لقد واجه نظام القذافي المجرم معارضة قوية منذ الأيام الأولي للانقلاب على العهد الملكي في أول أيلول الأسود من عام 1969 م. و قد بدأ الخلاف داخل ما يعرف بمجلس قيادة الثورة وكان أبرز من عارضوا الملازم أول بو منيار النقيب عمر المحيشى و النقيب أمحمد المقريف ، كما برز الخلاف على أشده مع المقدم آدم الحواز و بعض كبار ضباط الجيش الليبي فتخلص القذافي منهم بتهمة الانقلاب و صفى معهم كل من كان يريد التخلص منهم. و دبر تصفية المقريف في حادث مزعوم و قتل المحيشي بعد ما سلمته حكومة المغرب. و تمت تصفية الحواز بإعدامه داخل السجن في مرحلة لاحقة؛ و سوف تطالعنا الأيام القادمة بتفاصيل المحاكمات و الإعدامات التي جرت داخل سجون أبو سليم.
كما قام النظام من خلال فريق من القتلة بتصفية عدد من الضباط الأحرار في السنوات الأولى، كذلك تمت تصفية المناضل مفتاح الهندياني و هو معروف بمدينة المرج بإطلاق النار عليه بعد مواجهة بينه و بين ألقذافي ثم أعلنت الإذاعة الليبية أنه مات بانفجار لغم في منطقة الجنوب. كما تمت تصفية العديد من الضباط بناء على تهم اخترعها جهاز المخابرات بقيادة الخروبي أو بأوامر من ألقذافي شخصيا و في العادة يقوم بالتنفيذ بعض المقربين منه.
أول شهيد بعد انقلاب القذافي
في الشهور الأولى بعد إعلان البيان الأول الذي قيل لنا فيه : لا مظلوم ولا مغبون, بل إخوة أحرار ترفرف عليهم راية الحرية والعدالة، ألقي القبض على مجموعة من كبار الضباط و كان من بينهم العقيد عبد القادر أخليفة و المقدم عبد الحميد الماجري. أقتيد المقدم عبد الحميد الماجرى من بيته في جنح الظلام، وكان واقفا على قدميه، وبكامل لياقته وعافيته، بحجة أنّ القيادة ترغب في مشورته في بعض الأمور. كانت ليلة مظلمة حالكة السواد، كبقية ليالي الأربعة عقود التي تلتها.
و في أواخر شهر يونيو من عام 1970 م , فجعت مدينة درنة بمقتل عبد الحميد احد أبرز أبنائها في حادثة إجرام لم تشهد المدينة ولا البلاد مثيلا لها منذ هزيمة حكومة ايطاليا الفاشية في ليبيا مرورا بعهد الإدارة البريطانية وإلى عهد الاستقلال. مات عبد الحميد تحت التعذيب بسبب مرض السكري حيث استمر في نزف الدم إلى أن استشهد تحت التعذيب؛ و قال أحد المجاورين له في الزنزانة كان ملقى على الفراش فاقد الوعي و الدم ينزف في سطل وضعه الجلادون تحت قدميه إلى أن فارق الحياة.
كان عبد الحميد شعلة من الذكاء المتّقد ، وصاحب خلق كريم ، يتمتع باحترام الجميع بين أبناء جيله، وكل من عرفه فقد كان كثير الإطلاع وصاحب ثقافة واسعة، وكان عسكريا محترفا تخرج في الدفعة الثانية للجيش الليبي من الكلية العسكرية الملكية العراقية عام1957م .
أعيد المقدم عبد الحميد الماجرى إلى بيته في تابوت مغلق سلم لذويه ، وقيل لهم أن المرحوم قد مات بسكتة قلبية. تم فتح التابوت في مربوعة والده فدهش الجميع، وجدوا آثار تعذيب وحشي على جسده، و ما يشبه حروق في قدميه بسبب الغنقرينا التي قضت عليه فهو كان يشكو من مرض السكري، ومعظم أظافر يديه كانت منتزعة، و آثار السياط على ظهره، وعلى كل جسده، كذلك آثار كدمات عنيفة على جبينه، قيل أن عبيد عبد العاطى كان المشرف على تعذيب المقدم عبد الحميد الماجرى وبقية رفاقه، وقيل أيضا أن المشرف العام على تلك الانتهاكات كان الحاج مصطفى الخروبى. و اللواء مصطفى الخروبى في تلك الفترة كان في بنغازي الحاكم العسكري لها و المسئول الأول عن الاستخبارات العسكرية.
كانت هذه الحادثة نقطة انطلاق لمعارضة أبناء مدينة درنة المستمرة للقذافي و نظامه الخائن على مدى أربعة عقود دفعت فيها ليبيا ثمنا باهظا و قدمت تضحيات جليلة من كل المدن و المناطق.
أول لقاء للقذافي بطلاب و أساتذة الجامعة في طرابلس
خلال الأسابيع الأولى من العام الدراسي لعام1969 1970 ميلادية عقد لقاء عام بساحة كلية الهندسة حضره العديد من طلاب و أساتذة الجامعة و تحدث فيه عدد منهم و كان أبرز ما لفت نظري هو كلام الأخ الكريم عبد الرحمان السويحلى فرج الله كربته. أخونا عبد الرحمن كان من قيادات الطلبة بكلية الهندسة و كان يعرف ألقذافي شخصيا من أيام الدراسة الثانوية.في حديثه قال عبد الرحمان: إن من أسباب الهزيمة العربية في سنة 1967م كما قال عبد الناصر هو عدم وجود من يقول كلمة الحق و لو أدى هذا إلى قطع رأسه، عندها ضحك ألقذافي و هو جالس على المنصة خلفه و قال لعبد الرحمان: قل كلمة الحق و نحن سوف نقطع راسك..... ضحك الحاضرون و لكنني شعرت بقشعريرة فالرجل بالنسبة لي يعني ما يقول و هو لا يلعب مع الحاضرين و يدغدغ مشاعرهم، ففي هذه اللحظة العفوية تتجلى حقيقة تفكيره.
أول اعتصام بعد الانقلاب
في الأسابيع الأولى من شهر مارس 1970م طالب بعض أساتذة الجامعة الليبية خلال لقاء بالقذافي، طالبوا بتحسن رواتبهم أسوة ببقية الأساتذة العاملين في الجامعة فقال ألقذافي هؤلاء بلطجية. في اليوم التالي خرجت علينا صحيفة الجندي التي كان يديرها الملازم على الفيتورى الورفلي بعنوان "أساتذة الجامعة بلطجية" مما دعا جميع الأساتذة للاجتماع في مجمع كليات طرابلس ثم قرروا الاعتصام و التحم معهم طلاب الجامعة في طرابلس. و لا زلت أذكر منظر بعضهم جالسين خارج مسرح كلية العلوم و منهم د منصور الكيخيا من كلية الآداب و هذا حسب علمي أول اعتصام بالجامعة.
أول مظاهرة طلابية في طرابلس
مباشرة بعد الاعتصام المذكور قرر الطلاب و الأساتذة الخروج في مظاهرة في اليوم التالي و الذي صادف افتتاح معرض طرابلس الدولي و خرجت مسيرة كبيرة منطلقة من الجامعة إلى المدينة و في الطريق تم إيقافها مع الوعد بلقاء خاص لمناقشة المشكلة الخاصة بالتهجم على الجامعة من صحيفة الجندي التي كانت لسان حال ألقذافي. و في مساء نفس اليوم حضر ألقذافي و معه رفيقه جلود و تحدث كل منهما للطلبة و وعد بإغلاق صحيفة الجندي و التي استبدلت بصحيفة الفاتح. و عبر العديد من الطلبة عن مشاعرهم نحو ألقذافي و طالب البعض بمزيد من الحرية للإتحاد العام لطلبة ليبيا، و لا زلت أذكر احد الطلاب يصيح خلف ألقذافي بعد ما خرج من المسرح بكلية العلوم القديمة و هو يهتف: أستقيل يا رينقو، و هو يقصد معمر.
بالطبع لم ينس معمر هذا اليوم و بدأ في التخطيط ليوم 7 أبريل 1976 عند ما غزى جلود الجامعة مستعينا بطلاب المدارس الثانوية في طرابلس و رجال الأمن الداخلي و أطلق فيها الرصاص إيذانا بالسيطرة الأمنية علي الجامعة.
التيارات السياسية في البلد
عند حدوث الانقلاب المشئوم كان في ليبيا عدد من الحركات السياسية في طور النشوء و منهم جماعة الإخوان المسلمين و الحزب الشيوعي بعدة صبغات و حزب التحرير الإسلامي و القوميين العرب و بعض البعثيين و بعض الناصريين و العديد من المستقلين الوطنيين و جموع غفيرة ممن لا رأي لهم، فهم لا يتابعون الأحداث و لا يطلعون على الصحف و لا هم لهم إلا عيشهم اليومي.
و كان أنشطهم في كليات طرابلس الشيوعيين و حزب التحرير. و كل النشطاء السياسيين في ليبيا في تلك الفترة يمكن تقدير عددهم جميعا بما لا يزيد عن ألف ليبي على أعلى تقدير و قد جمع النظام معظم القياديين فيهم في سجن باب بن غشير خلال ما يعرف بالثورة الثقافية سنة 1973م و التي جاءت لتكميم الأفواه و القضاء على أي حس سياسي في البلد. و قد تسنى له هذا بعد اكتشافهم خلال ندوة الفكر الثوري التي كشفت توجهات العديدين منهم. و قد نتطرق في مقال آخر لمزيد من التفصيل في هذا الموضوع وصولا إلى مرحلة التغيير على مدى أربعة عقود من النضال السياسي و العسكري الليبي.
و ها نحن في هذه الأيام بعد ثورة فبراير2011 م نسقي شجرة الحرية بالدماء الزكية الطاهرة من كل المدن في الوسط و في الزاوية المجاهدة و في مصراتة الصامدة و في طرابلس الأسيرة و في الزنتان الباسلة و في كل موقع يقف عليه ليبي غيور و مخلص لبلده في الداخل و الخارج، فجميع أحرار ليبيا هدفهم تحرير البلاد و بناء دولة عصرية ديمقراطية ينعم فيها الجميع بالحرية و العدالة و المساواة. و لكن هذا سيكون صعبا في غياب تيارات سياسية واضحة و تتمتع بولاء قطاعات كبيرة من المواطنين و المواطنات، و على سبيل المثال كان لدينا انتخابات في فترة العهد الملكي و كانت الناس تبيع أصواتها لمن يدفع أكثر كما تم تزوير الانتخابات في عدة مناطق بسبب قلة الوعي السياسي و انعدام الرقابة الصحيحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق