الخميس، 4 فبراير 2021

د. أحمد إبراهيم الفقيه : درس بشير السعداوي

 

 


ينتمي بشير بيك السعداوي قائد النضال السياسي من أجل الاستقلال في ليبيا الأربعينات إلى جيل من زعماء الوطن العربي الأفذاذ.

فقد كان يقود الحراك السياسي في ليبيا، عندما كان مصطفى النحاس باشا يقود الشـارع السياسي في مصر، وكان فارس الخوري وشكـري القوتلي وجميل مردم يقودونـه في سوريـا، والحبيب بورقيبـة وصالح بن يوسف يقودانه في تونس، ومحمد الخامس وقائد ثورة الريف المغربي عبدالكريم الخطابي يقودانه في المغرب، وإسماعيل المهدوي وعبدالرحمن المهدي يقودانه في السودان، وأقران لهم يقودونه في بقية أقطار الوطن العربي في مرحلة التحرر الوطني والكفاح من أجل الاستقلال.

وكان بشير السعداوي يحظى بشعبية كاسحة في منطقة طرابلس، وكان حزبه المسمى حزب المؤتمر هو القوة السياسية الضاربة في الشارع الليبي، وتكللت الجهود بصدور قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا، حيث بدأ نضال آخر من أجل إخراج الدولة الجديدة إلى النور.

وينقل عنه زميله في قيـادة الحزب السيـد السائح فلفل، الذي لاقى وجه ربه منذ أشهر قليلة مضت، أنه صارح مناضلي الحزب بالخيار الصعب الذي يجب اتخاذه في لحظة حاسمة هي لحظة بناء التوافق لإنجاز مشروع الاستقلال ووضعه موضع التنفيذ.

والخيار الذي يقصده كان بين ليبيا وبين الحزب وأطروحاته وكوادره، فقد كانت المرحلة تحتاج إلى توحيد ليبيا بالأقاليم الثلاثة التي اتخذت مسارات مختلفة أي إقليم برقة الذي كان إمارة كافأ بها الإنكليز إدريس وجماعة الجيش السنوسي، وفزان التي لا زالت تحت الوصاية الفرنسية، وطرابلس التي ترزح تحت الحماية البريطانية، وهذا التوحيد يقتضي من الحـزب أن يدعـو إلى إقامـة النظام الملكي ومناصرة إدريس السنوسي ليكون ملكا، لأن هذا مطلب أهل برقة، وهو ما يعني بالتالي وأد أطروحات الجمهورية التي يتبناها الطرابلسيون، استئنافا للجمهورية التي تأسست قبل ثلاثين عاما، وكذلك التنازل عن الوحدة الاندماجية مقابل الموافقة على الفدرالية، وثالثا التنازل عن قيادة الحراك السياسي لصالح الأمير السنوسي وسياساته، بل والقبول بالمصير المحتوم الذي يأتي مع ركاب الملكية وهو إلغاء الحزب، لأن هذه هي التوجهات التي يراها الملك وما توافق عليه مع الدول الراعية لقيام نظام ملكي.

ورغم وجود أصوات عديدة ترى أن يتمترس الحزب (حزب المؤتمر) بأفكاره وتوجهاته، ويحاول أن يـزاوج بينها وبين الأطروحات الأخرى التي يتبناها أهل الدعاوى الملكية والفدرالية، إلا أن بشير السعداوي أوضح للجميع أنه لا إمكانية للمزاوجة، وأن الانتصار لأطروحات الحزب معناها قطع الفرصة على توحيد ليبيا، لأن برقة ستبقى إمارة، وربما فزان تحذو حذوها فتنال استقلالا صوريا عن فرنسا بقيادة المجاهد أحمد سيف النصر، وتبقى طرابلس لتنال استقلالها كإقليم منفرد بإدارة بشير السعداوي ذاته وزملائه في حزب المؤتمر، ولا خيار ثالث إلا خيار التنازل عن الحزب بكل ما لديه من أطروحات وكيانات وكوادر، من أجل بناء ليبيا الموحدة بأقاليمها الثلاثة، والمستقلة تحت عرش الملك إدريس السنوسي، والمحكومة بدستور تسهم في وضعه هيئة الأمم المتحدة، قبل استفتاء الشعب الليبي عليه.

وفعلا انتصر المنطق الذي نادى به الزعيم السعداوي وأقنع به قيادات الحزب وكل أعضائه.

ثم ذهب إلى بنغازي يرفع إلى أميرها السنوسي دعوة الطرابلسيين إلى أن يكون ملكا على كامل ليبيا، وحدث ما توقعه بشير السعداوي من حل للأحزاب، وهو القرار الذي كان استهدافا لحـزب المؤتمر قبل أي كيان سياسي غيره، لأنه هو الذي كان يشكل خطـرا ومزاحمـة لسادة المشهد الجديـد، وكـان لابـد للزعيـم بشير السعداوي نفسه أن يترك المشهـد، ويغـادر البـلاد على متن طائرة حكـوميـة أقلته إلى القـاهرة منفيـا، ولـم يكـن ممكنـا للتوجهات الملكية والتربيطـات الجديدة مع القوى الدولية، أن تنسجم مع الخـط السياسي لحـزب المؤتمـر وكـوادره فتـم تحييـد هـذه الكـوادر والاستغنـاء عنها، وهو ما كان يعرفه الزعيم بشير السعداوي وتنبـأ بـه، وأبلـغ كل أعضـاء الحزب بتوقعاته، طالبا منهـم التضحية بكـل ذلك في سبيل هدف أعلى هو أن يتحقق الاستقلال، وأن تولد ليبيا ولادة طبيعيـة كاملة النمـو لا ولادة مشوهة، كما كان يمكن أن يحدث لو تشبث الحزب بأفكاره، وتخلّفت برقة وفزان عن الالتحاق بركب الوحدة.

إنه درس من الماضي القريب، ماضي ليبيا التي نالت استقلالها عام 1951، أسوقه هنا لإضاءة المشهد الحالي، فغاية الأحزاب التي ننضوي تحت لوائها، وغاية الحراك السياسي الذي ننخرط فيه نشاطا ونضالا، هو الوطن، وخير الوطن وسعادة الوطن وحريته، وهناءه وسلامه وأمنه.

فإذا تعارضت أهداف الحزب مع خير الوطن أو مـع وحدة الوطن أو حرية الوطن، وإذا تعـارض الحراك السياسي الذي نخوضـه مع الصالح الوطني العام، فأين يجب أن نقف مع الحزب أم مع الوطن؟ مع الحراك السياسي المضاد لصالح الوطن أو مع الوطن؟

هذا هو ما أتمنى من أهل زماننا هذا إدراكه، وهـو مثل يصلح أن يطرحه اليوم على أنفسهم بشر كثيـرون، ربما يأتي في أولهم كل مواطن مصري ينتمي إلى جماعة الإخـوان التي انحازت إلى نفسها وحزبها وجماعتها ضد بلادها، وأن يستشير فيه ضميره، وأن ينحاز عبره إلى أهله ووطنه ومستقبل هؤلاء الأهل وهذا الوطن.

إنه خيار الزعيم الليبي العظيم بشير بيك السعداوي الذي يصلح أن يكون مثلا وقدوة نهتدي بهما، ليس في ليبيا فقط، ولكن في كل زمان ومكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق