد قانون ولا دستور ولا تشريعات .. لا يوجد إلا صوت واحد هو صوت الزعيم .. هو يفصل وأنت تلبس .. قد يقتلك في لحظة .. قد يجعلك غنيا .. قد يطردك من وطنك .. قد يهدم ناديك الرياضي الذي تعشقه .. أو ضريح بطلك الخالد شيخ الشهداء عمر المختار .. ليس قد بل لقد فعل هذه الأمور بكل وقاحة .. ضاربا إلى عرض الحائط بمشاعر عشاق الرياضة وبمشاعر الشعب الليبي العظيم .. أي أنه يجعلك طيلة حياتك تعيش على أعصابك .. خائفا على حياتك على شرفك وعرضك وعلى مالك القليل الذي كسبته حبات عرقك طيلة العمر ..  يشعرك أنك متسول .. وأنك حمارا يحمل على ظهره  أكياس مجده الفارغ  .. يشعرك أنك قرد يجب أن تسليه بصمتك وخنوعك ورضاك بالأمر الواقع .. يشعرك أنك خلقت فاشلا وستظل فاشلا حتى وصولك إلى القبر.. يمنع عنك كل تألق .. يمنع عنك كل شيء يضيف إلى كرامتك وإنسانيتك .. يمنع عنك التعليم الجيد .. والعمل الجيد .. يراقبك كل لحظة .. يستفزك كل لحظة .. وعندما ترفع رأسك محتجا أو معترضا فأنت خائن للشعب .. يزج بك في السجن أو يقتلك .. وبعدها يمنحك تعويضا ماليا عبر ولي عهده سيف الذي يجيد الانجليزية ونحن لا نجيد إي لغة لأن أباه سرق نقود تعليمنا وحرمنا من الدراسة في الخارج ، يمنحك عبر سيف تعويضا ماليا وكأنك سلعة اشترى حياتها وحريتها بثمن بالطبع ليس من جيبه إنما من أموال الشعب الليبي التي نهبها عام انقلابه 1969م مستغلا مروءة  الشعب الليبي وطيبته وكرمه وحبه للحرية حيث أعلن صبيحة الانقلاب العسكري بيانا مليئا بشعارات الحرية والاشتراكية والعدالة والمساواة والوحدة العربية متماهيا مع شعارات الزعيم جمال عبدالناصر الذي على الرغم من أن نظامه السياسي ديكتاتوري وانقلاب عسكري أيضا إلا أن شعوب العالم مازالت تكن لذلك الرجل الكثير من التقدير والاحترام .

لقد سرق هذا الدكتاتور الأرعن وأسرته قسما من حياتنا .. علينا أن نستعيده بأي طريقة ، لقد أعادت لنا ثورة الشباب منه الجزء القليل ومازال الكثير الذي سنطالب به ونناله لينعم به صغارنا وصغار كل الشعب الليبي .

ولقد صوّر لنا شاعر ومغني شعبي لا أذكر اسمه الشخصي الآن لكنه ملقب ( بالبولندي ) يعيش في بلدة بطة الليبية بالجبل الأخضر قرب مدينة المرج في إحدى أغانيه الشعبية الجميلة الانقلاب الذي قاده الملازم  معمر القذافي  والذي ظنه أغلب الناس في بدايته أنه ثورة تعبر عن طموحات وآمال الشعب الليبي مستندين إلى شعاراته التي تبناها  حيث غنى قائلا :
" غارن اطناش ذيب على غنم في مراح رايضة  "

ونظرا للوشاة في جميع التخصصات الذين شغلهم القذافي وبثهم في كل قطاعات الدولة فقد تم تفسير هذه الغناوة من قبل أحد الشعراء الضالعين في الشعر الشعبي حيث اعتبر الاطناش ذئب هم أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي يتزعمه القذافي .. والغنم السارحة بوداعة في الحقل الخصيب هم الشعب الليبي .. والمراح هو العهد الملكي بزعامة الملك إدريس السنوسي والذي اتسم بالهدوء والسلام ووجود الدستور والسقف العالي للحرية .

والغناوة هي قصيدة شعبية ليبية بالدارجة من بيت واحد يغنيها المغني بصوت حاد غير مفهوم بالنسبة للمتلقي غير البدوي الذي لم يعش في مناطق انتشار هذا النوع من الغناء ، ولقد وصفها غراسياني السفاح الايطالي إبان الغزو الطلياني لليبيا في كتابه برقة الهادئة أو المهداة  بأنها أي الغناوة تشبه عواء الذئاب .

وتتميز هذه الغناوة بالبلاغة النافذة والاختزال المدهش وتؤثر في النفوس كثيرا وقد تثير الأعصاب أيضا وذلك لقوة بنائها ومتانة حبكتها الإبداعية ولكل غناوة هناك رد عليها .. ودائما في حفلات الغناء الشعبي يلتقي شاعران أو مغنيان الأول يطلق غناوة والآخر يرد عليها بغناوة متساوقة معها أو فاتحة هم جديد في درب المشاعر والأحاسيس النبيلة .

ولقد كان لهذه الغناوات والأهازيج دور كبير في بداية ثورة الشباب حيت غطت الكثير من الجدران في كل المدن معبرة عن إرادة الشعب ومصورة حريته ومبرزة إنجازه شبه المعجز .

والنظام الدكتاتوري الليبي قد لا يتأثر بمقالة أو قصة تنتقده لكن يتأثر جدا بأي غناوة شعبية تتناوله ، لأنه يعرف أن انتشار الغناوات بين أبناء الشعب الليبي كانتشار النار في الهشيم خاصة بواسطة رسائل الموبايل أو الفيس بوك أو الحديث اليومي .. بينما المقالة أو القصة فيقرأها عدد محدود من الناس حيث لدينا بسبب نظام التعليم الفاشل خلال حقبة القذافي أزمة قراءة حادة نحتاج إلى جهد مضاعف كي نعيد القراءة إلى ما كانت عليه سابقا في عقد الستينيات من القرن العشرين حيث كانت لها أولوية وعادة حميدة في كل البيوت حتى أنك تجد طوابير طويلة من أجل الحصول على نسخة من جريدة .

تم بالطبع القبض على الشاعر والغناي الجميل البولندي وسمعنا سريعا أنه استشهد تحت التعذيب وتألم كل عشاق غناوي العلم .. وتألم الفن نفسه .. وبكت غابات الجبل الأخضر الذي احتفى صداها بغنائه العذب .. ولا أحد استطاع أن يحتج .. لقد كان القذافي خانق الجميع .. أي معارض أو محتج يدوس عليه بالأقدام .. وزمرته وغوغائيه يصرخون .." سير ولا تهتم .. انصفوهم بالدم" .. وها هو مازال يمتص الدم كل دقيقة .. يعيث فسادا في كل مكان من العالم .. كل تراب الأرض سيحاكمه .. وسيرفض أن يحتوي جثته عندما يموت رغما عن أنفه مثل كل الناس .

قبل الثورة في 17 -2-2011 كان يحظر أن نتكلم مع غير تقاة وهم قلة للأسف  أو نكتب عن مثل هذه القضايا .. أما الآن فأسطورة القذافي انتهت .. شباب ليبيا أسقطها .. أسقطها إلى الأبد .. لا يمكن أن يأتي دكتاتور جديد إلى ليبيا .. لقد فهم الليبيون الدرس .. وطبقوه عمليا .. رأوا النور الحر فتتبعوه .. النار التي كانت بينه وبينهم أطفئوها بأمطار الشجاعة .. بأمطار الدموع .. كل ثائر لديه أسرة .. لديه شرف .. لديه كرامة .. لا يسمح بأن يتم تمريغها في وحل الدكتاتورية من جديد .. بأي شيء يتميز القذافي حتى يحكمنا .. ربما لأنه يكذب كثيرا .. ويخون كثيرا .. ونعترف أن في السياسة كذب .. لكن مرة مرة .. وليس كل يوم أو كل دقيقة .. ويكون الكذب لمصلحة الشعب .. وليس لمصلحة الكرسي .. أي يكون كذب أبيض يتلاشى أمام نور الشمس وليس كذب أخضر ينبت ويرتفع ويجعلنا فضيحة أمام العالم .. بصراحة بعد الثورة الشبابية صرت اعتز بليبيتي .. صرت شامخا أكثر .. شعرت أن كرامتي قد تم غسلها .. أما أيام القذافي الله لا تعيدها فكلمة ليبي لابد أن تحضر لك وجه القذافي وزمرته .. لابد أن تقف في الطابور .. أن تخيم على جبينك الشبهات .. الآن حرية .. يمكننا الحديث عن كل شيء .. ليس هناك شيء مسكوت عنه .. لم نعد نخاف المخابرات والأمن الداخلي والخارجي .. سنكتب جيدا ونتألق جيدا ونفوز في مباريات كرة القدم ونتألق في عالم الفن والاقتصاد والسياسة والدين وسيظهر منا الفلاسفة والعلماء .. وسيكون التعليم في ليبيا راق جدا .. والخدمات الصحية 100% ولن تكون هناك بالوعات خراء فائضة في الشوارع .. سيشفطها القذافي معه ويشربها نضير قطعه للماء والكهرباء على أطفال مصراتة والزاوية والزنتان وكل جبل نفوسة  .. وكل مواطن سيتقن عمله وسيؤديه جيدا .. سيعمل الليبيون بروح الفريق الواحد .. ليس لدينا الآن مشاكل في الزعامات أو من يقود البلاد .. ليس لدينا الآن مشاكل بين القبائل .. الثورة للجميع وخيرها للجميع .. والحرية للجميع .. نحن سعداء الآن لأننا أبدعنا ثورة .. انتصرنا على الظلم .. تحرير بقية المدن مسألة وقت .. هي الآن تحررت في نفوس الليبيين .. لا يمكن أن يظل القذافي طويلا ماسكا بالمسدس مانعا الناس من التظاهر والقضاء على أي شيء يمنع حريتها .. الحرية معنا .. الديمقراطية معنا .. حقوق الإنسان معنا .. الشهداء معنا .. التاريخ معنا .. ولقد ضحينا بحياتنا .. فالحياة قد احترمتنا وأنصفتنا .. منظرك بشع أيه الدكتاتور وأنت تقتل .. مزيدا من القتل .. مزيدا من البشاعة .. مزيدا من البراز السام ... أرجوك أن لا تجنح إلى السلام لأنه نظيف وشفاف جدا .. الكتابة الآن صعبة .. الإبداع الآن صعب .. الدكتاتور تحطم .. والكاتب يحتاج إلى دكتاتور آخر كي يواصل النزف .. الحرية دائما تحتاج إلى دماء ؟ وهل الدماء أيضا تحتاج إلى حرية كي تكتب ؟ سأقول لا أدري وأترك للقارئ مهمة حل الأحجية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 * روائي ليبي

هناك 3 تعليقات:

  1. محمد الاصفر كلب من كلاب القذافي للعلم

    ردحذف
  2. احسنت يا اخى بارك الله فيك سلمت يدك التى خطت هده الكلمات وكثر الله من امثاللك و بالرغم من مما واجهه الشعب الليبي من محن و تدنى المستوى الثقافى سيعمل مثقفينا على النهوض بمن يحتاج الى المساعدة .

    ردحذف
  3. بسم الله الرحمن الرحيم(قل ياعبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم)لقد اعجبني اسلوب الكاتب هذا الاسلوب السلس والرائع ولكني عندما استرسلت في القراءة رأيت ان الكاتب لا يملك ادب الحديث مع الله سبحانه وتعالى وهو يقول(لقد حيرتنا ايها الاله)ان الحيران هو الذي استهوته الشياطين في الارض .اما المؤمن فلا يكون في حيرة من امره بل لقد جعل الله له الاسباب الناجعة للخروخ من حيرته. يقول النبي صلى الله وسلم(عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير اذا مسته سراء فشكر كان خير له واذا مسته ضراء فشكر كان خير له)والمؤمن يبتلى على قدر دينه ونحن ابتلينا بالطاغية كما تبتلى الجميلة بالطلاق ولكننا صابرون وعلى الدرب سائرون بدون يئس من رحمة الله او تسخطا على ارادته ولن نخطاب الله خطاب الجافي اليائس من رحمته .اخيرا الحديث يطول والمجال لا يتسع للتوضيح ولكن اللبيب من الاشارة يفهم وانت ايها الكاتب لعلك فهمت قصدي السلام عليكم

    ردحذف