وصل الظلم في ليبيا الى درجة تساوى فيها الحي والميت، ولذلك اختار الشعب الليبي وفي مُقدمته الشباب أن يُغيرَ المعادلة السياسية وهذا الوضع المزري المهين، وأن لا يبقى مجرد ركام من الأجساد المتحركة في رقعة جغرافية بلا كرامة ولاحرية، وأراد أن يَرقى بآدميته لأن تُحترم وتُصان ولا تخضع بعدَ اليوم لسلطة غير شرعية أهانته وأهدرت عزة نفسه على مَرِ العقودِ الأربعة الماضية.
إن مطالب الشعب الليبي الصبور بدأت منذ أكثر من 35 عاما، وحتى لا نكون مبالغين فلنقل أن بدايات هذه المطالب الشبابية المعاصرة المشروعة كانت منذ ما يقارب العشرين عاما مع بداية التسعينيات تزامناً مع دخول وانتشار الستلايتات التي تمكن الليبيون من خلالها مشاهدة الإعلام المفتوح مما ساهم في الوعي العام ونقل الحقائق وما يجري في العالم يوماً بيوم بشكل أوضح. بدأت الثورة في ليبيا سلمية كما بدأت أخواتها في تونس و مصر، وهذا ليس غريباً على الليبيين، فهي تتماشى مع طبيعتهم المسالمة، فثورة السابع عشر من فبراير بدأت سلمية بين كل مكونات الشعب الليبي الحر.
فهذه المطالب المتمثلة في دفع منظومة الإستبداد والظلم الواقع علينا سواء الظلم والإستبداد السياسي أوالإقتصادي أوالإجتماعي، مطالبٌ مُتمثلة في توفير الحد الأدنى من العيش الكريم إنسانياً ومدنياً، العيش الذي يُناشده كل إنسان معاصر من حريات عامة تسمح لهم من التجمع المدني بأي شكل من الأشكال في إطار القانون، مطالب تدعو الى فصل للسلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، وتدعو لحرية التعبير والسماح بتراخيص مُسهلة لممارسة العمل الإعلامي والإذن بالصحافة المستقلة، مطالب تدعو لتوزيع خيرات الوطن الغالي توزيعاً عادلاً، ليس فقط عائدات البترول ومشتقاته، بل كل الثروات البحرية والحيوانية والمعدنية وغيرها، فليبيا مليئة بالثروات، ولكن عدم الشفافية هي التي تجعل المواطن لا يدري الكثير عن ثروات بلاده، مطالب من شأنها أن توفر أعمالا ووظائفا للشباب الطامح لحياة كريمة مع تحديد الحد الأدنى للأجور التي تضمن هذا العيش الكريم المنشود، وغيرها من المطالب المشروعة، ويكون كل ذلك في إطار القانون والدستور الذي يُنظم حياتهم، الدستور الذي غاب عن الدولة طوال العقود الأربعة الماضية.
السؤال الذي يطرح نفسه هل يُمْنَعُ المواطنُ عندما يُطالب بطريقة سلمية بمثل هذه المطالب المشروعة ، ناهيك عن استخدام الإرهاب والعنف حيالها، بل العنف مقابل شعب أعزل من أي سلاح، سوى العزيمة الصادقة والإرادة الصلبة المصممة على الوصول الى أهدافها وتحقيق مطالبها. إنه من المؤسف بمكان أن تراثنا العلمي والفكري في عالمنا العربي والإسلامي خلال الفترات التاريخية الماضية البعيدة لم يستحدث منهجا أو فكرا أو فقهاً للثورة السلمية أو للعصيان المدني الشعبي عندما يُوجد ظلماً واستبداداً سياسياً، بل نجد من يُحذر من الفتن والدخول فيها أو حتى الحديث عنها.
إن اندلافَ الثورات القائمة اليوم التي لازالت تسعى لتحقيق أهدافها تفرض التفكير العميق لإعادة تشييد صرح فكري ونظري عملي يكون رافداً وداعماً لهذه الثورات لتحقيق المكانة التي تستحقها أمتنا الخيرية من احترام وصون للكرامة الإنسانية. فما يحدث اليوم ثورة حقيقية للشعوب، لا كما قيل عن انقلابات عسكرية بأنها ثورات حدثت في عالمنا العربي من أمثال انقلاب 69، فالثورات المتوالية اليوم أعطت لهذه الكلمة (الثورة) رونقها الحقيقي لا المغشوش.
لقد أدْخِلت ثورة السابع عشر من فبراير طريق العنف وهي رافضة له، والعجيب أن من ينادون اليوم بالحل السياسي لا يعتبرون مطالب هذه الثورة ولا يلتفتون لها إلتفافتة حقيقية، مطالبٌ شأنُها شأن مطالب الثورات الأخرى، مطالب عادلة أولُها هو تنحي هذا النظام الإجرامي بعد أن أمر بسفك الدماء مما أدى الى سقوط شرعيته المغشوشة، وهذا ما أقر به زعماء ومؤسسات رسمية معتبرة. فلقد كان من الأولى للناطق الرسمي لحلف الناتو بأن يُناقش مسألة تسليح الجيش الوطني لثورة السابع عشر من فبراير بدل أن يُصرح بضرورة الحل السياسي لا العسكري! فالشعب الليبي لا يُريد حلاً عسكرياً، لكن لا خيار له الآن أن يعيش مع من قتل أبناء الوطن الغالي، حتى ما يأخذ العدل مجراه أولاً ثم نتعايش، بل أثبت القذافي للقيادة السياسية في تركيا أنه لا يحترم خارطة طريقها التي أولها وقف اطلاق النار، فالعقلية الهمجية للقذافي لا تعرف إلا الأسلوب الدموي المخادع الكاذب. فالتناقض الذي غاص فيه هذا النظام منذ أكثر من أربعين عاماً - الذي لا يمكن أن يُخطأه مُبصر - يَظهر جلياً في عدم وقف إطلاق النار ومحاصرة المدن الآمنة التي لا يوجد فيها إلا المدنيين العُزل، بل وعدم السماح لدخول المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء. إن طبيعة ما يحدث في ليبيا اليوم هو مسألة وجود وبقاء، إما أن تكون أو لا تكون ولا حل وسط بينهما ولا أرضية مشتركة بين الثوار ومنظومة الدكتاتور إلا برحيل الأخير ومحاكمتها محاكمة عادلة.
فالنظام الدكتاتوري فشل في توفير الأمن و السلم الإجتماعي، وفشل في توزيع الثروة توزيعاً عادلاً وفشل في تنمية الوطن تنمية تتماشى مع مكنوناته الطبيعية، فشل في ذلك طيلة العقود الأربعة الماضية، فهل سيفعل كل ذلك الآن، فعلى أي فرصة أو تفاوض يتحدثون، فهذا النظام الدكتاتوري هو الذي زج البلاد الى دائرة العنف وهو المسؤول الأول والأخير عن ذلك، فلهذا هو يُقاتل قِتال اليائس البائس، والثوار يعلمون تماماً أن ثورتهم ثمنها غالية وهم مستعدون لدفع هذا الثمن.
فالحديث على أن الثوار عاجزين عن الحسم العسكري غير صحيح بل الواقع يثبت العكس، فشعبٌ أعزلَ بلا سلاحٍ استطاع أن يسيطر على أكثر من ثُلُثي البلاد، فكيف إذا ماتم تسليح الجيش الوطني للثوار وتدريبهم، فهم أصحاب قضية أساسها العدل والكرامة والحرية، ولعل هذا أحد أهم التحديات التي تواجه المجلس الوطني وجيشه في الإجتماع القادم الذي سيعقد في دولة قطر في الأيام القادمة، فلكم تمنيت أن تُكثف الجهود العربية – وخصوصاً مع مصر ودول التعاون الخليجي - لنجدة الشعب الليبي الأعزل من بطش منظومة الإجرام الدموية، هذه الجهود التي تبدأ بالمطالبة بالإعتراف به – وقد حصل من البعض بطريقة مباشرة أو غير مباشرة – ثم تسليح الجيش الوطني للثوار، وأظن أن الفرصة لازالت قائمة، بدلاً من الآمال التي عُلِقت على تدخل مجلس الأمن، وكأننا نسينا ما حقيقة مجلس الأمن في تجاربه الكثيرة السابقة، ويكفيك أن تتسائل لماذا لم يتم في الأيام الأولى بعد قراري 1970 و1973 عندما قادة الضربات الجوية كلٌ من أمريكا ومعها فرنسا وبريطانيا تدمير القوة العسكرية لكتائب الإجرام التي كانت تقصف المدنيين في الزاوية والزنتان ومصراتة وغيرها من المدن وتدمير الدبابات والمدافع الثقيلة وراجمات الصوايخ التي تتحرك في أرض مسطحة مكشوفة، بل ورصد مصادر خروجها ومستودعات هذه الأسلحة، فأين هي إمكانات محطات الفضاء التي يمكن أن ترصد كل هذه التحركات، وكأن قوات التحالف أعطت الأمل للشعب الليبي ثم بدأت تستخدم اللعبة السياسية.
لقد رأينا كيف قصفت الطائرات الفرنسية الهجوم الذي شنته كتائب الإجرام الأخير على مدينة بنغازي في بضع ساعات بسهولة. فلم يحدث هذا في المدن الأخرى وكان من الممكن إنهاء العتاد والقوة العسكرية لكتائب الإجرام في اسبوع واحد لو كان الهدف هو حماية المدنيين وإنهاء مسلسل حمام الدماء في المدن الأخرى. فلا أدري هل من قتِلوا من المدنيين قبل الضربات الجوية أكثر أم الذين يُقْتلون الآن من قبل كتائب الإجرام أكثر، كما رأينا في الأسبوع الماضي كيف تراخى حلف الناتو عن الضربات النوعية التي قام بها في اليومين الأخيرين مما أسفر عن تدمير أكثر من عشرين دبابة لكتائب الإجرم، فهناك تساؤلات كثيرة تطرح نفسها على أرض الواقع وتدور في نفس كل الثوار والمراقبين لما يجري في ليبيا.
كما أن التسائل المفروض هو: لماذا يتم تجاهل رأي الأغلبية، أليس من قواعد الديمقراطية احترام رأي الأغلبية والنزول على رأيها، فإذا نظرنا الى الوضع الحالي في ليبيا لوجدنا أن أكثر المدن الليبية ثارت وانتفضت ورفضت منظومة الدكتاتورية، فهذه المُدن بمجموعها تمثل أكثر من ثُلُثي البلاد، نقول ذلك بلا مُبالغة، أما المدن التي لازالت هامدة ساكتة (بمجموعها) فنرجوا أن تنتفض قبل فوات الفرصة، وأن لا تَحْرِم نفسها من الشرف بِعَدَمِ مشاركة دماء أبنائها في هذه الثورة المباركة، فالفرصة لازالت سانحة قائمة والتاريخ لا يرحم. فإذا كانت قواعد الديمقراطية هكذا، فلماذا يتم تجاهل مطالب ثورة السابع عشر من فبراير، وعلى أي شيء يُريد أن يتفاوض الإتحاد الإفريقي والنيران الكثيفة لازالت تُطلق. أما فكرة الإستفتاء العام سواءاً على مطالب ثورة السابع عشر من فبراير أو غيرها من نقاط، فإن نتائج هذا الإستفتاء قائمة على أرض الواقع واضحة بالأغلبية كما هو واضح للعيان.
إن الثورات العربية أثبتت أن المصالح الخاصة لبعض القيادات السياسية والمؤسسات الكبيرة في بعض الدول لا ضير عندها أن تبيع مبادئها السياسية والإنسانية بل والأخلاقية، وتفريطها حتى في أقرب حلفائها من أجل مصالحها الخاصة والعامة، فكيف ستثق الأغلبية في ليبيا التي حسمت أمرها بأي مبادرة تسمح لمن يقتل الأطفال ويحاصر الرُضع والشيوخ ويمنع وصول المساعدات الإنسانية لأصحابها بأن يبقى هو أو أحد عائلته في رأس الحكم أو أن يُطلق مبادرة إصلاحية بوضع دستور والبدء الفوري لترتيب انتخابات وغيرها من مناورات لا قيمة لها إلا شراءاً لبعض الوقت.
إن تخليص ليبيا من إرهاب القذافي واجب شرعي ثم وطني على كل ليبي في الداخل و الخارج لا تردد فيه، وفرض على الأحرار والشرفاء من الزعماء العرب أن يُسلِحوا الجيش الوطني الليبي حتى ما يتمكنوا من انهاء هذا الكابوس الذي خيم على صدر البشرية جمعاء، ولعل سماحة الوالد العلامة الشيخ القرضاوي يُفتي لنا بذلك قبل اجتماع الدوحة القادم، فالرحيل مع المحاكمة العادلة لمنظومة الإجرام ثم التفاوض إن احنجنا إليه، وإلا فلا بديل عن تسليح الجيش الوطني للثوار والمقاومة الشريفة، لأن دماء الشهداء لن تذهب سُداً وهباءاً.
إن من أهم التحديات اليوم لثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا هي الوعي بما يقوم به النظام الإجرامي من ألاعيب سياسية من خلال أجنحته الممتدة في العالم العربي والإفريقي والغربي ومؤامراته على ليبيا الحبيبة واستخدام ما تبقى له من أوراق يستخدمها لشراء مزيد من الوقت لبقاءه في السلطة، مع رفع سقف مطالب ثورة السابع عشر من فبراير كما أرادها الثوار.
فلقد بدأت ثورة السابع عشر من فبراير سلمية وانطلقت من مبادئ مشروعة وهاهي اليوم تدفع الظلم عن نفسها وتكشف التآمر من حولها وتعزز المكانة المرجوة لها ، فالضعيف لا يبقى ضعيفا أبد الأبدين والقوة الظلم ستضعف وتزول بإذن الله.
11\04\2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق