السبت، 23 يوليو 2011

سالم ناجي : في ضيافة قلم الوطن : الدكتور عبدالوهاب الزنتاني .


أبدأ بالقول أن مجتمع بدون ثقافة ومثقفين هو مجتمع مشوه يعيش فقط ليأكل وينمو وينهي دورة حياته البيولوجية ليبدأها من جديد ،،وفي ذلك قول توفيق الحكيم : إن المكان الذي لا يوجد فيه إطلاع ولا تعرف فيه القراءة ، ولا يسمح فيه بالتفكير ، لابد أن يكون هو الجحيم .
والحمد لله ليبيا ليست كذلك ففيها من الأعمدة الثقافية والأدبية والإنتاج الثقافي ما لا يوجد بغيرها ،  فهناك هامات فكرية عالية التميز من مثل هامات : عمر التومي الشيباني ، وخليفة التليسي ، وعلى اخشيم ، وعمرو النامي ، وإبراهيم الكوني ، وعلى المصراتي ، والصادق النيهوم ، والكثير جدا من الأقلام الرائعة التي أبحرت في عالم الفكر والمعرفة ووهبت زمن كثير من حياتها لتكتب ولتترك للأجيال القادمة رصيد ثقافي مميز وأدب ليبي رائع يرسخ إلى أن هذا الشعب شعب خلاّق ومبتكر ومبادر وواعي .
كما أن هناك كذلك بعض الأعمدة الثقافية والأدبية العظيمة التي لم تنل في نظري حظها الكافي من الظهور الإعلامي وتسليط الأضواء عليها  بالقدر الذي يتناسب وحجم هذه الشخصيات ، ومنهم شخصية المثقف والأديب والمؤرخ  والسياسي الوطني الغيور الدكتور الفاضل عبدالوهاب الزنتاني وقد يكون ذلك التغييب الإعلامي جزء بسيط دفعه أديبنا ومؤرخنا الفاضل من ثمن مواقفه الوطنية النبيلة والمستقلة والنهج الذي اختطه لنفسه من عفة النفس والعلو بها عن الوقوف في طابور المدّاحين وأدباء ومفكّري السلطان وممارسي تجارة الفكر والأدب . وأيضاً كجزء من العزلة التي فرضها على نفسه معتكفا في محراب الأدب والثقافة بعيدا عن الأضواء بمدينته النائية بالزنتان .
 وهو في الحقيقة مدرسة وتاريخ وشعلة متقدة من الوطنية والكبرياء والشموخ ، يتكئ على رصيد فكري وثقافي رصين ومتنوع جاوز الثلاثة وأربعون كتابا ومؤلفا  جمع فيها بين التطرق للمواضيع الفكرية والأدبية والسياسية والتاريخية والترجمة ، وكذلك سيل من المقالات الصحفية في كثير من الصحف المرموقة والمواقع الالكترونية . إضافة إلى العديد من المشاركات الهامة في المحافل الفكرية والأدبية .
وهو أكاديمي متخصص ، وثوري ومناضل عريق تربطه علاقات شخصية كثيرة بمعظم الرموز النضالية  المعروفة داخل الوطن العربي وخارجه ، وكذلك سياسي ودبلوماسي سابق لليبيا في عواصم عالمية وعربية مهمة وله علاقات متشعبة كذلك مع العديد من الرموز السياسية المرموقة داخل الوطن العربي وخارجه ، وهو روائي ومؤلف مسرحي منعت بعض رواياته من النشر في ليبيا  ، وهو مؤرخ ليبي بهره التاريخ الليبي الحديث في فترة الاستعمار الايطالي فوهب جزء كثير وشاق من حياته في السنوات الأخيرة للتأليف في مجال التاريخ والرد على بعض المغالطات التاريخية التي مارسها بعض أدعياء كتابة التاريخ والمتطفلين عليها .
 وبالنظر إلى الظروف الاستثنائية التي يمر بها وطننا العربي الكبير كافة في زمن ربيع الثورات العربية التي أمتدت كالنار في الهشيم ، وانتقلت من بلد لآخر لتؤكد بأن أمتنا أمة واحدة تتداعى لبعضها البعض وتستتنسخ من بعضها البعض العنفوان ومشاعر الثورة والنصر . فأنني على الصعيد الشخصي وقد يشاركني الكثيرون في ذلك في أمّس الحاجة إلى أن نستمع إلى عقل وصوت هولاء المفكرين وكيف ينظرون إلى هذا الحراك التاريخي وماهي انطباعاتهم وتصوراتهم وانشغالاتهم حوله .
ولم أكذب خبرا حين تحصلت على رقم هاتف الدكتور عبدالوهاب الزنتاني فاتصلت به على الفور باحثا عن ترتيب موعد للقاءه فهو إضافة إلى كونه مفكرا مبدعا فهو رجل دولة بالمعنى الصحيح ويحمل تجربة غنية وثرية في رحاب السياسة والدبلوماسية وقدرة فائقة على تحليل وقائع وأحداث الساحة السياسية العالمية والمحلية ، وسيكون للقاء معه نكهة وبريق خاص ، فاتصلت به ورتبنا موعدا للقاء رغم انشغاله الدائم والمستمر بالقراءة والكتابة ومجالسة الأسفار والكتب ، وقد شفعت لي في ذلك علاقة شخصية ربطتني به  تبقى دائما علاقة التلميذ بأستاذه .
ولأنني انقطعت عن رؤيته مدة ليست بالقصيرة  فقد لاحظت على الفور تغير بعض ملامحه وبدت واضحة على شخصه بصمات الزيارة الثقيلة لمعالم التقدم في السن  وهو يسير بشكل متثاقل عن ذي قبل مع أنه  لا يزال يحتفظ بروح خفاقة وعنفوان داخلي يحسد عليه ، ودخلنا إلى بيته وقابلتني فيه الكتب مرصوصة في كل مكان وكأنها تحاصره وتفرض عليه عزلته الدائمة بعيدا عن الناس ، وبدأنا الحديث ولا أدعي أنني أجريت لقاءاً  صحفيا معه أو ما شابه ولكنه مجرد لقاء أردت منه أن أستمع لهذا العقل وهو يحلل ويستنتج ويستنطق الأحداث والوقائع ويربطها بوقائع التاريخ المشابهة ويقول رأيه حولها ،  وترحم في بداية الحديث على أرواح الشهداء وأشاد بتضحيات الثوار في كل الجبهات ، ثم انطلق بي الى العالم البعيد وزار في حديثه عواصم صنع القرار العالمي وكيف ينظر العالم الى التطورات في المنطقة العربية وما هي هذه المنطقة بالنسبة لهم ، وتوقف عند محطة تونس التي أهداها مؤخرا كتابا ألفه بعنوان تآزر الشعبين الليبي والتونسي على مدار التاريخ ، واستشفيت من كلامه أن جزء من هذه الثورة هو بحث عن الهوية والعمق التاريخي فتونس لن تكون رهنا للفرانكفونية وإنما هي دولة عربية مسلمة لها دور حضاري وتاريخي وإشعاع فكري وثقافي عربي الملامح والجذور ، ثم توقف عند محطة مصر التي أعرف مسبقا أنه يتنفسها كما يتنفسها المصريون أو أكثر وتربطه بها علاقات وجدانية ودائما ماكان يبرز اعترافه الدائم بجميل مصر على العرب عامة وعلى الليبيين بشكل خاص فقد كانت أول من بادر إلى المساعدة عندما بدأت ليبيا في التشكل كدولة مستقلة حيث كانت تبعث مصر بالطبيب والمهندس والمعلم وغيرهم وتقدم كل الدعم للشعوب العربية وحينها كانت مصر قلب العروبة وأرض الكنانة وقبلة العرب ، وعسى هذه الثورة أن تعيد مصر إلى ممارسة دورها التاريخي كأم للعرب تنشغل بقضاياهم وتبادر إلى قيادتهم نحو الغد الأفضل .
 ولم أتبين صراحة من كلامه أي فصل للثورات العربية عن بعضها البعض بل لا يميل في كلامه حتى إلى تسمية الثورة التونسية أو الثورة المصرية أو الليبية  أو اليمنية بل يعتبر أن ما يحصل هو ثورة عربية واحدة لها محطات متعددة وانتفاضة عظيمة تحركت لها وانشغلت وتفاجأت بها كل العواصم العالمية وأجهزة المخابرات فيها وشدت إليها انتباه العالم بأسره ، وهي انتفاضة لها  أسبابها الظاهرة من تخلف في التنمية انعكس في صورة بطالة وتهميش واستشراء للفساد وسيادة مناخ من الخوف والقمع ومنع الحريات  ، وأسباب باطنة لا يراها الكثيرون أهمها شعور المواطن العربي بالهزيمة والتخلف عن ركب الأمم السائرة في درب التنمية والتقدم وعلى الأخص بعض الأمم المجاورة لنا والتي يربطها بالعرب تاريخ وتعايش مشترك مثل تركيا وإيران وكذلك بعض الأمم التي بدأت معنا مسيرة التنمية وتقدمت هي بينما تخلفنا نحن مثل كوريا والهند وماليزيا ، وشعور المواطن العربي بخذلان رؤسائه وقادته له فقد قدم العرب لحكامهم كل شئ بينما لم يقدموا هم لهم في المقابل أي شئ عدا التجزئة والهزيمة والقمع وضياع الصف العربي بين متشدد ومفرط . وبالتالي فإن هذا الحراك فرضته المرحلة والظروف المحيطة والصبر الطويل الذي عاناه المواطن العربي خلال مدى زمني تجاوز الأربعون سنة غير أن الصبر العربي له حدود في النهاية .
كما لاحظت خلال حديثه أنه لم يشخصن ولم يتوقف عند الأسماء أو الشخصيات بقدر ما توقف كثيرا عند الأحداث والمنعطفات والوقائع التي شهدتها الساحة العربية والعالمية فقد كان يقفز متعمدا في تحليلي على الأشخاص والأسماء بينما كان يتوقف عند المحطات والأحداث ويفسرها ويلاحظ كيف تطورت وإلى ماذا أدت من نتائج وذلك في نظري ضرب من النبوغ ، فقد بهرني في حالة مشابهة أديب تونسي عندما قال لي مبررا الثورة العربية الكبرى  " خرج من ليبيا أكثر من مليوني عامل أجنبي تقاطروا من كل أصقاع الأرض وفي الخليج هناك مثلين منهم أو أكثر ونحن في مصر وتونس ودول عربية أخرى نعاني الأمرين بحثا عن فرص العمل الشريف ، فلماذا هذا الوضع البائس ولماذا هي الثورات إن تكن على مثل هذه الأوضاع . فقد أختصر الوضع وحلل الحديث بدون أن يسترسل في خطبة طويلة تبرر الثورة .
وعندما فرضت مسألة تعامل القوى العالمية وعلى الأخص أمريكا والأوربيون مع الثورات العربية وبشكل محدد في الحالة الليبية نفسها على الحديث ، لخص إلى أن الغرب في نهاية المطاف ليس جمعية خيرية وهو ينطلق من لغة المصالح التي هي لغة السياسة وتلك المصالح يجب أن نحددها نحن ويجب أن نرسم خطوطها الحمراء نحن انطلاقا من مصلحتنا الوطنية كذلك فقد تتقاطع وتتلاقى كثير من المصالح معهم عند نقاط معينة بينما قد تتضارب في نقاط أخرى ويبقى استقلال الرأي السياسي الوطني وعدم ارتهانه بيد الغير مسألة مقدسة ، وأن المواطن العربي يحمل أرث تاريخي وتجربة استعمارية مريرة تجعل من عملية التدخل الأجنبي عنده عملية حساسة ومعقدة استنادا إلى ذلك الإرث وتلك التجارب .
وفي سانحة من الحديث أفهمني بطريقة غير مباشرة أنه لا يعاني من عقدة الجيل وأن الجيل الحالي له خصوصياته وأساليبه وطموحاته وأحلامه ، وقد ولى الزمن الذي كانت فيه المخابرات ترصد تحركات المخططين للثورة والعاملين على تفجيرها  وأن تضع المخبر تلو المخبر لمراقبة الأشخاص والأماكن فقد أصبح اللقاء بينهم يتم في فضاء افتراضي وبأسماء رمزية ويتناقشون ويتفاهمون على التحرك والتوقف والمناورة باتجاه الثورة  بعشرات بل بمئات الآلاف دون أن يجتمعوا أو أن يكونوا تحت أعين ويد المخبرين وأجهزة المخابرات .
وبالتالي فإن هذا الجيل يعمل بروح وخصوصية جديدة مختلفة تماما عن الجيل السابق ، ويجب علينا أن نحترم هذه الروح والخصوصية وأن  لا نتدخل لمصادرة رأيه أو في  تشكيل طموحاته وأحلامه ، فالشباب هم من يصنع هذه الثورة وقدموا أنفسهم فداء لها وهم في مقتبل وحلاوة العمر وريعانه ، وعلى الجميع إفساح المجال لهم ليسمعوا صوتهم ويقولوا كلمتهم .
وما شدني أكثر في شخصية الدكتور عبد الوهاب هو الاحترافية العالية في التحليل المستقل والعادل للأحداث وتفسيرها بعيدا عن التشبث بالآراء ووجهات النظر الشخصية والبناء عليها ، وتلك خاصية جميلة ورائعة يعرفها معشر المحاسبون والمراجعون بخاصية الحياد العادل ويتوقف عندها معشر القضاة كذلك عندما يقفون على مسافة عادلة بين الجاني والمجني عليه ويكونون عقيدتهم الجنائية بحيادية وتجرد ، ويقف عندها كذلك معشر الأطباء عندما يمسكون مشرط الجراحة للتعامل مع كل المرضى بذات القدر من النزاهة والحيادية  .
وختم أديبنا ومفكرنا الفاضل اللقاء في نهايته بتفاؤل وأمل مؤكداً  أن الأمم والدول العظيمة والمتقدمة لا تبنى بين يوم وليلة ولكن تحتاج إلى زمن و صبر وعدم استسراع للنتائج ، فنحن الآن في مرحلة المخاض العسير وولادة الثورة وستليها لاحقاً مرحلة الانتقال من الثورة إلى الدولة وبناؤها وهو جهد ليس بالهين ويحتاج الى تضافر كل الجهود ومن الجميع دون استثناء وإقصاء وستتحقق التنمية حتما في أحسن حالاتها عند وجود مناخ من الحرية تسمح بالمبادرات والابتكارات والعمل الوطني المستقل ، و سيتحقق بالإرادة الوطنية الصادقة النقية حلم بناء وطن فيه مكان للجميع .



هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم بداية واحي الدكتور علي المقال الطيب ولكني لاحظت في الاونة الاخيرة انتشر اللقب الدال علي المناطق التي فيها تمركز للثوار-فهل ياتري لو انك مثلا مواطن من صرمان او الخمس او زلة هل ستقولي اللقب؟ لاادري ولكني لاحظت هذه الظاهرة الغير لائقة بنظري فارجواترجعوا الي الاسم كامل فقط و لاداعي للزنتاني والمصراتي و الرجباني ووو

    ردحذف