الجمعة، 11 يناير 2019

حقيقة الصراع في سوريا الآن


  


 ‏حتى يكون لدى المتابع صورة واضحة عن توزيع النفوذ حاليًا في سوريا، نستعرض انتشار القوى المختلفة جغرافيًا وعسكريًا وسياسيًا، والوضع الذي آلت إليه سوريا بعد سبع سنوات من القتال الذي تعددت فيه الأطراف والجهات المتورطة.
‏يسيطر النظام السوري بدعم روسي-إيراني على معظم أجزاء سوريا، ماعدا منطقتين رئيسيتين وجيوب أخرى متفرقة.
ولا يستطيع النظام البقاء إلا باستمرار هذا الدعم، عسكريًا وماديًا وسياسيًا. هذا مع التأكيد أن التدخل الأمريكي السعودي ضد داعش والنصرة كان من عوامل استعادة النظام لنفوذه وبقاء قوته.
المنطقة الأولى التي لا تخضع لسلطة النظام هي منطقة النفوذ التركي، حوالي أدلب وريف حلب الشمالي المحاذي للحدود التركية، والفصيل الأقوى هناك هو هيئة تحرير الشام، الذي يكاد يتفرد بالسيطرة بعد أن تمكن من طرد فصيل الزنكي، وقلّص نفوذ الأحرار وعلى وشك إنهائه.
‏وقد أثبتت الهيئة دهاء ومرونة، سواء من حيث القبول لدى سكان المنطقة، أو التفاهم غير المباشر مع القوات التركية.
وقد تمكنت الهيئة من خلال هذا الدهاء والمرونة من التفرد تقريبًا بالنفوذ في منطقة تساوي مساحتها مساحة لبنان، على غير هوى الحكومة السعودية والإماراتية وأمريكا وروسيا والنظام.‏يمكن تشبيه ممارسات الهيئة بطالبان من حيث الواقعية في علاقتها بسكان المنطقة، اجتماعيًا وأمنيًا وخدماتيًا وقانونيًا، كما يمكن تشبيه علاقتهم بالحكومة التركية بعلاقة طالبان بالحكومة الباكستانية، فكلا الطرفين يستفيد من الآخر دون إحراج، فلا الأتراك يحمون "الإرهاب" ولا الهيئة عميلة لهم.
‏هذه الواقعية إضافة لأسباب أخرى لا يسمح المقام بذكرها، أعطت الهيئة تفوقًا على الفصائل الأخرى، وحمتهم -نوعًا ما- من القصف الروسي والأمريكي.
يوازي ذلك واقعية من الدولة التركية في تحمل وجود الهيئة، والتفاهم غير المعلن معها مع أنها لاتزال تصنف إرهابية، حتى بعد نأيها بنفسها عن القاعدة.‏
المنطقة الثانية الكبيرة التي لا تخضع لنفوذ النظام هي منطقة النفوذ الكردي الأمريكي شرق الفرات، واستخدام تعبير النفوذ الكردي هو تعبير عن نفوذ الفصائل الكردية، لأن الجزء الأكبر من سكانها من العرب. وهذه النقطة مهمة لعلاقتها بالخطة التركية في التوسع شرقًا، والسيطرة على هذه المنطقة.‏
يحتمي الأكراد هنا بالجيش الأمريكي المتواجد بقوة، ولم يكونوا ليتغلبوا على داعش لولا الدعم الأمريكي الخليجي عمومًا، والسعودي خصوصًا، جوًا وبرًا وعتادًا وسياسيًا وإعلاميًا وماليًا.
وحتى بعد إزاحة داعش، لا يستغني الأكراد عن هذا الدعم، سواءً حماية لهم، أو من توسع نفوذ تركيا.
‏يمثل الأكراد هنا فصيل PYD الذي يمثل الفرع السوري من PKK المصنف جماعة إرهابية في أمريكا، لكن الأمريكان لجأوا إلى هذا الفصيل لتحقيق أهدافهم.
ومن سنة الله في التدافع أن جعل مصلحة أمريكا في يد عدو لدود لتركيا، ومصنف كإرهابي، حتى يعطي حجة للأتراك في تحمل وجود ونشاط هيئة تحرير الشام.‏وتمثل عداوة تركيا لهذه الفصائل الكردية موقفًا قوميًا، تجمع عليه كل الأحزاب التركية تقريبًا، ويصنف خطرهم أكبر خطر على الأمن التركي، وقد أعطى ذلك تفويضًا لأردوغان بدخول سوريا غرب الفرات، وعمل ما يلزم للحد من نشاطهم. وسيكون نفسه مبررًا لتوسع تركيا شرق الفرات بعد انسحاب الأمريكان.
‏وللإنصاف، لابد من الإشارة إلى أن PYD المعروفين بالتطرف اليساري والعلمنة، لا يمثلون كافة المجتمع الكردي المتداخل مع الثقافة العربية، والذي يغلب عليه المحافظة الدينية.بالإضافة إلى أن كثيرًا من سكان المنطقة من العرب شرق الفرات، مستعدون للقتال مع تركيا ضد الجماعات الكردية اليسارية.
‏ويقدّر العارفون بالمنطقة أن تركيا تستطيع لو قررت اجتياح المنطقة، تجنيد ما لا يقل عن مئة ألف من العرب والأكراد المناهضين لـ PYD. وبهذا تركيا تستطيع تجريد PYD من الحاضنة الاجتماعية، وتسهيل هزيمته لو توسعت شرقًا. وكل ما تحتاجه تركيا هو تنفيذ أمريكا وعدها بالانسحاب.
‏لو حصل ذلك، سيكون كل الشمال السوري من جسر الشغور إلى باب الهوى بيد تركيا والفصائل المتعاونة معها. وسيكون بمقدور هيئة تحرير الشام التوسع شرقًا، والحلول محل أي فصيل آخر يعمل بطريقة ارتزاقية، وهو ما سيجعل المنطقة كلها نسخة من التفاهم غير المعلن بين هيئة تحرير الشام والأتراك.‏
وهنا بيت القصد، فهذا ما لا يريده ابن سلمان وابن زايد والسيسي، وما لا تريده إسرائيل، ولا القوى الصهيونية في أمريكا. ويبدو جليًا أن قرار ترامب بالانسحاب كان مرتجلاً ودون تنسيق مع هذه القوى، وهذا ما دعا بولتون الصهيوني المتطرف لتدارك الموقف بتأجيل الانسحاب إلى أجل غير مسمى.
‏إسرائيل ومعها السعودية والإمارات ومصر، يظنون أن سيطرة تركيا على هذه المنطقة ستكون ترسيخًا لنفوذ الإسلام السياسي التركي، وتمكينًا لجماعات جهادية غير قابلة للتطويع، مثل هيئة تحرير الشام. ومن هنا صار هذا الاحتمال أخطر عليهم من الوجود الإيراني، ومن ثم لا بد من منعه بكل قوة.
‏يعتقد تحالف الشر أن إيران قوة عسكرية فقط، ولن تستطيع ترسيخ نفوذها اجتماعيًا وثقافيًا بسبب رفض الأغلبية السنة، لذا فهي خطر تكتيكي قابل للاحتواء، أما تركيا والهيئة فتوسعهما متناغم مع الأغلبية السنية، وتغيير استراتيجي يفتح الباب لتغيير كبير في المنطقة، باتجاه الفكر الجهادي المرن.
‏والحقيقة أن اعتقادهم له وجاهة، لأن الإسلام السني الجهادي الذكي أخطر عليهم من إيران، وطبقًا لحساباتهم، فإن تركيا ستوفر مظلة لتيار جهادي براغماتي، يحل محل التيار الدوغماتي السابق الذي حرق نفسه، وبهذا، يشكل خطرًا استراتيجيًا على المشروع الصهيوني السعودي الإماراتي المصري.
‏هذا التفسير يبين لماذا بادرت هذه الدول بإعادة سفاراتها لدمشق، ولماذا بعثت خبراء عسكريين للمدن التي تحت السيطرة الكردية، ولماذا تنسق على قدم وساق مع إسرائيل والأجنحة الصهيونية في الإدارة الأمريكية، ولماذا تتحدث عن إعمار سوريا رغم أنها قضية غير واقعية.
‏وحتى تكتمل الصورة، لا بد من الإشارة إلى أوضاع الجيوب الأخرى الخارجية عن نطاق النظام السوري، المتمثلة في جيب صغير لداعش في دير الزور، وقواعد عسكرية أمريكية بريطانية في النتف، ونفوذ متفرق لفصائل مختلفة في درعا ليس ذا بال.
‏لا يزال جيب داعش يمثل خطرًا عسكريًا على النظام، والأمريكان، والأكراد، لكن الدوغماتية المبالغ فيها تجعل توسعهم مرة أخرى أمرًا مستبعدًا، واستخدامهم كمبرر لمنع انسحاب أمريكا من قبل الرافضين لهذا الانسحاب، ليس إلا غطاء للسبب الأهم؛ وهو منع التوسع التركي مع الفصائل الجهادية الأخرى.
‏لهذه الأسباب، فإن ترامب سيواجه معارضة شديدة من قبل القوى الصهيونية في أمريكا، وسيضطر لتأجيل الانسحاب أو إلغائه، ولو حصل، فلن يتردد محور الشر السعودي الإماراتي المصري الإسرائيلي من التعاون مع أيٍ كان حتى لو إيران والنظام السوري، لمنع التوسع التركي."

  محمد الأحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق