يقول الذين استقرؤوا التاريخ، وخبروا حوادث الزمن إنه لا يوجد شرٌ محض!. وهذا المقولة صحيحة، فأياً كان مقدار الشر الذي تستقبحه النفوس السوية، وتنفر منه القلوب الطاهرة السليمة، لا بد من حصول خير معه، عرفه من عرفه، وجهله من جهله.
وجرائم الإرهابي القذافي عبر أربعة عقود من التآمر والقمع بلغت ذروتها بعد اندلاع ثورة 17 فبراير المجيدة، وكان من ضمن هذه الجرائم محاولاته المتكررة لنشر الفتنة بيننا، وإثارة النزعات القبلية بطريقة سافرة غبية حتى لكأن كلاماته انقلبت في أسماعنا إلى فحيح أفعى تتأهب لقذف سمومها، بل كانت تقذفها!
لكن أبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يجعل تدبيره تدميره، ويقلب سحره عليه، ويأتي مع شره خيرٌ عظيم، وإذا بالأخوة بين الليبيين تنال القدح المعلى، وتتألق تألقا نادرا ما تخيلناه قط، وإذا بدماء ثوارنا الأبطال تختلط ببعضها البعض، فهذه دماء أبطال الزنتان تختلط بدماء أبطال جبل نفوسة، ودماء أبطال بنغازي واجدابيا تختلط بدماء أبطال مصراتة والزاوية، وهكذا كان الحال في بقية مدننا الأبية.
يسارع ثوار بنغازي إلى عون ثوار مصراتة، وثوار مصراتة يهبون لعون ثوار زليتن وطرابلس، ويتجسد التعاون الأخوي في أوضح صوره بين ثوار مدننا الحبيبة كلها فيوجه هذا التعاون النادر صفعة قوية مؤلة إلى وجه الجرذافي القبيح.
تلاشت في خضم ثورتنا المباركة ضد أبشع استعمار عرفته بلادنا الفوارق القبلية، وتلاشت كذلك الفوارق العرقية، فالثوار الأمازيغ يرون الثوار العرب إخوة لهم، وإخوانهم العرب يبادلونهم الشعور ذاته، وثوار المناطق الشرقية كبنغازي واجدابيا يشاركون إخوانهم من ثوار الغرب كطرابلس ومصراتة الأحساسيس نفسها، ودقات قلوب هؤلاء تجاوبها دقات قلوب أولئك، والجميع يرون أنفسهم ثوارا ليبيين يقارعون أبشع استعمار حل ببلادنا، وقديما قالوا:
الطيور على أشكالها تقع!
فهل نستطيع الحفاظ على هذا التلاحم المتين، ونتشبت بهذه الأخوة المباركة أياً كانت التضحيات؟ مظاهر هذه الأخوة الرائعة لم تتجسد بين ليبيي الداخل فحسب، بل رأيناها بين ليبيي الخارج كذلك، فلله الحمد من قبل ومن بعد.
لقد أصبحنا محل إعجاب العالم ولله الفضل والمنة بهذه الثورة العظيمة التي حطمت عرش أحد أسوأ الطغاة في التاريخ، أفلا نستطيع الحفاظ على سلامتها من التصدعات الداخلية، والدعوات القبلية، والأطماع الشخصية؟
علينا أن نعض على هذه اللحمة بالنواجذ، وأن ندوس على نزعات الهوى التي ترنو إلى خلاف ذلك بلا رحمة أو شفقة.
هذه الأخوة المباركة هي هدية كبيرة قدمها لنا المفسد الأكبر القذافي، فلنتعاون جميعا على تقويتها ورعايتها مثلما نحرص على رعاية أطفالنا الرضع، وندافع عنها مثلما ندافع عنهم إذا هددهم خطر ما. ومن أهم ما يجب أن يستقر في قلوبنا في هذه الحقبة، وترضى به نفوسنا هو مسألة العفو عن الناس. ولست هاهنا أعني أولئك الذين قتلوا، أو الذين انتهكوا الأعراض، وسرقوا الأموال، فلا بد لهؤلاء من أن يقدموا للعدالة لتأخذ مجراها، حتى لا تتحول الحياة في بلادنا إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، ويختلط فيها الحابل بالنابل، أما ما دون ذلك من اللمم فلنضرب عليه صفحا، ولنغض عليه الطرف، ولنا في محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحا القدوة المثلى.
لنضع في الاعتبار الحجم الهائل للتجهيل وغسيل المخ الذين مارسهما الإرهابي القذافي على شعبنا حتى جعل الباطل حقا، والمظلوم ظالما في عقول الكثيرين من السذج.
علينا في حقبة البناء هذه أن نقدم الأكفاء على غيرهم ولو كان هؤلاء الغير من أولي القربى، فضلا على أن تجمعنا بهم رابطة القبيلة ، وأن نرى في تقديم غير الكفوء في أي موقع كان بسبب رابطة الدم أو القبيلة، أو الانتماء الحزبي، أو الصداقة خيانة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وخيانة للوطن.
الإرهابي القذافي مختبئ في جحره كجرذ حقير يعتصره الرعب والهوان، يعد الساعات والدقائق ليرى تفجر الصراعات بيننا كما يصور له خياله السقيم، وينتظر الشماتة فينا كما تسول له نفسه المريضة، فهل نعجز على أن نثبت له، بالرغم من قرب نهايته، أنه واهم، وأن اتحادنا سيظل صخرة تتحطم عليها مؤامرات الحاقدين، ومكائد الطامعين، وأوهاوم الواهمين؟
تأبى الرَّماح إذا اجتمعن تكسرا***وإذا افترقن تكسرت آحادًا
اللهم احفظ ثورتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وابرم لبلادنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُعمل فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
سالم بن عمار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق