القبطان الشهم الكريم
النبيل
الشيخ عبد العظيم
ميلاد الفراوي (رحمه الله)
تعرَّفت عليه قبل
أربعة عشر عاماً، وكان صيته يملأ الآفاق في مدينتي العزيزة بنغازي... حضرت عنده خطباً
للجمعة كان كالأسد على المنابر؛ صوته، خطابه، تفاعله... كانت كلماته تتدفق من قلبه
لتصل إلى قلوب الناس في مسجده المزدحم
كم أحيا الله بتلك
الكلمات والمعاني قلوباً
وذكى بها نفوساً
ونَوَّر بها عقولا
جلست معه في مكتبه
في المسجد بعد إحدى خطب الجمعة تناولنا أطراف الحديث، فتحدثنا عن الدعوة لله، والإصلاح
في البلاد، وجدوى الحوارات بين الدولة والسجون في تلك الفترة (قبل الثورة) ... كان
مؤيداً للحوار بين الدولة والمساجين الذي قُدته في تلك الفترة العصيبة. وداعياً لي
بالتوفيق والسداد.
كما حدثني عن حلقاته
العلمية في التفسير والفقه والعقائد، وقد كان جهده منصباً على التربية والتعليم والدعوة
وتحفيظ القرآن الكريم... كان لا يَكِل ولا يَمل في خدمة الناس والقيام بالأعمال الخيرية.
زُرته في بيته...
أهديت له كتاب السيرة النبوية وكتب الخلفاء الراشدين، ففرح بها فرحاً شديداً، وبعد
اطلاعه عليها هاتفني مُعبراً وممتناً ومباركاً لهذه الجهود في خدمة التاريخ الإسلامي،
سائلاً المولى أن يتقبلها.
لقد ربطتْ بيني وبينه
مودة ومحبة لوجه الله الكريم، وكثيراً ما حدثني عن تأملاته في البحر لكونه قبطاناً
كبيراً فيه:
حدثني عن ليله ونجومه
وشروق شمسه وغروبها
وهدوءه وعواصفه
وعلاقته الخاصة بذلك
المخلوق العجيب والمعجزة الربانية (البَحر)
كم من خَتمة ختمها
للقرآن الكريم في البحر، وكم من تأمل وتدبر لكتاب الله عز وجل وهو في سفينته التي يقودها.
مرَّ الشيخ عبد العظيم
بمحنة وابتلاء كبيرين وتعرض للتعذيب، وكان الشريف الوافي (عضو المؤتمر الوطني) سبباً
في خروجه من السجن بعد أن حدثته بأن الشيخ الفراوي رجل مظلوم وبريء من الأكاذيب والاتهامات
التي ألصقت به في قضايا الإرهاب والتطرف.
لقد التقيت به في
إستانبول لقاء الأخ لأخيه، وكان لا يستطيع الوقوف إلا بصعوبة من آثار التعذيب
رأيت صبراً جميلاً
واحتساباً عظيماً
ورجاءً بالله كبير
طرحت عليه مشروع
السلام والمصالحة الوطنية، فتحمس لذلك؛ حاورني وناقشني وطرح أفكاره، كما حضر مؤتمر
المصالحة الوطنية الثاني في الدوحة، وكان مشاركاً ومتفاعلاً وداعماً... وقال لي":
من أجل السلام في بلادي والمصالحة الوطنية وحقن الدماء أعفو عمن ظلمني".
كان نموذجاً للمثقف
المعتز بدينه
وللوطني الغيور
وللمتفاني في خدمة
الناس
وصاحب الدعوة إلى
الله التي لم تفارق حياته في شدةٍ ولا في رخاء في سفره وترحاله وإقامته. وكان قد حدثني
عن قصة تبرعه لشخص لا يعرفه بأعضائه، وقال لي: استحضرت قول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).
كان في نزهة مع أهله
على شواطئ إستانبول، فرأى شخصين في حالة من الغرق في البحر، دعته مروءته وشهامته ونُبله
لمنيته، فقفز في البحر وهو القطبان الماهر في السباحة، والمعتاد على البحار ليحيي الله
به نفسين لا يعرفهما، لم يسأل عن دينهما ولا عرقهما ولا جنسيتهما، فأحيا الله به (وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). ونال الشيخ حياة الآخرة التي
لا يعلهما كثير من الناس (حياة الشهداء)، وكأن لسان حاله قول الله تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي
مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
لديَّ شعور غامض
بأنه من أهل الجنة ومن الشهداء -بإذن الله تعالى، وكم أتمنى ممن سجنه وهَجَّره وظلمه
أن يتعظ قبل فوات الأوان.
غفر الله لأخي ورحمه
رحمة واسعة وحفظ أهله وشعبه وذريته بحفظه التام (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: 64.
أكتب هذه المشاعر
عن أخي الذي رحل وترك أثراً وسيأتي يوماً لا محالة -بإذن الله-يكون في مدينتي بنغازي
مسجداً كبيراً عامراً يحمل اسم (مسجد الشيخ عبد العظيم الفراوي)، تخليداً لمسيرته وذكراه
العطرة (رحمه الله).
وإن الشعوب الحية
تُنصف أبناءها البررة ولو بعد حين.
د. علي محمَّد الصلابي
27 ذو الحجة 1440 ه
28 أغسطس 2019م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق