الاثنين، 28 فبراير 2011

فارق التوقيت‏


حين حدد الشباب الليبي تاريخ (17 فبراير 2011) يوماً لانطلاق غضبه المكبوت.. ظهرت على الفيس بوك صفحات جديدة تحمل صور الزعيم المزمن.. تتستر خلفها أسماء مستعارة.. وشرعوا يهددون كل من يدعو إلى التظاهر السلمي.. فهاجمناهم ودعونا إلى حظرهم من صفحاتنا.. وقد كان.

وحين انطلقت الانتفاضة السلمية في الشارع قام نظام القذافي بحرق المراحل في مواجهتها.. فلم يستعمل خراطيم المياه.. ولا القنابل المسيلة للدموع.. ولا الرصاص المطاطي.. بل الرصاص الحي الخارق الحارق المضاد للدروع.. ومضاد الطيران.. فالصدور الحاسرة للشباب الغاضب أكثر خطراً على الأنظمة الديكتاتورية من الدروع والطيران.
أنا أتفهم عدم استعماله القنابل المسيلة للدموع.. فهو يعرف أن الليبيين لم تعد لديهم دموع.. فقد استنزفها حين سلّط عصابات اللجان الثورية لشنق الطلبة في الجامعات ونقل الشنق على البث المباشر في التلفزيون وفي رمضان.. ثم قتل أبناء الليبيين في صحراء تشاد ومجاهل أدغال أفريقيا.. ثم ارتكب مجزرة سجن أبوسليم.. هذا غير السجون المكتظة تحت الأرض وفوقها.. وقصف أودية وغابات الجبل الأخضر بقنابل النابالم المحرّمة دولياً.. والجبال السوداء في رأس الهلال لا تزال شاهداً على ذلك.. فالليبيون أدركوا أن ذرف الدموع مرحلة انتهت.
مرتزقة القذافي وأسلحته الأوتوماتيكية التي استعملها منذ اللحظة الأولى في مواجهة الانتفاضة السلمية تفاجأ أنها لم تُجد نفعاً.. وحين سال الدم الليبي الأحمر القاني الفائر الغزير تنفّس الغضب المكبوت لعقود.. فحتى المترددون خرجوا لمواجهة الرصاص الحيّ بصدور مشرعة.. وبعيون تنظر مباشرة في وجه الموت.. لم ينكسر خوفهم وحسب.. بل أخافوا الخوف نفسه.. وسيسجل التاريخ أن القذافي هو أول رئيس دولة يستأجر الأجانب لقتل شعبه..!!
وتحوّل الديكتاتور من خانة المتسلط المخيف.. إلى خانة الخائف المنزوي في جحر تحت الأرض.. وبدأ يبحث عن أسلحة جديدة.. فشرع يخيف الغرب ببعبع الإسلاميين.. وهجرة الجنوب.. والحروب الأهلية.. وأخذ يتحدث عن القبلية وكأن الليبيين لا يزالون يعيشون في نجوع ومضارب يغزو بعضهم بعضاً.. ونسي أنه لم تعد هناك قبيلة في ليبيا من الناحية الواقعية.. فتجد العبيدي وزوجته برعصية وأمه حاسية وجدته لأمه مسمارية وجدته لأبيه ادرسية.. أي تجد في الأسرة الواحدة أحياناً أكثر من خمس أو ست قبائل.. ونسي أن الشباب المنتفض هو شباب الفيس بوك.. وليس شباب النجوع.. وتخويف الليبيين بالقبلية هو مثل تخويف المصريين في ميدان التحرير بالجمال والحمير.. أسلحة من زمن غابر.
لقد نسي القذافي أن الأزمات توحد الناس.. فحين جاء الطليان إلى ليبيا كان الليبيون في ذلك الوقت بالفعل مجموعة من القبائل التي يتقاتل بعضها.. فوضعوا كل خلافاتهم جانباً ووجهوا سلاحهم إلى المحتل.
إن السبب الجوهري لسقوط الديكتاتور ـ من وجهة نظري ـ هو فارق التوقيت.. فالقذافي لم يستطع تجاوز اللحظة التي استولى فيها على السلطة في سبتمبر 1969.. فظل يراوح في مكانه.. يرفع قبضتيه في الهواء ويسب ويشتم منتشياً بأصوات الهاتفين المطبلين له.. ولم يستطع الخروج من هذا الوهم حتى فاجأته ثورة الشعب الليبي.. ثورة شباب ولدوا جميعاً في عهده.. فرض عليهم مقولاته وأطروحاته في المناهج الدراسية.. مادة المجتمع الجماهيري.. والوعي السياسي.. وبراعم وسواعد وأشبال الفاتح.. ولأن الباطل زهوق.. فلم يفلح القذافي بكل وسائله في محو وطمس الهوية والشخصية الليبية الأصيلة.. وحوّل الليبيون مقولات الزعيم المزمن إلى مادة للسخرية.
ولأن القذافي متأخر دائماً في التوقيت فقد جاءت حلوله للأزمة مضحكة.. فهو يعرض الأموال الطائلة على الليبيين بعد أن قتل أبناءهم.. فقالوا له دون أدنى تردد: (هيهات)..!! ثم يقوم بالإعلان على أن الحكومة تزيد المرتبات بنسبة (150%).. ونسي أيضاً أنه لم تعد هناك حكومة أصلاً.. فيستنجد بمشائخ السعودية لإصدار فتوى بتحريم التظاهر..فيرد الشيخ عائض القرني مؤيداً فتوى الشيخ الليبي الصادق الغرياني الذي أفتى بوجوب الخروج وقتال النظام.. فمنذ متى والقذافي يهتم بالدين وفتاوى الفقهاء؟!
وإذا كان زين العابدين قد فهم وهرب.. ومبارك قد فهم وعاند وتنحى.. فإن القذافي لم يصدّق.. فصرخ بصوت متهدج مبحوح: (من يصدّق؟ هذا عقابها؟ معقولة يا عالم؟ هذي آخرتها؟).
ولأن القذافي لا يستمع إلا إلى نفسه.. فهو لم يسمع ولم ينتبه إلى أن الشباب الليبي كتب في صفحاته على الفيس بوك.. قبل يوم السابع عشر من فبراير.. كتبها الشاعر سالم العوكلي تحديداً: (على الحاكم المقيم خارج شعبه أن يراعي الفارق في التوقيت).
***
الأحد.. 27 فبراير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق