الأربعاء، 27 أبريل 2011

حاوره خالد المهير : المفتي : مصراتة تاريخ حافل بالتفاصيل المثيرة


 
وسط ركام الخراب والدمار والقتل والترويع تحمل مدينة مصراتة الليبية في بطنها سؤال الهوية والتاريخ ،فهي المدينة " الباسلة " التي تعني ليبيا،فقد ظلت طيلة الأيام الماضية تتحدى كتائب القذافي بصمودها البطولي الخلاب، لكن لاأحد يسأل عن السرالكامن وراء كل هذه القدرة.




المفكر د.محمد المفتي طبيب جراح متخرج من بريطانيا (1968) يعمل ويقيم في بنـغــازي. وقد أمضى عـقـدا كاملا كمعـتـقل سياسي إبان السبعينيات. وفي الأعـوام الأخيرة أعطى جزءا كبيرا من وقـتـه للبحث الفكري. وقد أصدر عدة كتب في تاريخ الطب والعلوم،وهو أفضل من يمكنه أن يلقي الضوء على مدينة مصراتة التي برزت خلال الثورة الشعبية الحالية، كقلعـة للصمود العـنـيد.

نشرالمفتي سلسلة كتب في التاريخ الاجتماعي الليبي منها "هدرزة في بنغازي" و"سـهاري درنة" و" الأيام الطرابلسية". ونشر كتابا عن روافد الهوية الوطنية الليبية بعنوان " هذا الوطن الذي يسكننا" وآخر عن العسف والاسـتبداد والديموقراطية بعنوان " بنية الثقافة وأزمة التحديث".

وتناول جوانب من التاريخ الليبي السياسي الحديث "المـحظـور" في كتابين هما " السـعداوي والمؤتمر: بين الطمس والتمجيد" و "مشـاهد من تأسيس الدولة الليبية". وله تحت الطبع كتابين هما "زمن المملكة" و " جمعية عمر المختار: طموح للمعارضة الديموقراطية في مجتمع تقليدي".

كما كتب دراسـة هامة عن تاريخ مصراتة من منظوره المتميز في إعادة قراءة التاريخ الليبي.



* د.محمد مما تـسـتـمد مصراتة صـمودها البطولي اليوم في وجـه كتائب النظــام؟

*الصمود في مواجـهة العدوان، ليس في اعتقادي وليد شـجاعة وبطولات فردية، وليس فقط دفاعا عن المكان. الصمود الجماعي انعكاس لبنية اجتماعية. ولعل تاريخ مصراتة يساعدنا في فهم ما يحدث اليوم.

*هل إذن من تعـريف سـريع بمصـراتة؟

*اسم مصراتة هو أصـلا اسم قبيلة من قبائل البربر أو الأمازيـغ، سكان ليبيا الأصليين. وعرفت منطقة مصراتة استقرارا بشريا منذ العصر الروماني بالنظر لخصوبة أرضـها. وقديما ظهرت عدة مسـتوطنات هي التي نسـميها الآن أحياء. ويذكر الحسن الوازن ( أو  ليو الإفريقي )، في كتابه " وصف إفريقيا " ( 1518 ) أن أهل مصراتة اعتادوا تبادل السلع مع سفن البنادقة،ويحملون بضائعهم إلى أنحاء الصحراء الجنوبية، التي يجلبون منها الزبـد والمسك ليحملوها من جديد إلى تركيا محققين ربحا وفيرا. مصراتة أيضـا كانت محطة على طريق القوافل العابرة إلى الحج.

ولكل حي من أحياء مصراتة وليـّه الصالح ومسـجد وأشـهرهـا مسجد بن غلبون وزاوية المحجوب التي تأسـست في القرن 14. مسـجد الصوفي الشيخ أحمد الزرّوق، المغربي الأصل، والذي يعود إلى القرن  15 .. وهناك أيضا ضريح الولي سيدي عبد الرؤوف، وهو قائم على كهوف أرضية، اتخذها المجـاهـدون ضد إيطاليا مخزنا للسلاح والذخيرة .



*ماذا عن مصراتة اليـــوم؟

*مجرد مدينة ليبية أخرى. لكن تاريـخـها حافل بالتفاصيل المثيرة.



*ريف؟ مدينة؟ واحة؟  أم قرية؟

*إنها كل هذه الأشياء معًـا. إنها مدينة ولا شك، بتعدادها الذي يفوق نصف المليون وبشوارعها الرئيسية العريضة والجيدة الرصف.. وبدكاكينها .. بل وبها سوبر ماركت .. وبها ورش، وصيدليات وعيادات خاصة. لكنها بدون تاكسيات أو حافلات أجرة .. وحين تخرج من الطرق الرئيسية .. على بعد خطوات تجد نفسك في الريف. مصراتة أيضا منطقة زراعية مترامية .. فيها ملايين النخيل وأشجار الزيتون .. لكن الغزو الخرساني واضح. باختصار مصراتة مجرد مدينة ليبية أخرى.

أم هي أكثر من ذلك: بها مصنع الحديد والصلب، و14 مطبعة حديثة تؤهل مصراتة لتكون بحق عاصمة الطباعة في الشمال الإفريقي كما قال أحد الناشرين. وبها سوق حرّة تحت الإنشاء، ومصنع النسيم لمنتجات الألبان وهو من القلة الحائزة على علامة الجودة الليبية. نخبة مصراتة باختصار لديها رؤية متقدمة وفـعالة.



*نود منك تعريفنا بتاريخها السياسي والنضالي؟

*صـمـود مصراتـة ليس جـديدا على أهلها .. أهل مصراتة بقيــادة المرحوم رمضان السويحلي كانوا بين أبطـال معركة القرضابية (29 ابريل 1915) أعظم معركة في تاريخ الجهـاد الليبي،لأنها المعركة التي دحر فيها المجاهـدون جيشا إيطاليا ضخما.

ولأنها المعركة التي شارك فيها كل الليبيون، فقد تصدى للجحافل الإيطالية أبنـاء قبيلة المـغـاربة سـكان المنطـقـة الممـتـدة من سرت إلى إجدابيا .. وهاجم عرب الجنوب بقيادة سيف النصر عبد الجليل من الغرب .. لكن الذي حسم المعركة هم جماعة مصراتة الذين انقضوا من الشمال أو من وراء الجيش الإيطالي.

وأخيرا لأنها القرضابية التي قادت إلى تحولات سياسية هامة وبالتحديد إلى اســتقلال دواخـل طرابلس. فتأسست حكومة مصراتة برئاسة السويحلي وهذه قادت بدورها إلى تأسيس الجمهورية الطرابلسية. كما تأسست إمارة إجدابيا بزعامة السيد إدريس السنوسي .

معركة القرضابية  لم تستمر سوى بضع ساعات .. لكنـها تشغل مساحة عريضة في الضمير التاريخى الليبي،ربما لأنها تشعل في الذاكرة شتى العواطف المتناقضة، فهي وإن كانت مذبحة لجيش العدو إلا أنها قادت في ما بـعـد إلى صراعات دموية بين الإخوة.

مصراتـة أعطت الليبيين أيضا البطل ســـعـدون السويحلي الذي كان عسكريا، أسطـوري الشـجاعـة .. وفي ظني أن صورتـه قابـعـة في ذاكرة أبناء مصراتة اليوم. وكان سعدون من خريجي المدرسة الـعـسـكرية التي أنشأها نوري باشا. وقاتل سعدون الطليان في معارك الساحل، والنقازة، والمرقب، وفي معركة يوم السبت دفاعاً عن قصر حمد. وتميز سعدون عن سـلفـه رمضان بعلاقاته الطيبة مع الجميع.  

ومن أبناء مصراتة المجاهدين كان البشير السعـداوي مؤسس حزب المؤتمر الوطني وزعيمه،الذي وحـّد معظم الحركات السياسية في طرابلس بين عامي 1948 و 1952 من أجل استقلال ليبــيا ووحـدتـها. وكان السعداوي قبل ذلك مناضلا في الشام، ثم مستـشــارا للملك عبد العزيز آل ســعود.



*ماذا عن حـكـومة  مصــراتة؟


*قـد لا يعرف الكثيرون أن مصراتة، كانت دولة قبل تسعين عاما.. بل دولة مستقلة!!  فإثـر معركة القرضابية، وبعد انسحاب الطليان من الدواخل تمتعت مصراتة باستقلال ذاتي تحت زعامة رمضان السويحلي التي كانت قاسية. وكان من بين مستشاري السويحلي نوري بي - شقيق أنور باشا القومي التركي الشهير- والذي أسس كلية عسكرية ومصنعا للذخيرة.

وكان هناك أيضا عبد الرحمن عزام الذي سـيتولى عام 1945 أمانة جامعة الدول العربية عند تأسـيـســها. وكانت تصل حكومة مصراته غواصات ألمانية تحمل مساعدات وأسـلحة من تركيا.



*متى قامت الجمهورية الطرابلسية؟

*في 16 نوفمبر 1918 ، بمسجد المجابرة في مسلاته، أعلن قادة الجهاد في إقـلـيم طرابلس تأسيس الجمـهـورية الطرابلسية. وهناك تم اختيار مجلس " أعضاء الجمهورية (مجلس الرئاسة) من رمضان السويحلى وسليمان البارونى وأحمد المريض وعبد النبي بلخير. كما تم اختيار مجلس شورى الجمهورية لممثلي جميع القبائل برئاسة الشيخ سوف المحـمـودي.

*ماذا بـعـد ذلك؟

*لم تدم الجمهورية الطرابلسية سوى سـتة أشـهر تقريبا بالنظر لاندلاع حروب أهلية بين القبائل. وفي سنة 1919 ، بدأ الطليان يضغطون للتفاهم مع قادة الجهاد بالنظر، وتم الوصول إلى ما عرف بصلح بن يادم ..  الذي قـاد إلى إشـراك أهل البلاد في الحكومة المحلية. لكن تلك الترتيبات لم تدم طويلا خاصة إثر اسـتيلاء موسيليني على السلطة في روما. وزحفت الجيوش الإيطالية لاسـتعادة سيطرتها على دواخل ليبيا وكان هجـومها الأول على ميناء مصراته في 1922 .

وبعد استـشــهاد ســعدون السويحلي في معركة المشـَرّك، التحق رجاله بعمر المخـتــار في الجبل الأخضر، وكانوا حوالي 200 مقاتل .. وعُرفوا بعدها في برقة بـطابور السويحلية  أو طابور مصراتة.



*حدثنا عن مكانة مصراتة في النسـيج الاجتماعي الليبي؟

*كتبتُ قبل سنوات دراسة مطولة عن مصراتة بعنوان " مصراتـة .. مسـداة النسيج الليبي" والمسـداة ( أو المسـدة في الدارجـة الليبية)، هي الخيوط الأسـاسـية في نسج السـجادة ( أو الكـلــــيم عند الليبيين ) .. أي الخـيوط التي تربط عليها عقد الصوف.

ما الذي قصـدته؟ إنك سـتجد أبنـاء مصراتـة في كل مدن وواحـات وقرى ليبــيا .. نصف سكان درنة من مصراتة ، ربع سكان بنغازي من مصراتة .. وكذلك طرابلس .. لكن المصراتيون لا يتـعاطـون السـياسة عـادة .. بل هم تجــار .. شـبكة التجــارة في ليبـــيـا يديرهـا أبنـاء مصراتة. ولذلك قلت وأعـتـقـد أن تجار مصراتة هم من وحـّد المجتمـع الليبي.



*وكيف تحول أهل مصراتة إلى تجــار ليبــيا ؟

*في العصور الوسطى كانت تجارة الصحراء مع أفريقيا تتم عبر واحـات الجنوب الليبي مثل مرزق وغدامس، وكانت تجارة مؤسـسة على استيراد الذهب من تومبكتو ومملكة غانا آنذاك.

بعد الكشوف الجـغـرافية، تحولت التجارة مع أفريقيا إلى سواحل أفريقيا الغربية. قي ما بـعـد ازدهرت الحركة التجارية عبر طرابلس، مع بلاد السودان وهـو الاسـم الذي كان يطلق على السودان وتشاد والنيجـر ومالي .. كمصدر للرقـيق وريش النعام بالدرجة الأولى وتصدير أقمشة ومصنوعات أوروبا إلى الجنوب.

هنا برز دور مصراتة .. فهي أقـرب مسـتـقـر بشري منتعـش بمياهه وزراعته خاصة لإنتاج غذاء القوافل من تمر وحبوب وزيت! وهكذا أمسـت مصراتة مركزا تجاريا، بين طرابلس وبلاد السودان.

وبالطبع اكتسب أهلها خبرة في التعامل والكسب والاستثمار، تراكمت مع الأجيال .. واكتسب تجارها قيما وسلوكيات ومهارات .. ينسبها الليبيون عادة لشخصية التاجر المصراتي: كالحرص والكتمان والتوفير، وتحمل المشاق، وروح الاستثمار وأيضا الاستعداد للسفر والاستقرار بعيدا عن الأهل.



*أعرف أن لديك رأيا عن مصراتة وبـزوغ الهوية الوطنية؟

*في دراسة سابقة بعنوان " في البدء كان قنانة " ، وهي فصل من كتابي " هذا الوطن الذي يسكننا "، طرحت فرضية مؤداها أن بداية وعي الليبيين بذاتهم وهويتهم كشعب واحد.. ربما كانت قبل قرنين .. وقدمت جملة من المؤشـرات والأدلة على ذلك .. منها تزامن انتشار شعر سيدي قنانة الفزاني باللهجة الدارجة، مع تأليف ابن غلبون لأول كتاب عن تاريخ طرابلس/ ليبيا، وسـعى الأسرة القرملية المتلـيـّـبة لبسط نفوذها على برقة، وتحرر فزان من حكم دولة الكانميـين في السودان لترتبط بالشمال تحت هيمنة أولاد سليمان ..الخ. في اعتقادي أن مصراتة لعبت دورا مكملا .. ولهـذا أقول أن تجـار مصراتـة هم من وحـد الأرخبيل الصحراوي الليبي.



*جميل .. ؟

*لهذا أرى أن الصمود الجماعي، هـو انعكاس للبينة اجتماعية .. أي الانتماء العميق إلى جماعة مستقرة، وإلى ثـقافة تؤكد قيم التكافل والتساند .. وإحساس بأن بـقـاءك مرتبط بالآخرين. في مواجـهـة عدوان مثلا .. سـتجد أن البدو يرحلون ويتفرقون، وربما يلجـئون إلى حرب عصابات إذا سمحت لهم بيئـتهم. بالمقابل المدن الكبيرة سـرعان ما تسـتسـلم. لكن مصراتة مدينة ريفيـة إن صح القول، وبهذا التاريخ الناصــع والنسيج الاجتماعي المتماسك .. ما كان لـهـا إلا أن تصـمـد أمام آلة النـظـام الجـهـنـمية .. هـذا الصمود المذهل والذي تشاركها فيه مدن الزاوية والزنـتــان والجبل الغربي.



أطلال مدرسة نوري باشا الحربية في زمن حكومة مصراته 1916-1920.


المجاهد رمضان السويحلي .



صورة نادرة للمجاهد رمضان السويحلي ( 1916-1920) يستقبل ضباطا أتراك وألمان .


ضريح عبد الرؤوف


مركز مدينة مصراتة

مسجد الولي سيدى أحمد الزروق


مؤسس حزب المؤتمر الوطني الزعيم السياسي بشير السعداوي


 

هناك تعليقان (2):

  1. مصراته ذات الرمال بلادي ..قد جاهدت في الحق خير جهاد.
    وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن القاتل الآن مختلف ويدعي أنه ليبيٌ وأن شعبه يحبه. فكل الشهذاء جرذان حشاشون دماءهم لاتساوي شئاً.
    حسبنا الله ونعم الوكيل

    ردحذف
  2. بارك الله فيك يا د.محمد المفتي,ها انت تسرد لنا بعض من تاريخ مصراتة المشرق الذي هو مغيب عن الليبين,وهذا ليس غريب عن هذه المدينة التي تسطر التاريخ بدمائها

    ردحذف