-1-
قُتل الطاغية وفي اختفائه راحة لهذا البلد من قسوة سنوات جبروته العجاف المعجونة بالهموم ، قُتل وفي موته راحة من كابوس صعلكة غذّاها اليأس فكانت شراً خالصاً حرمت المواطن من التأمل والعمل والإعتراف به كإنسان له القدرة على ممارسة معتقداته وافكاره ومذاهبه واحلامه، و أما انتصار الثورة فلم يعد خيالاً لا سبيل إلى تحقيقه ، بل ها هو يغدو واقعاً يسمو ببيسم الأسطورة ويخلق وعياً جماعياً مزدوجاً بالتاريخ والحرية، وعياً بدأ يدرك أنّ الديمقراطية العملية تعني اعلام جيد ومجال عمومي مفتوح، وهذا الواقع بدوره – وبعد أن استعاد المواطن استقلاله- هو القدرة على تجاوز هذه السنوات المتشحة بالتيه والعبث والقسوة وردود الأفعال الزائلة ، تجاوزاً مصيرياً للولوج في اللحظة الراهنة وللعبور من خلالها نحو مستقبل يُفضي إلى بناء دولة دستورية تقوم على المدى الأوسع من الفكر السياسي واحترام حقوق الإنسان والإختلاف المتعدد التي تُجنب الأجيال القادمة كل انواع الإستبداد وأعمال العنف السياسي وعسف السلطة.
-2-
فماذا يعني الآن أن ينتقل هذا البلد إلى المجال العيني : ما العمل؟ أو ماذا يجب عليه أن يفعل؟ بمعنى آخر كيف يتسنى له أن يناضل مدنياً عبر قنوات موسسية وسبل سلمية بعد إنتصاره الثوري على الزعيم الواحد الصنم وعلى نظامه الجماهيري الأهوج وعلى وقع الحياة الثقيل؟
بالطبع ،لا توجد حلول سحرية وجاهزة لتحقيق هذا النضال ، غير أنّ أحد أسهل الطرق لتحقيق ذلك هو الديمقراطية ،على اعتبار أنّها اداة سياسية وفكرية وليست مذهباً جامداً لا يخضع للخطأ والصواب ، والتي هي من أكثر الوسائل السياسية واقعيةً للتواصل البشري على كل الصعد ، فمن خلالها لا يبحث المواطن عن زعيم أو قائد أو أي ديكتاتور خارق للعادة، وإنّما يتطلع إلى سلطة سياسية منتخبة مقيدة بالدستور و مراقبة بالبرلمان تلتزم نهج تداول السلطة وحق الإقتراع منعاً للإستبداد والحكم الفرد، كما و يتطلع المواطن فيها إلى اتباع سبل معيارية في نواميس الحق في الرؤية المقابلة للآخر و في التراضي والإحترام والتسامح السياسي والفكري والقبول بالإختلاف من خلال خلق " مجال عام" يسترشد بآليات عقلانية تسمى في الأدبيات السياسية الحديثة بـ " نواميس التواصل" بين أشخاص وافراد ومواطنين وجماعات لهم القدرة على المحاجة والنقاش والكلام بمحض ارادتهم و بعيداً عن الأوهام والتعصب والتزاماً بمنطق العقل والتعدد في الفكر والرؤى والمصالح واحترام القوانين والإعتراف بشرعية وجود الآخر المتنوعة المظاهر .
-3-
يرتبط هذا المجال العام – اشتراطاً- بمؤسسات الدولة الإقتصادية والإدارية الحديثة ويعكس نجاحه، فيما إذا سعى المواطن إلى ابداعه و خلقه والمساهمة فيه والعمل من خلاله ، قدرةَ الإنساق الأجتماعية مثل الأحزاب السياسة ومؤسسات المجتمع المدني على التنظيم الذاتي عبر مؤساساته المدنية وعبر المناقشة العمومية في المجتمع المفتوح المستقل عن السلطة والمتقاطع معا سياسياً في ذات الوقت. فالنقاش العام المفتوح والملتزم بقواعد التواصل العقلاني في المجال العمومي هو الذي يعطي للنظام السياسي مشروعيته في ممارسة السلطة والذي يتيح للمواطنين الإندماجج الإجتماعي للمشاركة في صنع القراروالمساهمة في العملية السياسية ومن ثمة في بناء الدولة والتي تاريخياً نقيض الفوضى والإستبداد والقمع والإضطهاد .
-4-
غير أنّ لهذا التواصل العقلاني اشتراط آخر مفاده أنّ ممارسته الفعلية لا تنجح إلا بعيداً عن شتى انواع الضغوط التي تسود حالما تختفي مبادىء المواطنة وسيادة القانون ، غير ذلك سيختفي البعد السياسي ذاته وتحل بدلاً عنه هيمنة سلطوية قد تتخذ شكل الديمقراطية و لباسها المظهري على غرار الإنظمة العربية . فليس ثمة من سلطة سياسية وقانونية ودستورية من غير اجماع وتفاعل حرّ وارادي مستقل بين المواطنين ، فكل الأطراف المشاركة والمساهمة في النقاش داخل المجال العمومي المفتوح تعرض رؤيتها وافكارها ومعتقداتها واديولوجياتها ومحاجاتها من أجل التواصل العقلاني ومن ثمة التفاهم والذي هو يمثل في آخر المطاف اتفاق بين إرادات عاقلة وحرة وقادرة على الكلام للمقاربة الأفهومية بعيداً عن نزوات العداء والتسلط والإسفاف والغبن حتى يتسنى للمجتمع ان يفتح قنوات قناعات مشتركة وغير متشابهة عبر الحجج و عبر البعد النقدي العقلاني ، ومن هنا فإنّ أيّ صراعات تنشأ يتعين حلها بأساليب سلمية دون اللجوء إلى العنف أو التعسف أو حتى التلويح بهما، وربما الإقصاء والنفي المطلق .
-5-
والحديث عن التفهم ، يعني احترام المشاركين في النقاش والمحاجة بهدف خلق اجماع فكري يستند على العقل وعلى أن يكون متحرراً من من شتى انواع الإكراه والقمع والأقنعة اللفظية وشوائب الماضي والإنكار ، هذا الإجماع يسمى في الأدب السياسي بـ " الرأسمال الإجتماعي" والذي لا يوجد إلا داخل " العالم المعيش" أي المجال الإجتماعي العام من المقهى حتى الحزب السياسي. وكلما تعقدت الحياة وظهرت تناقضات اجتماعية حادة بين الناس ، كلما سعى هذا العالم المعيش إلى المزيد من التفاهم الذي يعطي للفعل البشري أبعاداً انسانية تفتح آفاق الأبداع وكلما اتسعت كذلك الثقافة والجدال والحوار وفي أعتى الأزمات وفي تجلياتها النابضة بالمكابدة تنفتح ابواب المصالحة الوطنية في تآلف مع الافكار والإنسان والبلد الآمن.
-6-
لقد كانت الحياة السياسية الليبية خلال العقود الماضية تقوم على خدعة واحدة اسمها " الديمقراطية المباشرة" التي كانت تغذي سلطة الطاغية وهي خدعة امتدت بظلالها حتى اندلاع الثورة ، وباندلاع الثورة وحتى التحرير الكامل وما بعد التحرير وهكذا استيقظ المواطن الليبي انساناً جديداً ، انساناً حقق نصر الحياة في لحظة اليأس منها . غير أنّ ثمة غضب وحزن ومعاناة وضحايا وجناة ومقابر جماعية وانتهازيين وقتلة واقتتال وكما و كان هناك بزمن ملعون غدا الإنسان فيه حزمة من الشعارات في حياة لا طعم فيها ، ثمة كم متراكم من الغبن والعسف والمشاكل والإحساس بالقمع والخوف والضيم والتي ليس ثمة لها من حل دفعة واحدة ، ولعلّ من أبرز هذه المشاكل هذا الإنقسام والإحتراب والتشظي الذي أبرع في خلقه نظام الطاغية، فكيف السبيل إلى التعامل معه، وكيف السبيل أن نتبع سنة الإختلاف بعقل مفتوح لمداواة عميق جرم الطاغية فاللغة المنطقية تتسامى في اعلى معانيها على لغة الإنتقام والثأر ؟
-7-
ثمة سبل مختلفة على أنّ أهم ابوابها هو المصالحة الوطنية الفورية والتي أصلاً تتعلق مباشرة بحياة الناس في بلد واحد وجغرافية واحدة ومستقبل واحد وهموم واحدة وإذا ما بدأ الشروع في بناء الدولة كهدف محدد رغم عدم الإعتراف بالتضارب حولها، ستكون اهدافاً واحدة جوهرها العميق كيف يمكن أن يكون المواطن الليبي انساناً يحظى بكرامته الأنسانية في القرن الواحد والعشرين وكيف يسعى لاستعادة بلدٍ أفلت من بين يديه إلى العبث والدمار والنهب والقهر لأكثر من اربعين عاماً وليتحرر من عقال اوهام الجلاد وشوائب تاريخ نسف للبرلمان والغاء دستور الإستقلال في انظمة تفكير المواطن وفي انظمة تاريخ ارثه في الإستقلال.
-8-
المصالحة الوطنية هي ملاذ العقل والفكر والتسامح ونبذ العنف والثأر وهي أنجع وأقصر الطرق لتجاوز السلوك والتصرف بذهنية الإنتقام والثأر، واليقظة بها هي الباب المشروع لفض المشكلات ولتذوق الحرية والسلم ولفتح الأفاق امام عقولنا ، وهي لحظة تستدعي الإنتماء المتساوي لهذا البلد والولاء له ، كما تستدعي حتى الصفح عن هؤلاء الذين قدّسوا " القائد" الطاغية أو كانوا من أعز المقربين اليه على ألا يكونوا قد ارتكبوا جرائم سجن أو تعذيب أو قتل في حق أي مواطن ليبي أو عاثوا فساداً في المال العام وساهموا في افقار الناس، وهذه قضايا لا ينبغي حسمها إلا عبر القانون والقنوات الد ستورية إنْ أُريد الحسم فيها عقلانياً ، فهُم مهما كان الأمر يظلوا من المواطنين ويسري عليهم مايسري على الجميع من الحقوق والواجبات ، ولذا فالمصالحة الوطنية هي الكفيلة بعلاج المسائل التي تهم هذا البلد هي مفتاح الأمن والسلامة.
-8-
لا شكّ بأنّ المرارة كافرة ، والظلم كافر ، والغضب كافر ، والسنوات العجاف كافرة ، والقتل كافر ، والسجن والتعذيب كافر ، والفقر كافر، وروع فكرة التشفي والثأر كافرة ، والمكر القاسي المريب كافر، والباطل المهزوم كافر، وسلطة الطاغية كافرة ، ولكن الحياة تستمر وعليها أن تستمر وتفتح ابواب المجالات العمومية للتواصل والتفاهم العقلاني لصيانة حق الإنسان والمواطن، فالمصالحة الوطنية الفورية سوف تجنب هذا البلد الوقوع في فخاخ آثام الإنتقام وشرور مغابن الثأر وقوة الأيام والأحداث القادمة.
-9-
على أن يصاحب هذه المصالحة ايضاً اعادة الإعتبار المعنوي والمادي لكل من ظُلم أو عُذب أو سُجن على الصعيد الفردي أو الأسري، بل وإعادة الإعتبار إلى هذا البلد برمته ، أما خيار إعادة الإعتبار للناس قاطبة فإنّه يتطلب إرادة عاقلة وقدرة فاهمة ورغبة عادلة وحكمة رزينة في تحرير هذا البلد من ثقل اعباء السنوات العجاف وإعادة بنائه في اطار المؤسسات الدستورية والقانون وعلى أساس التعددية السياسية والفكرية واحترام حقوق الإنسان حسب منظومة القيم السائدة في المجتمع وحسب ارثه التاريخي فيما قبل الأنقلاب العسكريء المشؤوم.
المصالحة الوطنية هي ملتقى الطرق ، هي دواء الأوطان المهمومة ، فوطن يتعلق بلغة الأنتقام والثأر سينكسر، وفي المصالحة نجاته من الكسر، ومن الذلة ومن اليأس ، والكره إذا انطلق له العنان يصعب قياده، والغلو فيه يؤدي إلى الصدع والكدر والإنتقام ، وأمر المصالحة ، على الإجمال هو الولاء للوطن والمضي إلى عصر صفحته بيضاء لهذا البلد الذي سئم طيش المستبدين.
محمد محمود دربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق