الأحد، 22 يناير 2023

د.محمد خليفة كتب : خيانة المثقف!

 


هذه مقالة أخرى أكتبها في الذكرى الخمسين لوفاة مالك بن نبي (1905-1973)، لأن مالك استشعر الخطر في اللحظة التي أُعلن فيها (سنة 1962) أن المفاوضات التي جرت سرًا وانتهت سرًا في "إيفيان" الفرنسية قد تمخضت عن اعلان للاستفتاء على استقلال ستكتشف الأجيال اللاحقة أنه فرية. بعدها بثلاثين سنة حلت ذات الكارثة بالفلسطينيين سرًا في "أوسلو"، لتتكرر المأساة في السر مرة أخرى وعلى نطاق أوسع ثم تخرج، مع بداية الألفية الثالثة، في صيغة غامضة أسمها "صفقة القرن

".

وقبل التوغل في الموضوع لا بد من التأكيد على نقطتين؛ الأولى ذاتية والثانية موضوعية. إما الذاتية فتتعلق بكوني ممن يجهر بأن الإسلام منهج تفكير ويرى أن حصر الإسلام، أو محاولة حصره، في ركن العبادات خيانة يرتكبها المثقف المسلم ولا أحد غيره، لأن اللوم في هذه الحالة لا يمكن أن يقع على العجائز ولا المساكين الذين يعيشون على "إيمان العجائز". وبذا يكون نقدي موجه في الجملة إلى مثقف جنوب المتوسط دون تصنيف (إسلامي وغير إسلامي) لأن الخيانة التي اتحدث عنها تستغرق هذا التصنيف وتتجاوزه. والنقطة الثانية موضوعية وتتعلق بخروج السلوك السياسي عن نطاق بحث هذه الورقة، لأن تفكك الجبهة الداخلية والضغوط الخارجية لا يتركان للسياسي من سبيل ليسلكه سوى الخيانة، والسياسيون يلجون هذا السبيل واحدًا بعد الآخر، ومن المحيط إلى الخليج.

وفي السياق السالف بيانه يقع على المثقف إيجاد البديل النظري لهذا التعفن، غير أن المثقف محل نقدي إما خائن ينتظر دوره على المائدة ونصيبه من الوليمة، وإما متخاذل يلوذ بالصمت ويعيش أخلاق العبيد لعجزه عن دفع ثمن الحرية في مجتمع متخلف! بقت كلمة واحدة على سبيل التمهيد وهي أن الخيانة التي اتحدث عنها لاشعورية في الغالب، بمعنى أن الذي يرتكبها يعتقد أنه ممن يحسنون صنعًا، ولذا لا بد أن يتمحور الحديث حول إرادة الخيانة من جهة، والخيانة اللاشعورية من جهة أخرى.

أولاً. إرادة الخيانة.

يقال إن نابليون، الذي رفض مصافحة ضابط من جيش العدو ساهم بخيانته في انتصار الجيش الفرنسي، قال للخائن: تستطيع قبض ثمن خيانتك لكن أنا لا اصافح الخونة. هذا النوع من الخونة يعرف أنه خائن ويعرف ما يبرر خيانته، وهو ما يحصل عليه من ثمن لما انصرفت إليه ارادته من خيانة. ومن هؤلاء كثيرون لعل أشهرهم الجنرال اوفقير الذي قال عنه لوكوتور: ما وقف الشعب المغربي في معركة يومًا إلا ووجد أفقير في صف العدو!

والثمن الذي قبضه أوفقير في مقابل خياناته المتعددة والمتوالية هو توليه الأمن في مغرب ما بعد الاستعمار. لم يكن أوفقير عدوًا للمغاربة فقط، ولم يشتغل بتعذيبهم لحساب فرنسا وحسب، بل امتد عدوانه إلى فيتنام والفيتناميين الذين حاربهم، في بلادهم، باسم فرنسا وخدمة لمشروعها الاستعماري. وأمثال أوفقير ليسوا في كل البلدان فقط، بل هم في كل المهن والوظائف كذلك، ونسبة كبيرة من هؤلاء قائمة على خدمة مشاريع العدو في بلدانهم عن علم وبمقابل، قد يصل أحيانًا إلى رئاسة الوزراء أو رئاسة الدولة. وهذا النوع من الخونة مختلف تمامًا عن مثقف ينفذ خطط العدو ويخدم استراتيجيته وهو يعتقد أنه ممن يحسنون صنعًا.

ثانيًا. الخيانة اللاشعورية.

في التصور الإسلامي هناك عقد مبرم في الأزل بين الله وبني الإنسان: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين". خيانة هذا الأصل هو ما تتفرع عنه كل الخيانات الأخرى، والتي تبدأ باتخاذ الهوى الهً. وهذا النوع من الخيانة يسبب فسادًا في الشعور لدى المفسدين الذين "إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون." "والله يعلم المفسد من المصلح" ولذا استدرك عليهم قائلاً: "ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون"!  شهد الله إذن بأن هؤلاء يعانون من مشكلة على مستوى الشعور، حتى أنهم يعتبرون المؤمنين سفهاء، ولذا عندما دعوا إلى الإيمان قالوا: "أنؤمن كما آمن السفهاء.."! وقد بين الله حكمه فيهم عندما قال: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون".

عندما لا يكون الحكم لكتاب الله ويُتخذ الهوى إلهً، يصبح الفساد اصلاحًا والايمان رجعية ومحاربة الإسلام تقدمًا والتمسك به تخلفًا. وهذا النوع من البلبلة هو المرتع لكل أصحاب المشاريع المريبة، حتى أن بعض زعماء الثورة الجزائرية شربوا بدماء الشهداء وسكي وشمبانيا. وهذا ما شهد به بن نبي في بيانه من أجل مليون من الشهداء وأكد عليه -كل بطريقته- الرائدان لخضر بورقعة وعلي منجلي وهما من قادة المقاتلين أيام حرب التحرير.

يقول بن نبي في بيانه: "إن أيام الحداد والبؤس التي عاشها الشعب خلال الثورة كانت أسعد أيام زعمائه، أولئك الذين صرفوا دماءه في ولائمهم حيث تسكب الشمبانيا والويسكي.."! وهذا ما أكده الرائد على منجلي في لقاء، موثق مرئيًا، حيث أفاد أنه ذهب إلى القاهرة ابان الثورة، تاركًا وراءه جزائريين يأكلون العشب من الجوع واخرون يبذلون دمائهم في ميدان القتال، ليجد ثلة من القيادة في القاهرة تلتقي يوميًا لتحدد أين تقضي السهرة كل مساء. كانت بعض السهرات في المقطم وبعضها الآخر في الشاطئ الذي كان مخصصًا للملك فاروق، حيث الرقص على أنغام اوركسترا انجليزية. كما كانت الرحلات تتم إلى شاطئ الإسكندرية للترفيه على الزعماء الذين يعيشون عيشة المترفين، بينما دماء الشعب الجزائري تجري أنهارًا وذوي المجاهدين يأكلون العشب.

"ويجب أن نضيف إلى هذا -يقول بن نبي في بيانه- أنه لم تصعد من فم عالم أو مثقف جزائري أثناء هذه المأساة المحزنة صرخة استنكار لإيقاظ الشعب لواجبه". وفي ختام بيانه يلقي مالك بدعوة "إلى كل جزائري صاحب ضمير أن يبلغ الشعب هذه الشهادة حتى يكون على بينة من الأخطار التي تهدد الحقوق والحريات المقدسة التي مات من أجلها مليون من أبنائه الشهداء وليكون على بصيرة من الأطماع الحقيرة التي تزحف نحو ثمرة ثورته لتجنيها من يده"!

وبالرغم من صدور هذا البيان سنة 1962، وبالرغم من أن نسخة منه قد سلمت لبن بلة، لم يسمع به الشعب حتى سنة 1990، عندما نشر لخضر بورقعة كتابه المعنون "شاهد على اغتيال الثورة"، وكان بيان بن نبي أحد ملحقات الكتاب.

 وبعد نصف قرن من ثورة الجزائر وشهدائها يخرج الجزائريون في حراك يطالب بتنحي الطبقة السياسية كاملة، غير أن السؤال الذي لم يجب عليه المثقف هو: ما البديل؟ وهو السؤال الذي لم يطرح قبل الربيع العربي ولا أثناءه ولا بعده! وهذا لا يعني إلا أن المجتمع ليس له نخبة، أو أنها غير فاعلة، وهو ما يجعل وجودها والعدم سواء. قد يرى الزعماء أن من مصلحتهم إخفاء الحقيقة، فهل للمثقف مصلحة في ذلك إلا أن يكون متواطأً، أي خائنًا؟

في أكثر من مناسبة كان الشعب أكثر وعيًا من النخبة وشديد الانتقام من الخونة، مثلما حصل عندما قُتل السادات مثلما يقتل أي ضابط فر من ميدان المعركة: رميًا بالرصاص. ومثلما فعل الشعب المغربي بحكومة الإسلاميين عندما هوى بها إلى أسفل سافلين في أول انتخابات بعد الخيانة.

لوم السياسيين لن يجدي نفعًا، وقد يكون لوم المثقفين أكثر جدوى لأن البديل لن يأتي إلا من جهتهم وإن لم يكلفوا بذلك. وهذا ما أحاول القيام به في الذكرى الخمسين لوفاة مثقف حقيقي هو مالك بن نبي، الذي مشى وحيدًا ومات وحيدًا ممثلاً لأبي ذر  في اخلاصه للدين ووفاءه للمسلمين.. فلا نامت أعين الجبناء من المثقفين، وعلى رأسهم الاسلاميون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق