الخميس، 15 سبتمبر 2011

أحمد الدايخ :الفقه الإسلامي تراثاً واختلافاً


كنا على الدوام نلاحظ تذمر بعض الكتاب والقراء من التعددية والسعة الموجودة في ديننا الإسلامي، مما أدى ببعضهم إلى التشكك في أصل هذا الدين وفى أحكامه، وأدى بالآخرين إلى حصره ومحاولة إبقائه أسيراً في المسجد أو في زاوية من الزوايا التي يتحول فيها القرآن إلى نظم من الحروف التي تتلى للتبرك دون أن يكون له دور في استنهاض همم الناس للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وعمارة الأرض .


وما تأتّى الخطل في الرأي للاثنين إلا لاعتمادهم على منهجية الأحادية في التفكير وتسطيح الأمور أو لعدم قدرتهم على استيعاب مثل هذه المرونة وهذه التعددية التي وهبها الله للإسلام وأحكامه .
فإن الله تعالى خلق هذا الكون وأبدعه وخلق الناس وجعل فيهم من الغرائز والملكات ما يدفعهم إلى الاختلاف وبين أن هذا الخلاف سيظل قائماً بين البشر تبعاً لتعدد مشاربهم وطباعهم واختلاف واقعهم الزماني والمكاني، وإن هذه الشريعة لن تكون بمنأى عن هذه السنة البشرية .
فجاءت لتضع ثوابتاً لا تقبل المساس، وأباحت التعدد فيما وراءها انسجاماً مع جبلة وطبيعة الإنسان .
وإن كان هذا التعدد يعود في شكله العملي إلى أرضية مشتركة من الرؤى الأيدلوجية .
وجاء تطبيقها من الناحية العملية على يد النبي صلى الله عليه وسلم عندما أباح وأقرّ عدة أعمال وعبادات وقعت على أوجه مختلفة من الصحابة .
وما كان فعله صلى الله عليه وسلم وإصداره الحكم بالصوابية على اجتهاد الصحابيين اللذين لم يجدا الماء فصليا ثم وجداه فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر إلا فقهاً منه صلى الله عليه وسلم بطبائع النفوس وعلمه بعدم استكانة أحدها حتى تقوم بعملها آخذةً فيه جانب التحوّط، واقتناع الأخرى بأن عملها هذا قد وقع على وجه صحيح .
ثم إن هذا الدين قد جاء للناس كافة، فلا عجب إن جاء مراعياً لجميع أحوالهم ونفسياتهم وتفاوت مداركهم الأمر الذي أكسبه مرونة جعلته يتصف بصفة الخلود والقدرة على العطاء المتجدد .
قد يجد بعض الناس حرجاً في نفسه أو ضيقاً في صدره أو تقلصاً في عقله عندما يقع ناظره على أحد الكتب الدينية التي تحوى اجتهادات الإمام مالك أو أبى حنيفة أو غيرهم .
ولذلك اصطبغت هذه المذاهب بألوان الظروف المعاشة في المناطق التي ظهرت فيها، رغم أنها تعتمد كلها على تنزيل أوامر الله الثابتة .
إن هؤلاء النوابغ الأوائل عكفوا على مصادر الوحي بحثاً واستنباطاً واستدلالاً لفهم مدلول هذه المصادر في مختلف نواحي الحياة ، فأثمرت محاولاتهم أفهاماً متفاعلة مع واقع الحياة التي كانوا يعيشونها .
فمن عصر الصحابة كان هذا التفاعل قائماً بين مستجدات الحياة وفقه الدين لأقوامٍ انقلبت حياتهم من الكفر إلى الإيمان فانقلبت تبعاً لذلك عاداتهم وأعرافهم فجسدوا الدين في حياة الناس ، وأثروا حضارة ، وأقاموا أمةً بمؤسساتها ووظائفها ، فجاءت اجتهاداتهم واقعيةً تحاكي الواقع ولا تجنح إلى الخيال والمثالية فكانت تحوي الرخصة والعزيمة والتدرج والتأجيل والاستثناء الخ ...
ولا أدلّ على ذلك إلا الاجتهادات التي كانت تتنوع في أقوال عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً .
ومن بعدهم أئمة المدارس الفقهية كأبي حنيفة الذي كان يمشي في الأسواق مما أعطاه علماً بطبائع الناس وأحوالهم ومعاملاتهم أصدر على ضوء هذه المعرفة عدداً كبيراً من فتاويه .
لم يختلف حاله عن حال الإمام مالك الذي كان يراقب واقع المسلمين في المدينة ويتعمق في فهمه حتى خرج بأصل من أصول التشريع لديه أسماه عمل أهل المدينة .
وكذلك كان الشافعي في مراعاته للواقع ولشخوص الناس_ وهم محل إنزال الحكم الديني _ حتى كان له مذهبان يتبع كلّ مذهبٍ منها واقعاً مختلفاً عن الآخر .*
وهذا التراث الفقهي الفكري الموجود بين أيدينا من عزائم ابن عمر إلى رخص ابن عباس إلى أثرية أحمد بن حنبل إلى روحانية الجنيد إلى دفاعات أبي الحسن الأشعري إلى ظاهرية ابن حزم إلى منطقية الغزالي إلى فلسفة ابن رشد إلى موسوعية ابن تيمية إلى اجتماعيات ابن خلدون ما هو إلا كنز يحتوى على جواهر فقهية وأدبية وفلسفية واجتماعية كانت نتاجاً لعقول متحررة عملت على فهم النصوص الدينية وفقاً لمعطيات وقرائن يرجع بعضها إلى ذات العبارة النصية واحتمالها لأوجه عدة من ناحية الدلالة اللغوية .
والبعض الآخر يتعدّاها_العبارة_ إلى الكون وطبيعة الحياة التي يعيشها الإنسان والتي يتفق الجميع بأنها متجددة متطورة , مما يجعل الاجتهاد في النظر والفهم وما يحصل منهما من نتائج متجددة هي أيضاً .
فلا يجب أن ينال منّا التراث الفقهي كل هذه الأحكام النقدية القاسية لأن كثيراً من هذه الانتقادات لم تُنزل هذا التراث في ظروفه التاريخية وقالبه الزمني , وأغفلت أسبابه الموضوعية وتفاعله مع البيئة التي نشأ وتطور فيها .
فلا داعي لأن يتنكر المرء للخلاف أو للتراث ، أو أن يضيق ذرعاً ويتوه وسط تفسيراته للأحكام الجزئية التي قد تتضارب فيها أقوال الأئمة فيستسلم لدواعي الشكوك لديه والتي لو أبدلت بالسير في الأرض والتعرف على تاريخ الأمم سقوطاً ونهوضاً ، واكتشاف آيات الله في الكون و النفس والنظر في آليّات التغير الاجتماعي التي وردت في القرءان الكريم . لاستكانت نفسه، واستراح باله ، واقتنع عقله ، ولجمع بين آليات فهم الواقع وإيمانه بالخطاب الإلهي المتجدد .
ولأعطى القدسية لكتاب الله الكريم ولسنة النبي الأمين ، وآمن بأن ما عدا هذين المصدرين من أفهام البشر هو كسب بشري قابل للاختبار والتصويب وليس له صفة القدسية .
ولعلّ هذا ما عناه الإمام مالك عندما قال : كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر .
فإن فهم الإسلام لم يكن يوماً حكراً على إنسان أو جماعة أو طائفة أو عصر فلا كهانة ولا أحباراً في ديننا، بل كان الإسلام معيناً ينهل منه كل إنسان ويتهذب بهديه ويستنبط من قواعده وأسسه متى ما استجمع آليات ومعدات الفهم .
وسبب ذلك { أن النص الديني يحمل من المعاني ما يناسب كل البشر في كل مكان وزمان باعتبار خاتمية الوحي وهذا ما يجعل المجموع النصي يحمل من كنوز المعاني مالا يستنفذه فهماً جيل واحد من المسلمين بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله وذلك وجه من وجوه الإعجاز } (1) .
وهذه ليست دعوة لإسقاط التراث والتوجه إلى مصدر الوحي من القرءان والسنة النبوية وبناء فهم جديد منهما لا علاقة له بالتراث فهذه دعوة تفتقر إلى أبسط أساليب البحث العلمي أولاً .
وثانياً نحن محتاجون لهذا التراث الفقهي الفكري الذي وضعته أفهام السابقين والتي كانت أقرب للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي زامنت نزول الوحي . كما أنها قد تعرضت على مرّ السنين إلى النقد والتمحيص من قبل العلماء على المستوى النظري ، وتعرضت أيضاً للاختبار والتجريب من قبل الناس على المستوى العملي .
فعليه ينبغي أن يكون التراث وسيطاً بيننا وبين القرءان والحديث ، على أن تكون وساطة استرشاد واهتداء وليست وساطة إلزامٍ وتقليد ، وذلك لأن الواقع الإنساني لا يجرى على نسق ثابت في تحول أوضاعه _وإن كان متشابهاً في أصول مشكلاته _ وشؤون الناس في تغير دائم الأمر الذي يجعل الاجتهاد ضرورياً لكل عصر .
وقد يقول قائل إن فتح باب الاجتهاد والنظر والحوار لا شك أنه سوف يدخل علينا مالا تحمد عقباه ويأتي بكل ما هب ودب، وإن كنت أتفق معه في بعض ما قال، فإني اختلف معه في أن عصمة الأمة عن الخطأ وتواتر الوحي في الثوابت والأصول التي تحمى كيان الشريعة من العبث، وسن الله لسننٍ من شأنها أن تبقي الأصلح لن تجعل لضياع الدين سبيلاً .
إن جمع الناس على عقل واحد ومنهج واحد يبقى أمراً غير مقبول ومستحيل في نفس الوقت ، والأجدر بنا هو جمع الناس على أدبيات واحدة .فالخلاف قدر لا حيلة في دفعه ولكن الحيلة في كيفية التعامل معه .
و { إن الاتفاق سبب للملل المؤدي إلى سوء العشرة وهو طريق إلى انعدام التنافس لإثبات السبق والجدارة بالصواب أما الاختلاف فبإحسان التعامل معه ستكون نتيجته النهائية وفاقاً أكيداً } . (2)
ولعله يحسن بي أن أختم بكلامٍ للإمام القرضاوي ساقه في بداية كتابه (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) :لا يزعجني أن يكون في الصحوة مدارس أو فصائل أو جماعات لكل منها منهجه في خدمة الإسلام ، والعمل على التمكين له في الأرض وفقاً لتحديد الأهداف وترتيبها وتحديد الوسائل ومراحلها ، والثقة بالقائمين على تنفيذها من حيث القوة والأمانة أو الكفاية والإخلاص .
ومن السذاجة بحيث أدعو إلى جماعة أو حركة واحدة تضم جميع العاملين للإسلام في نظام واحد، وتحت قيادة واحدة، فهذا تقف دونه حوائل شتّى وهو طمع في غير مطمع . (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كان للإمام الشافعي أقوال وفتاوى تتفق مع واقع العراق الذي كان يعيش فيه , وما إن سافر إلى مصر حتى غير كثيراً من هذه الأقوال , وأصبح يقال قال الشافعي في القديم وقال الشافعي في الحديث .
(1) فقه التدين فهماً وتنزيلاً تأليف الدكتور عبد المجيد النجار .
(2) كلمات تنسب للدكتور الشريف حاتم العوني لم أقف عليها في مطبوع .
(3) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم للدكتور القرضاوي .
--------------------------
أحمد خيرالله الدايخ
امام وخطيب بالبيضاء _ليبيا

هناك تعليق واحد:

  1. الخلاف مشكلة كبيرة فى العالم الاسلامى الان كل فرقة تدعى انها الناجية وان الاخرين كفار و اظن ان من الاسباب الكبيرة فى هذا هو ان الدين الان اصبح ياخذ من الكتب وحتى من التلفاز هذا ان اخذ اصلا

    ردحذف